عندما تجلب لنا الصدفة ما نرغب به ونتمناه

عندما تجلب لنا الصدفة ما نرغب به ونتمناه

رضا الأعرجي

             الحياة ساحرةٌ من نواحٍ عديدة، وبجمالها واتساعها، قد تُفاجئنا بأحداثٍ غير متوقعة. في هذه الحالة، أشير إلى لقاءٍ، سواء أكان رومانسياً أو غير رومانسي، مع شخصٍ آخر، لقاءٌ غير مُخططٍ له ولا يُنسى. شيءٌ غالباً ما يبدو وكأنه ينشأ صدفة، ولكنه في الواقع إجابةٌ لأعمق رغباتنا. وعندما تُقرّبنا الحياة من شخصٍ يُطابق توقعاتنا، في ظروفٍ مُصادفة، نتحدث عن “التزامن”.

في هذه اللحظة، نتذكر ذلك “الغريب” الذي أبهرنا يوماً بكلماته وإيماءاته وأفعاله التي كانت بالغة الأهمية بالنسبة لنا. وكأن الحياة تُخاطبنا من خلاله. أتحدث هنا عن ذلك اللقاء الذي قد يفهمه الكثيرون على أنه لقاء “لم يُكتب له النجاح”، لكنه بالنسبة لنا تُرجم إلى شيء لا يُنسى وذي قوة لا تُضاهى، شيء نحمله كنزاً في داخلنا، لبقية حياتنا.

تم تطوير مفهوم “التزامن” من قبل عالم النفس كارل غوستاف يونغ لتحديد الأحداث التي لا ترتبط بعلاقة سببية، بمعنى أنه لا يهم إذا كان هناك تسلسل عقلاني لها، ولكن بالأحرى من خلال علاقة المعنى، أي أن ما هو أساسي هو ما تعنيه لنا طوال حياتنا.

ولكي أصف بشكل أفضل مدى ضخامة هذا الشعور الطاغي، القادر على حبس أنفاسنا بشكل غير متوقع، سأتحدث عن فيلمين ساحرين يجسدان المفهوم تماماً: “جسور مقاطعة ماديسون”The Bridges of Madison County) و”قبل شروق الشمس” Before Sunrise وكلاهما صدر عام 1995.

الفيلمان مميزان للغاية ويستحقان اهتمامنا…

باختصار، يروي فيلم “جسور مقاطعة ماديسون” قصة حب بين فرانشيسكا جونسون (ميريل ستريب) ربة منزل تعيش في مزرعة بريف ولاية أيوا، وروبرت كينكايد (كلينت إيستوود) مصور ناشيونال جيوغرافيك من واشنطن، الذي كان يبحث عن الجسور المغلقة، وعندما وصل إلى ماديسون، يطلب من فرانشيسكا بعض المعلومات.

في فيلم “قبل شروق الشمس” نشهد لقاءً بين الشاب الأمريكي جيسي (إيثان هوك) والفتاة الفرنسية سيلين (جولي ديلبي). يحدث اللقاء صدفة على متن قطار، ويقرران النزول في فيينا لقضاء بضع ساعات في الحديث والتعرف على بعضهما البعض قبل أن يستقل كل واحد منهما قطاره عائداً إلى وجهته.

الفيلمان جميلان، رقيقان، حساسان، وقد أخرجا بإتقان، وكلاهما مستوحى من أحداث حقيقية. أحداث غير مُخطط لها، تركت أثراً عميقاً في النفوس لدرجة أنها رسخت في الذاكرة واستحقت أن تُعرض على الشاشة. حدثت هذه اللقاءات الآسرة، في كلا الحبكتين، كما لو كانت من تدبير الأقدار.

فيلم “جسور مقاطعة ماديسون” مقتبس من رواية روبرت جيمس والر، أما فيلم “قبل شروق الشمس” فقد صُوّر استناداً إلى لقاء حقيقي بين مخرجه ريتشارد لينكليتر وشابة تُدعى آمي ليرهوبت عام ١٩٨٩. التقى الاثنان في متجر ألعاب في فيلادلفيا عندما كان في التاسعة والعشرين من عمره وهي في الحادية والعشرين، وقررا قضاء ليلة معاً، تماماً مثل الثنائي في الفيلم.

الأيام، بل الساعات، كافيةٌ جداً لتتحول تجربةٌ ما إلى شيءٍ ذي معنى وقيمةٍ تدوم لسنواتٍ طويلة. مدةُ الحدث لا تُترجم إلى مدة بقائهما معاً. الإعجابُ أو الحبُّ الذي ينشأ عن لقاءٍ صدفةٍ وينمو في وقتٍ قصيرٍ قد يدومُ مدى الحياة، وهذا يعتمدُ فقط على أهميةِ ذلك اللقاءِ.

في “جسور مقاطعة ماديسون”، منح الترابط الرومانسي فرانشيسكا القوة والتشجيع لتكريس نفسها بالكامل لرعاية أطفالها وزوجها حتى وفاتها. ومع ذلك، لا يمكننا تجاهل رغبتها الدائمة في الاتحاد بالمصور روبرت، وهي أمنية عبرت عنها في وصيتها بنثر رمادها مع رماده في أساسات جسر روزمان.

في فيلم “قبل شروق الشمس”، روى المخرج أنه أخبر آمي، الشابة التي ألهمته خلال حديث طويل، أنه سيُنتج فيلماً عن لقائهما. وفي مقابلة، أقرّ لينكليتر بأنه كان يأمل مع العرض الأول للفيلم أن يرى آمي مجدداً، وهو أمر لم يتحقق، إذ قبل أشهر من بدء تصوير “قبل شروق الشمس”، تعرضت آمي لحادث دراجة نارية وهي في الخامسة والعشرين من عمرها، وتوفيت.

إن الأحداث المليئة بـ “التزامن” تحمل في طياتها شعوراً بالدهشة والشوق المقنع للمزيد، ولكنها لا تحتاج إلى ذلك “المزيد” للتعبير الكامل عن معناها.

في “جسور مقاطعة ماديسون”، احتاجت فرانشيسكا إلى من يُسمع ويُفهم. أرادت رجلاً حساساً، بينما احتاج روبرت إلى الحب. أما في “قبل شروق الشمس”، فقد احتاجت الشخصيتان جيسي وسيلين إلى هذا اللقاء المليء بالاكتشافات والمعاني.

الآن، أو في مرحلة ما، قد نتذكر لقاءً فريداً وساحراً مررنا به في حياتنا، أو نتساءل متى سيحدث. وفقاً ليونغ، لا يحدث هذا اللقاء إلا عندما تكون أرواحنا مستعدة له، عندما تكون مستعدة لإدراكه وتجربته بالكامل. هذا اللقاء، الذي يبدو عفوياً، ليس سوى نداء لا واع من كياننا بأكمله، من مشاعرنا، وأحاسيسنا للتجربة المنشودة. ومع ذلك، قد لا يحدث أبداً إذا لم تكن ذاتنا الداخلية مستعدة.

في الطبيعة، ثمة قصة العناية بالحدائق لجذب الفراشات. إنها قصة ذات مغزى كبير. فالفراشات تُفتَن بالحدائق المنظمة الأصيلة، ولكن لا تقترب منها إلا عندما تشعر أن في دواخلنا شوقاً عميقاً إليها.

شارك هذا الموضوع

رضا الأعرجي

صحفي وكاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!