عندما ينقلب “الحياد الأكسيولرجي” إلى سلسلة ثنائيات شاردة!

د. محمد الشرقاوي
أرسل إلي صديق رابط برنامج حواري لأستاذ جامعي يتمسك بفكرة “الحياد الأكسيولوجي” أو، بعبارة تبسيطية، مراعاة عدم إسقاط أحكام ذاتية من خلال التمييز بين الحقائق الموضوعية (ما يتم ملاحظته أو استنتاجه) والقيم الذاتية (الآراء أو المعتقدات الشخصية). فكانت مشاهدة الحوار مناسبة أيضا للتعرف ليس على مستوى الخريجين الجدد في الجامعة المغربية، بل على مستوى ما بلغت إليه “الأستاذية” والإشراف على الأطروحات في المغرب عند اكتمال الربع الأول من القرن الجديد.
تابعتُ بتمعّن ما يعتدُ به المتحدث في ردّه على أسئلة ناعمة ودّية في أغلبها، وكأن السائل يبسط الأرضية لكي يصبّ ضيفُه ما في جعبته من تفسيرات وتبريرات جديدة. لكن هذه التبريرات الجديدة كشفت مجموعة مغالطات عارضة وإسقاطات جارفة أتناولها بروح النقد الفكري مع كامل الاحترام الشخصي للسائل والمجيب:
أولا، هناك مسافة في الاجتهاد والألمعية الفكرية ليصبح من يتولى تدريس أو يعتبر نفسه “أستاذ علم اجتماع” “عَالِمَ اجتماع”، على غرار أن أي “أستاذ فلسفة” لا يعتد بنفسه “فيلسوفا”. ليس من الإنصاف العلمي أن يهرول أستاذ الجامعة إلى مكانة اعتبارية ذاتية الوصف “عالم” في علم الاجتماع، وقد أظهرت الجامعة المغربية في العقود الثلاثة الأخيرة أن نسبة ليست قليلة من أساتذة الجامعة ليسوا باحثين ولا منتجي معرفة، بل يتحولون بحكم التقادم في المنصب إلى “تقنيي تدريس“technicien d’enseignment. وبالتالي، لقب “عالم اجتماع” يتأتى من قيمة الأبحاث والدراسات المحكمة المنشورة، وطبيعة المفاهيم أو النظريات أو الأنساق الفكرية التي يبتكرها من يستحق اللقب وفق تقدير الآخرين، وليس الذات المتضخمة.
ثانيا، عندما يستغرب المتحدث من القول الذي يعتبر علم الاجتماع “تأسس لمناصرة المضطهدين”، فهو لا يتمعن في حقيقة أن هذا العلم هو الذي مهد الطريق للتمييز بين ما يصنع التاريخ: دعوة الفرد أو الفردانية Human agency للتغيير مقابل البنية Structureأو البنيوية التي تتمسك بالحفاظ على الوضع القائم. ولم تنته حقبة الإقطاع أو الفيودالية، أو حقبة الاستعمار، أو حقبة التمييز العنصري في عدة دول خاصة الولايات المتحدة وجنوب أفريقيا إلا نتيجة السجال، وأحيانا الصراع المجتمعي المحتدم، بين الفردانية والبنيوية. وبين نهاية القرن العشرين وبداية القرن الجديد، يكبر دور الحركات الاجتماعية في التغيير السياسي.
والأكثر من هذا، يمكن اختزال علم الاجتماع السياسي في دراسة البنيات والمؤسسات ومراكز القوة التي تواجه التحدي وتتعثر في إبقاء سيطرتها من أعلى إلى أسفل. وهو أيضا عدسة التدقيق في حركية التاريخ الذي يميل أكثر فأكثر نحو موازنة بنية الأعلى إلى الاسفل ببنية التغيير من الأسفل إلى الأعلى.
ثالثا، يقول المتحدث إن علم الاجتماع “دخل المغرب من الباب الخاطئ” لارتباطه بـ”الشعور الوطني” وأن المغاربة “لم يقيموا السوسيولوجيا الكولونيالية بهدوء وموضوعية”. وهذا إسقاط لا يقبله كثيرون من قبيل محمد جسوس وعبد لكبير الخطيبي وبول باسكون وفاطمة المرنيسي وغيرهم. تحرك علم الاجتماع المغربي عقب الاستقلال في أجواء محتدمة سياسيا بين المخزن واليسار، فوُضعت استراتيجيات عديدة لاحتلال الفضاء الجامعي. وتحولت التنافسات السياسية نحو علم الاجتماع في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مما أدى إلى إغلاق معهد علم الاجتماع بالرباط عام 1970، والذي أصبح مركزًا ورمزًا للتفكير النقدي بين طلاب الجامعات والأكاديميين، واعتبرته الدولة نقديًا ويساريًا للغاية. ينبغي أن يتذكر المتحدث أن ثمة علاقة عضوية بين علم الاجتماع المعاصر مغربيا وإقليميا ودوليا والطرح النقدي في بعديه التقييمي والتقويمي، وبالتالي دخل المغرب من باب الوعي التاريخي والتحول المجتمعي المناسب.
رابعا، يمثل المغاربة المنادون بإنهاء المأساة الإنسانية المفتوحة في قطاع غزة جزءا من كتلة بشرية تقدر بمئات الملايين عبر العالم ممن يعارضون سياسة القوة والتقتيل والتدمير. وجميع هؤلاء المنددين بسياسة نتنياهو ومن يؤيده في غطرسته داخل المغرب وخارجه لا يمكن تصنيفهم، كما يود المتحدث بفئة “مع” وفئة “ضد”. ليست الصورة بهذا التبسيط واختزال ألوان الوجود في مجرد لونين: الأسود أو الأبيض. كلا، أيها المتحدث الذي لا يسأل نفسه عن مدى ارتباط القيم والأخلاق وكل سردية “الحياد الأكسيولوجي” بقيمة الإنسانية، وقيمة الخير، وقيمة التطور الإيجابي.
خامسا، يبدو أن المتحدث يتشبع بفكرة الثنائيات إلى حد العبث وتجاهل التركيبة المتعددة بشأن ما يجمع ذهن المرء لفهم الواقع. ومن هذا االعبث المنهجي أن يختزل المتحدث الفوارق الحقيقية والمتخيلة في الأذهان حسب قاعدة “مقدس” مقابل “مدنّس”. هذه ثنائية تغرف في التعسف الذي لا يستند إلى تصور معرفي عميق. وترتفع وتيرة العبث المنهجي لديه عندما يعتبر الصراع الفلسطيني الإسرائيلي مجرد ” قضية دينية”، بل يضيع منه خيط النسج العقلاني عندما يلوح بفكرة أن قضية فلسطين كانت في وقت من الأوقات “وطنية”، و”قومية”، وأن المرحلة الراهنة تنطوي على “أسلمة” فلسطين و”تديين” القدس. هذه مراوغة ذكية لكنها مكشوفة في انتقائية “الديني” في آخر المطاف، لكي ينبني الجسر نحو فكرة الاتفاقات الإبراهيمية.
سادسا، أطلق المتحدث العنان لخياله بالقول إنّ “الإسلام غرب وليس شرقا”، بل حتى الخيال راح يبحث عن خيال أكثر غرابة عندما قال “القرآن هو خاتمةLa conclusion التوراة والإنجيل. هل تأكد المتحدث مباشرة من الله تعالى أنه كان يحرر الكتب السماوية في ثلاثة أعداد أو مجلدات بانتظار من سينشرها في الأرض.
تعودتُ على قراءة بعض الكتابات لباحثين في التاريخ التحريفي Revisionist History، وهو مدرسة منهجية نقدية في علم التاريخ، ولكن لم أترقب يوما أن يتحدث من يقول إنه يحترم ضوابط البحث العلمي أن هناك “تاريخ الديانات التحريفية“!
سابعا، تلويح المتحدث بفكرة أن “الدولة المغربية لها نظرة كبيرة” وأنها “لا تفكر مثل الفرد”، بل هي “تفكر في مستوى حضاري معين”. هذه فرضية تقوم على قطيعة متخيلة بين الدولة كمركز قرار وهيئات المجتمع المدني بما فيه البرلمان والأحزاب والجمعيات ومراكز الأبحاث والجامعات وبقية ديناميات المجال العام بمفهوم هابرماس. ولا يبدو أن من يعتبرون أنفسهم “رجال الدولة” يقبلون هذا الانفصام عن مجتمع المغاربة وطموحات المغاربة وقلق المغاربة. هذه محاولة يائسة أخرى للترويج لفكرة أن بعض القرارات وبعض السياسات الخارجية “ينبغي أن تكون حكرا” على الدولة بالمفهوم السياسي الضيق. لقد حاول بعض المستفيدين من التطبيع مع إسرائيل نشر هذه الفرضية منذ ديمسبر 2020، وتطورت الأحداث وكشف نتنياهو نفسه حقيقة تفكيره إزاء العواصم العربية بما فيها عواصم التطبيع.
ثامنا، تزداد أعطيات الغرابة اللامحدودة في تبريرات المتحدث إلى حد اعتقاده أن اليسار المغربي “يتصرف بالمبدأ الديني والتمييز بين المقدس والمدنس”. هوّن عليك يادون كيشوت… ليس كل ما يستهويك ينقبل إلى تصنيف اعتباطي لديك وخلط ما لا يجتمع في حضرة التقديس الديني والنقد اليساري.
وإذا تواضع قليلا من تعسف تلك الثنائيات الجامحة قد ينتبه إلى أن أولئك اليساريين في الرباط أو الدار البيضاء أو في الخارج فيهم الإنسانيون، والمصرّون على رصانة المبادئ والقيم، والأوفياء لقناعتهم بحق الوجود للجميع، وليسوا بالضرورة خارجين للتو من صلاة الجمعة. علازة على ذلك، ليس كل اليساريين ماركسيين، وليس كل الماركسيين يساريين حتى لا يلوح ب”المادية التاريخية”: فكرة قد تخفف من إدمان هذا المتحدث على فرضية الثنائيات الشاردة.
تاسعا، أفهم ارتفاع مستوى الحس الوطني، وحتى الأنفة القومية، عند المتحدث ونحن في ذروة هندسة “تمغربيت” كهوية جديدة. ويحق له أن يسقط على مناجاته الوطنية الكثير من الخيال السخي. لكنه يأتي بما لا يأتي به الشعراء بقوله: ” المغرب يغيّر العالم” بفعل خطة حكومة أخنوش تخصيب الهيدروجين الأخضر بميزانية 30 مليار يورو. يمكن أن يدافع عن أهمية هذا الاستثمار بالمقارنة مع دول أخرى، لكن خيال المتحدث يهدم ما يزعم أنه “إنتاج المعرفة، و”تطوير الموضوعية، بل وينقلب على دفاعه الأول عن “الحياد الأكسيولوجي.”!
هي جولة طويلة بين عدة محطات حاول المتحدث أن يركّب عبرها اجتهادا جديدا لفكرة الاتفاقات الإبراهيمية، وحاول توظيف عدد من مقولات علم الاجتماع وتاريخ الأديان وتاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لعل وعسى أن تبسط له “نسقا” متكاملا. لكن، كلما قدم اجتهادا في محطة ما في مسار أفكاره، انكشف ضعف حجة المحطة السابقة. وعند نهاية الطريق، يكون المتحدث قد نال من نفسه بنفسه دون حاجة لتقريض ناقد.