عن المسرح في المؤسسة الاحتفالية

عن المسرح في المؤسسة الاحتفالية

د. عبد الكريم برشيد

                 فاتحة الكلام

       وهذا المسرح الذي نحيا فيه وبه، ماذا يمكن أن يكون سوى إنه إبداع جماعي

مركب ومرتب ترتيبا جميلا وممتعا ومقنعا؟

هكذا هو المسرح، أو لا يمكن أن يكون، وحيثما يكون الإنسان المفكر والمبدع يحضر هذا الإبداع، في صيغة من صيغه المتعددة والمتتوعة، وفي أية درجة من درجاته الفكرية والجمالية، وهو بهذا فيض الأرواح الحية، وهو فيض الحس الجميل، وهو فيض الخيال الخلاق، وهو لغة المراحل التاريخية العبقرية، والأصل في هذا المسرح المفرد أنه مسارح متعددة، وأنه تيارات واتجاهات، وأنه تجارب ومدارس، وأنه حركات وحساسيات، وهو موجود في المسرح البناية، وموجود في بنية الكتابة الدرامية، وقبل هذا وذاك، فهو موجود في كل مكان، أي في المدرسة وفي الجامعة وفي المعمل وفي الحقل وفي الساحة وفي السوق، بل وفي الشارع أيضا، وذلك من خلال ما أصبح يسمى مسرح الشارع، ولعل الخيط الناظم، لكل هذه المسارح المتعددة والمتعددة والمتجددة، هو العشق والهوى، أي عشق المسرح، والذي يمكن أن يكون له وجود في النفوس والأرواح، وذلك باعتبار أنه حالة وجدانية، وله وجود أيضا في العيون العاشقة للأضواء والظلال، وله وجود في العقول المؤمنة أساسا بالتعدد وبالتنوع، وله وجود في الأجساد الإنسانية الباحثة عن التلاقي، وذلك في فضاء الاحتفال وفي مناخ العيد، وفي طقوسه الشعبية، ولقد تأسس هذا المسرح عشقا للحوار، ومحبة في المشاركة والاقتسام، وبحثاً عن الآخر المختلف، وبحثاً عن الزمان العيدي، ولذلك فقد كان هذا المسرح عشق عاشقين، وكان هوى نفوس وارواح إنسانية تهوى التلاقي، وذلك في المكان العام، وفي الساعة المشتركة والمقتسمة، وهذا ما يفسر ان يكون أصدق ما في هذا المسرح هو مسرح الهواة، وكان أكثر المجدين والمجتهدين فيه هم هواة هذا المسرح، اي ذلك المسرح، القائم اساسا على على التطوع وعلى المشاركة وعلى الاقتسام، والذي هو داىما، في مبناه ومعناه، مدرسة شعبية مفتوحة على الحباة، وهو جامعة شعبية، وهو برلمان المفكرين والمبدعين والحالمين بالتغيير أيضا، وفي المغرب ولد المسرح في المدرسة، وكانت تجربة ثانوية مولاي إدريس بمدينة فاس تجربة رائدة، كما أن الذين أسسوا (مسرح) سلطان الطلبة كانوا أيضا من الجامعيين في جامعة القرويين، هذه الحقيقة البسيطة هي التي قفز عليها المسرحيون المغاربة في العقدين الماضيين، وهرولوا جميعهم نحو شيء يسمى المسرح الاحترافي، وتناسوا أن هذا المسرح الاحترافي يحتاج إلى جمهور متذوق للمسرح وعاشق للمسرح، وله أيضا ثقافة مسرحية حقيقية، ولعل أخطر ما في هذين المسرحين؛ المدرسي والجامعي، هو أنه أساسا علم وفكر، وأنه فن وصناعة، وأنه مشتل لتربية الذوق المسرحي، وأنه الفضاء الذي نكتسب فيه التربية المسرحية السليمة، فنتعلم كيف نرى، وكيف نسمع، وكيف نتكلم، وكيف نلتقي، وكيف نفكر بصوت مرتفع، وكيف نقرا المسرحية وكيف نتلقاها، وكيف نتحاور بشكل خضاري، وكيف يمكن ان نكون مقنعين ومقتنعين، وكيف نتفاعل مع الإبداعات المسرحية المقدمة لنا، وكيف نفهمها، وكيف نحللها ونفككها، وكيف نعيد تركيبها، ولهذا فقد كان لهذا المسرح العالم أسماء كثيرة ومتنوعة، فهو الدرس المسرحي أولا، وهو المسرح في الجامعة ثانيا، وهو المسرح الجامعي ثانيا، وإذا كانت المدارس المسرحية توجد الممثلين والمخرجين والتقنيين أولا، فإن الأساس في المدارس والجامعات وفرق مسرح الهواة، هو أنها تؤسس قاعدة هذا المسرح الأساسية، والتي يمثلها جمهور مسرحي واع ومثقف وعاشق للحياة وللجمال وللحق والحقيقة ولكل القيم الإنسانية الجميلة والنبيلة، ومسرح لا وجود فيه لمن لا يهوى المسرح، فإنه لا يمكن ان يكون مسرحا موجودا إلا وجودها سكابا وخاطئا ومزيفا.

                         المسرح مدرسة والمدرسة مسرح

والمدرسة أساسا مؤسسة، وكذلك هو المسرح، وهو مؤسسة لصناعة الإنسان، جسدا وروحا، ونفسا وعقلا وذوقا جماليا أيضا، وأصدق كل المسارح هو المسرح الحر، واصدق كل المسرحيين هو المسرحي الحر والمسرحي المستقل، والذي ليس له في الإبداع رئيس أو مدير أو سيد ومولى.

ولما كان المسرح أساسا حرية، فإن هذه الحرية تتجلى بشكل أوضح في المسرح الهاوي، المدرسي والجامعي، حيث المسرحي فيه ليس موظفا في إدارة، وليس أجيرا في مقاولة، وهو غير مقيد بالشباك، ولا بما يمكن أن يريده وأن يطلبه وأن يفرضه هذا الجمهور أو ذاك، وبهذا فقد كان  هذا المسرح مدرسة للحرية وللتحرر ولتحريض الجمهور على ممارسة التفكير الحر

ففي المدرسة والجامعة يولد السؤال المسرحي، وفيهما أيضا تولد المسألة المسرحية، ويولد الفكر المسرحي، ويولد العلم المسرحي، ويولد الفقه المسرحي، ويولد النقد المسرحي، وعليه، فقد كان ضروريا أن يتم الاهتمام بالنشاط المسرحي في المدرسة والجامعة، وأن لا نفرط في مهرجانات المسرح المدسي والجامعي، والتي أوجدت مناخا علميا وفكريا في المسرح المغربي والعربي، والتي فتحت أبواب الاجتهاد على مصراعيه، وذلك باعتبار أن هذا الفعل المسرحي لا يمكن أن يكون إلا فعلا تجريبيا، وأن يقوم على البحث والاجتهاد، وأن يكون فعلا حرا ومتحررا، وأن يكون جديدا ومتجددا بشكل دائم.         

وفي هذا المسرح المغربي اليوم، يصر كثير من مسرحيينا على التقليد وعلى ممارسة الترجمة الخائنة، وعلى اقتراف الاقتباس والاختلاس، وعلى ارتكاب مسرقيات بدل إنتاج مسرحيات حقيقية، شكلا ومضمونا، ولغة ومنهجا، ومع ذلك، نصر على أن ننسب كل هذا إلى جسد المسرح المغربي الغائب والمغيب، والأصل في المسرح أنه لا يتوافق مع التقليد ومع الاستنساخ ومع التكرار والاجترار ومع الاقتباس والاختلاس، والمدرسة والجامعة مجالان مفتوحان لطرح السؤال الجديد، ولطرح القضايا الوجودية والاجتماعية والسياسية الحقيقية.

ويعرف الجميع أن المسرح أساسا هو الغنى.. أي غنى النفوس وغنى العقول وغنى الأرواح، وذلك قبل الغنى المادي، ويخطئ كل من يظن أن الدعم المالي، سواء من هذه الجهة أو من تلك، يمكن أن يعوض الغنى الداخلي، وإذا كانت نفوس المسرحيين اليوم بائسة وخالية وخاوية، فإنها لا يمكن أن تعطي أي شيء له قيمته الفكرية والجمالية والأخلاقية، وطبيعي أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطي أي شيء.. وإن بؤس المسرح المغربي والعربي اليوم، هو بالتأكيد مظهر من مظاهر بؤس كثير من المسرحيين.. أو هو مظهر من مظاهر البؤس الثقافي المغربي والعربي، وبؤس الواقع السياسي بشكل عام..

والمسرح أيضا هو التلاقي، وهو الحوار، وهو التعدد، وهو الاختلاف الذي لا يفسد للود قضية، وقد اعتمدت وزارة الثقافة المغربية ـ في طبعاتها السابقة، غير المأسوف على رحيلها، وحتى في الطبعة الجديدة التي لا جديد فيها ـ على (فلسفة) فرق تسد، فقربت وأبعدت، وأعطت وسلبت، وكرمت وعاقبت، وجندت جيشا من التابعين ومن تابعي التابعين ومن الهتافين المحترفين ومن شهود الزور، وأطلقت إشاعة أن العام زين، وأن كل شيء على ما يرام، واليوم يظهر، وبشكل واضح وفاضح، أن ذلك المسرح المكذوب عليه يعيش وضعا كارثيا خطيرا، وأن الأمر يحتاج إلى سياسة إنقاذ حقيقية، إنقاذ ما يمكن إنقاذه.. نفس الشيء يمكن ان نقوله عن كل المسرح العربي، والذي هو اليوم مسرح مهرجانات او هو مسرح بهرجانات، وليس مسرح حياة ولا مسرح حبوبدية الحياة الواقعية واليومية .     

                     مسرح بلا حرية هو مسرح بلا هوية

إن هذا المسرح إذن، هو مؤسسة شعبية، ومن مهام هذه المؤسسة أنها تعلم، وأنها تربي، وأنها تهذب، وأنها تطهر (الكثارسيس) وأنه لذلك ينبغي أن تساهم اليوم ـ كما ساهمت بالأمس ـ في صناعة الإنسان الجديد في هذا المغرب الجديد، وفي هذا الوطن العربي الجديد، وأن تحقق له شيئا من الأمن الثقافي، وأن تحمي هويته، وأن تصون وجوده، وأن تجدد لغته، وأن تظهر ثقافته وقيمه الحضارية التي هي عنوانه في هذا الوجود، وأن تربطه ـ في المقابل ـ بزمنه وبعصره وبمحيطه الذي هو جزء أساسي وحيوي منه، وحتى تلعب الثقافة المسرحية المغربية دورها الحقيقي، فإن على الدولة أن يكون لها سياسة ثقافية واضحة، وأن تدرك بأنه ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان، وأن التنمية الاقتصادية بدون تنمية العقل والنفس والروح والوجدان لا معنى لها، وهذا هو الدور الذي قام به المسرح في الحضارات الإنسانية عبر التاريخ، وأن تدرك بأن المستقبل موجود في كل المجتمعات بين حدين اثنين هما: حد البيت وحد المدرسة، والباقي كله تفاصيل، وماذا يمكن ان يكون هذا المسرح هو انه بيتنا الجماعيه وانه مدرستنا الجماعية والاجتماعية والجامعية؟

وبخصوص طبيعة مؤسسة المسرح، يقول (البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي) في الفقرة الثامنة والثلاثون ما يلي:

ننا نرفض أن يكون المسرح ـ وهو وجدان الشعب وضميره وصوته ـ مجرد مؤسسة إعلامية تقوم على أساس نشر فكر الدولة او مبادئ الحزب الحاكم أو المعارض، ذلك لأن المسرح ليس وسيلة إعلامية.. وسيلة يمكن ان ان توظف كما توظف الصحافة والإذاعة والتلفزة).

وتنتشر اليوم في جل بلدان العالم العربي مؤسسات مسرحية تابعة للدولة، لها محرك خارج ذاتها ــ هذا طبعا اذا كانت لها ذات رمزية حقيقية، وهي تتبع لجهاز اداري يديره مدير، وهذا المدير بديره وزير .. وهو مدير لا يكتب ولا يخرج ولا يمثل، وقد لا تكون له أية صلة بالمسرح وبعالم المسرح ولا بهموم واهتمامات المسرحيبن، والتي هي نفس الناس عشاق المسرح في الحياة والحياة في المسرح.

وفي الفقرة التاسعة والثلاثون من نفس هذا البيان، والذي صدر منذ ما يقارب نصف قرن، يمكن أن نقرا ما يلي:

(كما نرفض أيضا أن يكون المسرح مؤسسة تجارية أو صناعية، أي أن يكون قائما بالأساس على المال والعمل والاستهلاك والإنتاج والسوق والإشهار، الشيء الذي يمكن أن يجعل المبدع تابعا ايضا، لأنه يتحول إلى عامل في موسسة صناعية، عامل ينتج، لا بحسب ما تمليه قضايا الواقع، ولكن استجابة لمتطلبات السوق، ولو كان في ذلك خدمة تكرس الذوق الفاسد).

والمسرح الذي راهن عليه الاحتفالي، ليس تبعية تابعين، وليس وظيفة موظفين، ولا هو خدمة أجراء يقدمون عملا بمقابل، ولكنه (التعبير الإنساني الحر للمواطن المدني الحر في المجتمع الديمقراطي الحر).

وبحثاً عن مسرح شعبي حقيقي، يكون بعيدا عن المسرح الإداري، ويكون بعيدا عن المسرح التجاري، يقول نفس (البيان الأول لجماعة المسرح الاحتفالي) في فقرته الواحدة والأربعين ما يلي، بأن مفهوم الشعبية فى المسرح الاحتفالي لا علاقة له بـ ( ذلك المسرح الذي يستهلكه الشعب، ولكنه ذلك (المسرح) الذي يساهم في إنتاجه و إبداعه، والذي تكون وسائل الإنتاج في ملكه وبين بديه، فتمليك المؤسسة للشعب هو وحده الكفيل بخلق مسرح شعبي حقيقي).

والمؤسسة الاحتفالية في المسرح هي شجرة المسرح وهي روح المسرح وهي مستقبل المسرح، وهي حياة وحيوية هذا تلمسرح، وهي بذلك (لا ترتبط بجهاز بيروقراطي ولا بجهة مالية، وإنما هي ملتحمة مباشرة بالناس وبقضاياهم وتصوراتهم وبفكرهم وواقعهم، وحتى تضمن هذه المؤسسة حريتها واستقلاليتها، وتتجنب السقط في الشعارات والإضحاك المجاني، فلابد لها مما يلي:

ــ أن تتلقى سنويا منحة من الدولة، وذلك على اعتبار أن الدولة هي القيمة على أموال الشعب. هذا الشعب الذي له حق التعليم المجاني والصحة والتعبير والمسرح، وهذه المنح يجب ألا تخضع لأي شرط كيفما كان، باستثناء أن يعبر المسرح عن قضايا الشعب وعن طموحاته وأعماله وعبقريته).

وكل هذا من أجل أن لا يسقط هذا المسرح (في التهريج أو الهتاف، لأنه ساعتها لن يكون مجبرا على ما يكره، أي أن يكتفي باسترضاء الإدارة أو الشباك، الشيء الذي كان يسقطه في مسايرة الذوق الكائن والفكر السائد، مما (قد) يجعله يستعيد دوره الحقيقي في خلق ذوق مستقبلي حقيقي).

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!