عن الهوس الكروي وسراب الواقع
عبد الرحمان الغندور
وسط هذا الهوس الكروي الجارف، وأمام الترقب الصعب لما سيجري على أرضية الملاعب، واستحضاراً للأزمات القاسية التي يكابدها المغاربة في حياتهم اليومية، أكتبُ بوعيٍ متألمٍ لهذه الجموع التي تحمل في صدورها طاقةً لا تنضب، وآمالاً لم تجد بعدُ طريقها إلى النور. أتوجه إليهم ونحن نعيش هذه اللحظة الغامرة من الصخب، حيث نرى الجموع تتدفق كالأنهار نحو المدرجات، وتصبح ألوان القمصان هي الهوية الوحيدة التي نعترف بها، وكيف يتحول “كأس إفريقيا” من مجرد تظاهرة رياضية إلى غيمة كثيفة تحجب عنا واقعنا المرير. إننا نغني، ونهتف، ونحبس أنفاسنا مع كل ركلة، وكأن حياتنا، ومستقبلنا، ومصيرنا؛ كلها معلقة بتلك الدائرة الجلدية فوق العشب الأخضر.
لكن، اسمحوا لي أن أكون الصوت الذي يخرج عن هذا الإجماع الصاخب؛ لا لإفساد فرحتكم، بل لأنني أخشى عليكم من لحظة السقوط. إن صفارة النهاية قادمة لا محالة، وعندها ستنطفئ الشاشات، وستخفت الأهازيج، وسنقف وجهاً لوجه أمام الحقيقة التي حاولنا الهروب منها. سيعود الصمت الثقيل ليذكرنا بأن رغيف الخبز بات بعيد المنال، وأن الدواء أصبح عزيزاً، وأن الكرامة التي ننشدها في الملاعب لا تُبنى بانتصارات كروية عابرة بينما واقعنا يغرق في التهميش، والفساد، والغلاء.
علينا أن نسائل أنفسنا: لماذا يُراد لنا أن نغرق في هذا السبات الجماعي؟ هل هذا الفرح الجامح هو تعويض عن حرماننا الدائم؟ هل أصبح الملعب هو “الملاذ الوحيد” بعدما أُغلقت في وجوهنا أبواب الشغل، والتعليم، والمشاركة السياسية الحقيقية؟ إن المنظومة التي تحكمنا تبارك هذا الذهول؛ فهي تريدنا أن نصرف غضبنا وطاقتنا في المدرجات، ضمن مسارات آمنة لا تهدد مصالحها ولا تقلق راحة أصحاب الامتيازات. إنهم يخافون من وعينا؛ يخافون أن ندرك أن اللعبة الحقيقية ليست على العشب، بل في مكاتب الفساد، وفي صفقاتٍ تُباع فيها أحلام الأغلبية لصالح القلة.
إن خروجي عن الإجماع اليوم هو “الجنون المطلوب”، إنه التنبيه قبل الاصطدام بالهاوية. نحن لا نريد قتل الفرح، بل نريد تحويله إلى وقود للتغيير الحقيقي. نريد أن نفهم أن قوتنا ليست في حناجر تبحُّ في تشجيع فريق، بل في أصوات موحدة تطالب بالحقوق والعدالة والكرامة. إن اللعبة الحقيقية التي يجب أن نتقن قواعدها هي معركة الوجود، ومعركة انتزاع الحق في حياة كريمة فوق هذه الأرض.
لقد تحملنا هزائم كثيرة في “ملعب الحياة”، وحان الوقت لنتوقف عن كوننا مجرد متفرجين في مدرجات الانتظار. يجب ألا تنتهي مهمتنا بانتهاء المباريات، سواء في حالة الربح أو الخسران، بل علينا أن نجعل من يقظتنا -بعد إسدال الستار عن هذا الموسم الكروي- بداية لعمل وطني واعٍ؛ يطالب بتغيير قواعد اللعبة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية من جذورها. فالمستقبل لا يُصنع بالأهداف في المرمى، بل بالإرادة التي تفرض التغيير على أرض الواقع.
