عن زياد الرَّحْباني.. ساخرٌ حدَّ السِّكِّين ونَحْنُ فِي دهْشَة

عن زياد الرَّحْباني.. ساخرٌ حدَّ السِّكِّين ونَحْنُ فِي دهْشَة

فاطمة حوحو

منذ أشهر قليلة شاهدت زياد الرحباني منحني الظهر يعبر الشارع المؤدي إلى مستشفى الجامعة الأميركية، أو ربما إلى الاستوديو الصغير الذي كان يعمل فيه، أو إلى منزله القريب. صرخت زياد ولم أصدق هل وصلت حالته المرضية إلى هنا.. زياد لا ينحي، لا يمكن أن ينحني، هو الفريد في عالمنا، هوية انتمينا إليها يوما ما، صدى صوتنا، سواء أيدناه أو اختلفنا معه، كنا بقربه أو ابتعدنا عنه، هو حاضر فينا بقفشاته، برؤيته، بموسيقاه.. أخذ الفقراء إلى عالمه، عالم الفن الراقي، وجعل من اللحن والأغنية والموسيقى والكلمة من أولاد الشعب المسكين.

تعرّفت إلى زياد الرحباني خلال سنوات الحرب الأهلية اللبنانية. نحن من الجيل الذي  كبر في ظل أصوات القصف والانقسام، وسط هذا الظلام، كان هناك ضوء شكّل وعينا، وجعلنا نحلم بلبنان مختلف. بحقيقة تكوّنت لدينا ولم تأتِ من كتب التاريخ، كما في المسرحيات الرحبانية وأغاني فيروز الوطنية، ومن كل تلك الأغاني التي شكّلت لنا وطناً من الخيال.

بل من حقيقة مختلفة عبرت إلينا من زياد الذي لم يكن فقط فنانًا نسمعه، بل كان شريكًا في تكوين وجداننا. كان يضحكنا ونحن نبكي، ويسخر من واقعنا وهو يغنّي له.. وكان يمنحنا، ولو لساعة، وطناً من العدالة والسخرية الذكية والحقيقة المجروحة.

كنت طالبة في المرحلة الثانوية. أسمع أغانيه في مسرحية “نزل السرور”، و”سهرية” كانت تصيبني بصدمة لذيذة. وتضحكني من القلب، لا سيما ذلك المقطع الذي يحكي عن الرجل الارمني الذي يأخذ معه صابونة إلى تظاهرة ليتحمم مع توقع رش “البوليس” المتظاهرين بالماء المفقود في المنازل، وفي “نزل السرور”، كنا – رفيقاتي وأنا- نضحك من القلب ونقول لبعضنا خلوا الصابونة في الحقيبة المدرسية، لربما ننجح في أخذ “دوش” في التظاهرة، ونجد حلا لمشكلة انقطاع المياه.. كنا نضحك، لأن هذا الواقع الذي صوره زياد كان واقعنا نحن، وكان مأسوياً وملموساً جداً. 

زياد جعلنا نضحك على وجعنا. علّمنا أن السخرية سلاح، وأن الفن أداة للتمرد. كنا نحفظ مقاطع مسرحياته ونتبادلها، لأنها تشبهنا وتشبه يومياتنا. أغانيه كانت خارجة عن السائد، مختلفة عن الأغاني الكلاسيكية الملمّعة التي تتكرر بلا روح.. حتى أغاني الحب وتعبيراته كانت مختلفة، خلت من “الآه”، وكانت عبثية هي الأخرى، عبثية لأنها تشبه الواقع. ولم تكن تشبه كلمات وألحان الرحابنة التقليدية التي اعتدنا سماعها من قبل.

زياد أتى بنغمة أخرى. بأغانٍ فيها تشديد، فيها اعتراض، فيها جرأة، فيها غضب. لا تعتمد على الحنين فقط، بل تطرح أسئلة وتستفزك، وتبقى في بالك. لم تكن تريحك.. بل تخلخل ما بداخلك. ومع كل سؤال، كنت تشعر بأنك أنت أيضاً متمرد.. بأنك لست وحدك.

“بالنسبة لبكرا شو”؟ .. السؤال الذي انتهى

المحطة التي تركت فيّ الأثر الأعمق كانت مسرحية “بالنسبة لبكرا شو؟”. حضرتها أول مرة عام 1978، ولم أكتفِ بمرة واحدة، بل عدتُ لمشاهدتها ثلاث أو أربع مرات. فيها السؤال الكبير الذي لا يزال مطروحًا حتى اليوم: “شو ممكن يعملوا اللبنانيين؟

هذا السؤال العالق في القلب والعقل، صرخ به زياد على المسرح، في وقت كان الجميع يصمت أو يتهرّب.

جوزيف صقر… الصوت الذي لا يفارقنا

في تلك المسرحية، لم يستخدم زياد أسماء كبيرة، ولا ممثلين نجوم من الصف الأول، اختار وجوهاً كنا نراها في شارعنا ولا نتوقع أن نراها في عمل مسرحي. شخصيات بسيطة، تشبه الناس، تشبهنا. باستثناء طبعًا جوزيف صقر، ذاك الصوت الذي صار جزءًا من وجداننا. المغني الشهير الذي لم يعمل مع أحد سوى زياد، وكان شريكًا له في الوجع والموقف واللحن. صوته في أغنية “الحالة تعباني يا ليلى”، وفي أعمال أخرى، كان صدى لما نشعر به، لما نعيشه، وكان يكفينا أن يبدأ بالغناء لنشعر أن في هذا البلد من يفهمنا.

“فيلم أميركي طويل”: عندما واجه زياد الطائفية بالسخرية

لا يمكن الحديث عن تلك المرحلة من مسرح زياد من دون التوقف عند “فيلم أميركي طويل”. المسرحية التي قالت كل شيء بلا تجميل، والتي شكلت نقلة درامية وفكرية وصوتية أيضاً.

فمن بين كل مسرحيات زياد، تبقى “فيلم أميركي طويل” واحدة من أكثرها تأثيرًا وأهمية. ليس فقط لأنها تناولت الحرب، بل لأنها تجرأت على أكثر ما كان مسكوتًا عنه: الخوف الطائفي.

زياد لم يقدّم موضوع الطائفية كخلفية للصراع فقط، بل جعله في صلب الحدث، في قلب الحوار، وفي نَفَس الشخصيات. تناول لغة الانقسام، والخوف غير المعلن، وسخر منهما ببراعة.

اللبنانيون، رغم أنهم عاشوا سويًا، كجيران وأصدقاء وأقرباء، كانوا يحملون داخلهم قلقًا دفينًا من الآخر، و”فيلم أميركي طويل” عرّت هذا القلق. المسرحية لم تعالجه فقط، بل فضحته.

كنا من جيل حفظ مقاطعها كاملة، حفظوا تعبيراتها، واستعملوها لاحقًا في حياتهم اليومية. مصطلحات زياد دخلت القاموس الشعبي. كنا نردّدها في الشارع وفي الجلسات، لا كمجرد نكتة، بل كوسيلة لفهم الواقع.

في المسرحية، كان هناك “المحمودات” تسمية ساخرة للتعبير عن الخوف من الآخر، عن الإسلام، عن الاختلاف. زياد لم يكن يهاجم أحدًا، بل كان يُعرّي العقلية اللبنانية التي غُلّفت بالخوف وسوء الفهم. الحرب مزّقت الصورة، وهو حاول أن يعيد تركيبها بنقد حاد، مؤلم، لكنه حقيقي.

من أكثر الجمل التي رسخت في الأذهان:

ماشي، ماشي، خَيّ… بس مش وقتا!”

عبارة تكررت على لسان أحد الشخصيات، تعبيرًا عن العجز اللبناني المزمن عن المواجهة، وعن التأجيل المتواصل لكل استحقاق.

والمشهد الذي يُعدّ من الأيقونات، حين تسأل شخصية مسيحية عن جارتها المسلمة:

شو عرفني شو بيآمنوا؟ أنا بعرف إنو اسمها أم محمود!”

ثم يتكرر ذكر “المحمودات” كرمز لخوف غير مبرر، مختلط بالجهل والجهوزية للشك والانسحاب.

في مكان آخر، يسخر زياد من الخطاب السياسي والإعلامي قائلاً:

ما بقا فينا نصدق أخباركن… خلّصونا!”

هذه المسرحية لم تكن للضحك فقط، بل كانت دعوة للانكشاف. أعادت تعريف الخوف، وحدّدت بدقة كيف ينمو وينخر داخل المجتمع. وكان ذلك بجرأة نادرة، في زمنٍ كان فيه مجرد الحديث عن الطائفية محرّمًا.

“فيلم أميركي طويل” لم تكن مسرحية عادية. كان تشريحًا حيًا للوجدان اللبناني، لحقيقته كما هي، بلا تجميل، بلا رومانسية.

أنا مش كافر”: تمرد طبقة كاملة في أغنية

لم تكن أغنية “أنا مش كافر” مجرد عمل فني يصدح به صوت جوزيف صقر، بل كانت محطة أساسية في الذاكرة السياسية والاجتماعية لجيل كامل. كانت تلك الأغنية، بكل كلماتها وألمها، تُردد في سهرات اليساريين واجتماعاتهم كأنها نشيد، بيان، أو حتى صرخة جماعية.

أنا مش كافر… بس الجوع كافر

أنا مش كافر… بس الفقر كافر

أنا مش كافر… بس الذل كافر

انا شو بعملك اذا اجتمعوا في كل الإشيا الكافرين”…

كل جملة فيها كانت تختصر وجع طبقة كاملة، وصراعها مع النظام والظلم والتفاوت. ولهذا اعتبرها اليسار اللبناني جزءًا من هويته. تبنّوها كما يُتبنّى الشعار، وغنّوها كما يُتلى بيان سياسي، لأنهم رأوا فيها صوتهم، وأدركوا أن زياد كتبها من مكان حقيقي، من وجع يشبه وجعهم.

زياد، الذي كان دومًا قريبًا من الطبقة العاملة والمهمّشين، استطاع أن يُعبّر عنهم، أن يصفهم، أن ينقل صورتهم كما هي – بلا تلميع ولا استجداء. “أنا مش كافر” لم تكن فقط تعبيرًا عن انتماء طبقي، بل كانت أيضًا إعلان رفض، ومواجهة ناعمة ضد كل ما يُذلّ الإنسان.

كانت أغنيةً.. نعم، لكنها أيضًا وثيقة اجتماعية. محطة مهمة جدًا في مسيرة زياد، وفي وجدان كل من شعر يومًا بأن الكفر لا يأتي من الفكر، بل من الجوع والحرمان.

مقاعد “شي أندريه”… عزف البيانو والاقتراب من الحلم

في تلك المرحلة من العمر، كنا طلابًا في الجامعة، في أول الطريق. لا نملك الكثير من المال، لكن نملك فضولًا وولهًا كافيًا لأن نذهب إلى شارع الحمرا، فقط لنجلس في “شي أندريه”.

لم نكن نطلب أكثر من زجاجة بيرة، بالكاد نتحمّل كلفتها، لكن الغاية كانت أوضح من أي قائمة طعام: أن نرى زياد.

كان زياد يجلس هناك، على الطاولة مع أصدقائه، متواريًا خلف دخان السجائر وأحاديث بيروت المسائية. لكن وجوده وحده كان يمنحنا إحساسًا بأننا أقرب للفن، أقرب للمسرح، أقرب لتلك القضايا التي كان يعبّر عنها نيابةً عنا.

لكن المتعة الحقيقية لاحقا في الثمانينيات – وربما الصدمة الأجمل – كانت في أوتيل “كافاليه”، أيضًا في الحمرا. كان زياد يعزف هناك على البيانو، وكنت أنا وبعض الأصدقاء نذهب لحضور سهراته. لم يكن البيانو جزءًا من عالمنا اليومي، ولم نكن من بيئة موسيقية، ولم نسمع العزف الحيّ فقط تسجيلات لعازفين عالميين. لكن أن ترى شخصًا من لحم ودم، يعزف بهذه الحساسية، بهذا الجنون أحيانًا… فهذا شيء آخر تمامًا.

كان عزف زياد يأخذنا إلى عالم آخر. إلى مكان لا يشبه الحرب، ولا الفقر، ولا الانقسام. فقط موسيقى. وكنت أقول في داخلي: لو كانت حياتي مختلفة، كنتُ لأتعلّم البيانو.

لكن الحياة لم تكن تسمح. البيئة لم تكن مناسبة. ومع ذلك، كان زياد كافيًا كي يفتح أمامي بوابة الحلم.

زياد السياسي بصمته… والرفيق الذي مرّ كنسمة

كثيرًا ما قيل إن زياد الرحباني “شيوعي”. والحقيقة أن هذه التسمية لم تكن شعارًا يتباهى به، بل نتيجة طبيعية لاختياراته، وفهمه العميق لقضايا الفقراء والمهمّشين، وانحيازه الجذري للعدالة.

كان زياد يظهر في احتفالات الحزب الشيوعي اللبناني، وخصوصًا في المناسبات الرمزية، مثل الذكرى الستينية لتأسيس الحزب، حين التقت فيروز بالشيخ إمام.

في عام 1989، ومع “اتفاق الطائف”، انتهت الحرب الأهلية اللبنانية شكليًا. لكن في الحقيقة، كان هناك انهيارٌ أكبر: انهيار المعنى، وانهيار الإيمان بإمكانية بناء وطن عادل. اليسار الذي كان يُشكّل الحلم التقدّمي وجد نفسه في عزلة، والعالم تغيّر. المنظومة الاشتراكية نفسها كانت تتداعى، والدول التي ألهمت الكثير منّا باتت تتُراجع، سقط الحلم بالاشتراكية والعدالة والمساواة وقفزت الى الشارع الشعبي مع الهزيمة التنظيمات الدينية واصبح اليساريون غرباء يعيشون في الماضي تم عزلهم واستسلموا لانعزاليتهم صاروا عشيرة ضعيفة بين عشائر السياسة والعشائر الطائفية.

زياد في زمن الالتباس

قبل عام 2005، كانت بيروت تمر بتحولات: النظام السوري كان حاضرًا بثقله، وكانت إيران تترسخ تدريجيًا في مفاصل القرار الإقليمي. المشهد السياسي تغيّر، كما تغيّر شكل المقاومة نفسها.

زياد كان دومًا مع فكرة المقاومة بشكل أو بآخر وكما يبدو لم يهتم كثيرا لمشروعها السياسي الذي هو ابعد من مقاومة احتلال إلى بناء جمهورية إسلامية.

بين رفيق الحريري واليسار… غياب الحوار

في مرحلة ما بعد الحرب، ومع صعود مشروع رفيق الحريري لإعادة إعمار البلد، انقسم اليساريون على أنفسهم. البعض ساند المشروع بحذر، والبعض الآخر هاجمه بشراسة.

الانتقادات كانت كثيرة، بعضها محق، لكن بعضها الآخر بدا وكأنه يرفض المشروع لأنه لا يشبههم، لا أكثر.

كانوا يقولون: “يبني الحجر قبل البشر

زياد والسؤال الذي لم يُجب عليه

في السنوات الأخيرة، خفّ حضور زياد العلني، لكنه لم يتراجع عن هويته، ولم يُخفِ انتماءه. ظل نقده حاضرًا.

ظهر في مقابلات نادرة، لكن  أبرزها مع جيزيل خوري في حوار العمر، حوارٌ لا يُنسى، لأنه كشف جانبًا من زياد الإنسان: صادق، شفاف، قليل الادعاء، يتحدث بعفوية، وبلغة لا يتقنها سوى من عاش وسط الناس واحتكّ بأوجاعهم.

وداعًا زياد… وأمنية لم تكتمل

رغم أن زياد وقف ضد مشروع رفيق الحريري لإعادة إعمار وسط بيروت، إلا أنه هو نفسه، مع فيروز، قدّما أجمل حفلة هناك – حفلة أعادت الروح إلى قلب العاصمة.

وسط بيروت، الذي أراده المشروع السياسي مساحة موحّدة لكل اللبنانيين، حقّقه زياد وفيروز فعلًا، بصوتهما، لا بالإسمنت.

كانت تلك الحفلات لحظة لقاء نادرة، اختلط فيها الحنين بالدهشة، والصوت بالصمت، والدم

غياب زياد اليوم لا يُقاس بالرحيل الجسدي، بل بما تركه فينا من فراغ لا يُملأ، ومع رحيله، ترك فينا صمتًا يضجّ بالأسئلة، وبموسيقى لا تزال تعيش معنا.

شعورنا اليوم مع غياب قامة كبيرة فلسفت لنا السياسة والفن والحياة بطريقة مختلفة وبتعبيرات ستبقى حية لتذكرنا دائما ان زياد لا يموت.

شارك هذا الموضوع

فاطمة حوحو

صحافية وكاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!