عودة أوديب ملكا.. قراءة في مسرحية “وصايا الديك” التونسية

عودة أوديب ملكا.. قراءة في مسرحية “وصايا الديك” التونسية

الكاتب جمال الفزازي

           الطاعون الذي أصاب مملكة اوديب في الأسطورة الإغريقية امتد عبر الزمن ليصيب بلاد العرض المسرحي “تونس ونظائرها” ومسخ  عشيق افر وديت ديكا عقابا له عن عدم تنبيه الاله بشروق الشمس وغروبها، هكذا صار لا يكف عن الصياح كل فجر تكفيرا عن خطيئته بتنبيه الناس عن حقيقة السلطة.

        “وصايا الديك” خطاب عرضي مسرحي يستلهم من الأسطورة الإغريقية الإطار الفني للحكي، حيث يحكي الأعمى العراف “تريسياس”  وقائع مجتمع يحتاج إرادة ثورية لرؤية  حقيقة السلطة،  مستثمرا سينوغرافيا بسيطة وترميزية عبارة عن  كرسي كبير بشباك صيد وصناديق متفاوتة الأحجام لها وظيفة خلق مساحات فارغة للعب والايحاء  لمركزية السلطة ، جاعلا الصناديق أداة لوظائف عدة منها الجلوس عليها و حفظ أسرار الناس وألبستهم  اوالمغامرة بها  في رحلة مخاطرة تنذر بالتهجير القسري ،  وفي خلفية  الركح ستارة سوداء لإسقاط فيدوات العاصفة البحرية،  والإيحاء لمغامرات المتفاعلين في طلب الكرسي بما يشير اليه من استعلاء وصراع “فوق/ تحت”، ومن تقلبات السياسة والمصالح المتباينة، وما زاد العرض تأثيرا اشتغاله المهني وفنيا، بالمؤثرات الضوئية والصوتية في تناغم مع متواليات التشخيص، حيث أبدع الممثلان في رسم صورة جسدية حية بالتحرك المتسارع والحركات الدالة عن أحوال العنف والتشنجات القصوى والصراع كما لو أننا في مشهد ملاكمة، تتجسد فيه جدلية السيد /العبد ، ليتوج المواطن المقهور بلحظات بطولة متوهمة تعويضية انتشاء بالكرسي والاستمتاع بالنكت الساخرة والمستملحات في غياب ” الحاكم  الفعلي” صاحب الزمان والمكان.

خطاب المسرحية قد اصنفه فيما اصطلح عليه المسرحي سعد الله ونوس بـ “مسرح التسييس”   لأنه ليس تحريضيا مباشرا بالمعنى السياسي بل هو كشف عن منطق السلطة ووظائفها الترهيبية والترغيبية من زاوية جمالية وفنية تتداخل فيها منظورات أهمها:

  • الواقعية الاجتماعية النقدية بنقد الراسمالية وإيديلوجيا التملك والاستيلاب  واستحضار المسرح البريشتي عبر توظيف تأثير التغريب والقناع وتكسير الاندماج.. الخ
  • مسرح العبث واللامعقول بتكسير الروابط السببية بين الوقائع المتوهمة واستعمال زمن عرضي حلزوني وتكرار جمل وتحركات لتجلية رهاب السلطة وتغريب الكائن حيث تبدو اللغة عاجزة عن ابلاغ المعنى.  
  • مسرح الكوميديا السوداء من خلال حكي مأساوي تراجيدي يبلغ حد الهزل والفكاهة بل وجعل الذات نفسها موضوعا للسخرية.
  • مسرح القسوة بمضاعفة الصراخ والعنف والقتل الرمزي، مسرح له نفس سلطة الطاعون من حيث تعرية الكائن البشري – كما استحضره أرطو-

إن العرض يحيلك على هاته المرجعيات تتقاطع فيما بينها بصيغ متفاوتة لإبراز تبعات التملك وهلوسات المرض النفسي من خلال استيهامات قتل الأب السياسي والتلبس بلعنة الكرسي وعودة المكبوت الجنسي بقتل العشيقة /أوديب ملكا” المقترن بكرسي السلطة وجنون العظمة والسيطرة على الاشياء واستعباد الاخر إلى حد التجويع ودفع المواطن وضمنه الفنان والمثقف الى الاستجداء والخضوع لنظام السخرة والعبودية طوعا أو بالإكراه والقتل.  

  • العرض يخضع لإيقاع متسارع يطغى عليه تشخيص الانفعال والصراخ والتشنج البدني والتعذيب المادي والرمزي كما لو أننا في مختبر المنظر المسرحي “غروطوفسكي” لتشخيص الجريمة والعقاب وعرض الألم في أقصى حالاته السادية والمازوشية.
  • لاشك أن إخراج العرض يستوفي كثيرا من عناصر الفرجة المسرحية بحرفية عالية جعلت المتلقي -الجمع مشدودا إلى “وصايا الديك” ولي ان اتخيل كيف تمكن المخرج من إنتاج صورة للشخصية في الفضاء الركحي ويمنحه بعدا اخر مختلفا نسبيا عما رسمه المؤلف لها (باعتبار المؤلف هو نفسه الممثل والشخصية).
  • تبقى إشارة أخيرة تفترض إمكان الاستغناء عن فيديو الإعصار البحري المسلط على الستار الخلفي رغم جمالياته البصرية المعززة بالتأثيرات السمعية لأن استعارة تقنية السينما قد تقلل من تبئير التشخيص ومركزيته، خاصة وان العرض يتميز ببلاغة جسدية وظيفية مبنى ومعنى.
  • العرض أنجز بمسرح ابن مسيك الكبير في إطار مهرجان ابن مسيك الدولي للمسرح الاحترافي دورته 14 – الدار البيضاء، تنظمه جمعية فضاء القرية للإبداع من 25 يونيو إلى 2 يوليوز 2025.
  • “وصايا الديك” إنجاز فرقة كلنديستينو – تونس.
  • تأليف: -منير العماري / -إخراج: وليد الدغسني/ -تشخيص: أسامة كشكار ومنير العماري/ -سينوغرافيا: صبري العتروس /-ملابس: عبد السلام الجمل/ -إضاءة وإصاتة: محمد هادي بلخير.
شارك هذا الموضوع

جمال الفزازي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!