عودة إلى فاطمة المرنيسي وسؤال الخوف من التحديث

عودة إلى فاطمة المرنيسي وسؤال الخوف من التحديث

عبد الرحيم التوراني

           في ذكرى مرور عقد كامل على رحيلها، تعدُّ العودة إلى متن السوسيولوجية المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي (1940-2015)  ضرورةً معرفية ملحّة، خاصة في ظل التحولات العاصفة التي يعيشها العالم العربي والإسلامي اليوم…

وتأتي الترجمة العربية الجديدة لكتابها: “خوف من الحداثة: نزاع الإسلام والديمقراطية”، الصادر عن دار الفنك للنشر بالدار البيضاء، بتوقيع المترجم الحسين سحبان، لتعيد للواجهة واحدًا من أكثر النصوص جرأةً في تشريح العقل السياسي الإسلامي المعاصر، وهو النص الذي كُتب في سياق حرب الخليج الأولى مطلع التسعينيات، لكن أسئلته لا تزال تنبض بالراهنية.

تطرح المرنيسي في هذا الكتاب أطروحة مركزية: لماذا يرتعب الحكام والنخب التقليدية في العالم الإسلامي من مفهومي “الحداثة” و”الديمقراطية”؟

تذهب المرنيسي بعيدا في تحليل هذا “الخوف”، معتبرة أنه ليس نابعا من جوهر العقيدة الدينية، بل هو خوف من “الحرية” ومن ضياع الامتيازات السلطوية. وترى الكاتبة أن الحداثة، بما تحمله من قيم الفردانية والمواطنة وحقوق الإنسان وتساوي الجنسين.. تضرب في العمق النظام الأبوي”البطريركي” الذي يستمد شرعيته من تأويلات ذكورية متصلبة للدين.

في هذا المؤلف، تُفكك المرنيسي علاقة الفرد بالدولة، معتبرة أن الإسلام في نشأته كان ثورةً على القبلية والتبعية العمياء، لكن القراءات السياسية اللاحقة حولته إلى أداة لضبط الشعوب ومنعها من السؤال. الكتاب يغوص في مفهوم “الخوف”، الخوف من الغرب الإمبريالي، الذي يُستخدم كشماعة لرفض الديمقراطية، والخوف من المرأة التي تمثل في المتخيل التقليدي رمزاً لزعزعة الاستقرار الاجتماعي (الفتنة) إذا ما نالت حقوقها.

تقول المرنيسي إن الديمقراطية بالنسبة للنخب الحاكمة هي “مغامرة مجهولة العواقب” لأنها تمنح الشعوب حق المحاسبة، والحداثة هي “اختراق ثقافي” لأنه يحرر العقل من الوصاية. ومن هنا، يبرز الصراع ليس بين “دين وعلمانية”، بل بين “استبداد وحرية”.

الكتاب لا يكتفي بالتشخيص، بل يقدم رؤية متفائلة بقدرة المجتمعات الإسلامية على التصالح مع العصر. فالمرنيسي كانت تؤمن بأن “الحداثة ليست بضاعة مستوردة”، بل هي تطلّع إنساني نحو الكرامة والعدالة، وهي قيم تجد جذورها في الجوهر الأخلاقي للإسلام إذا ما تم تخليصه من التوظيف السياسي القمعي.

لماذا نقرأ المرنيسي اليوم؟

بعد عقود من صدور النسخة الأصلية بالفرنسية، يثبت الواقع أن “الخوف من الحداثة” لا يزال يحكم الكثير من مفاصل حياتنا. فخطاب الكراهية، تهميش النساء، ورفض التعددية، كلها أعراض لهذا المرض الذي شخصته المرنيسي. إن قراءة هذا الكتاب اليوم هي دعوة للمصالحة مع الذات، ولإدراك أن الحداثة ليست عدواً للدين، بل هي الضمانة الوحيدة لكي يحيا المتدين وغير المتدين في كنف دولة تحترم إنسانيتهما.

هذا الكتاب ليس مجرد بحث سوسيولوجي، بل هو “صرخة تنويرية” في وجه الظلامية، وهو مرجع لا غنى عنه لكل باحث عن فهم أعمق للصراع الدائر اليوم بين التمسك بالماضي كملجأ وبين الانفتاح على المستقبل كأفق للتحرر.

الحسين سحبان
الحسين سحبان

تكتسي هذه الترجمة التي أنجزها الأستاذ الحسين سحبان أهمية خاصة، لكونها تسعى لنقل “رُوح” المرنيسي النقدية بلغة عربية سلسلة ودقيقة، تتجاوز التعقيدات الأكاديمية الجافة لتخاطب القارئ العام. فدار الفنك، التي رافقت مسار المرنيسي طويلاً، تدرك أن إعادة إحياء هذا الكتاب هو استكمال لمشروع فاطمة في “تحرير العقل الإسلامي من الخوف”.

وبإصدارها لهذه الترجمة، تقوم دار الفنك بمهمة ما يمكن أن نسميه بـ استعادة النص وإعادته إلى حاضنته الطبيعية. فبعد أن تشتتت أعمال المرنيسي في ترجمات شرقية وغربية متباينة الجودة، تأتي هذه النسخة لتكون المرجع الموثوق والنهائي للباحثين والقراء.

إذا كانت ترجمة دمشق (المقرصنة) قد ساهمت “اضطراريا” في نشر فكر المرنيسي في المشرق العربي في فترة ما، فإن ترجمة الحسين سحبان اليوم تأتي لتصحح المسار، وتقدم نصا محققا ومدققا، ومخلصا لروح فاطمة المرنيسي التي كانت ترفض الفوضى الفكرية وتدعو دائما إلى الدقة والوضوح.

إن اقتناء هذه النسخة الجديدة ليس مجرد دعم لحقوق النشر، بل هو استثمار في قراءة صحيحة لفكر امرأة كانت تخشى على “الكلمة” بقدر خشيتها على “الحداثة“.

إن الخوف من الحداثة ليس دفاعا عن العقيدة، بل هو ارتعاد السلطة أمام إنسانٍ قرر أن يغادر قطيع الطاعة ليدخل رحاب المسؤولية والحرية.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!