عودة المكارثية إلى أرض الحريات

عودة المكارثية إلى أرض الحريات

عبد الرحيم التوراني

     قبل حوالي أسبوعين، كان اللقاء الأول في تلك الجلسة الثقافية ببغداد أشبه بلقاء أفكار. انجذبت فورًا إليه، مثقف عربي مقيم بالولايات المتحدة منذ سنوات، لكن عقله كان معلَّقًا بخيوط متينة من المعرفة العميقة بالفن والثقافة المغربية، وهو من عشاق أغاني ناس الغيوان، وأغاني “الإخوان ميغري”، ويدندن أكثر بأغنية يونس ميغري: “ليلي طويل”…

 تبادلنا أرقام الهاتف، ليس كمجرد إجراء، بل على مبدأ التواصل المفيد.

 في تلك الليلة، بحثت عن اسمه على فيسبوك وأرسلت إليه طلب صداقة، مدفوعا بشغف إكمال حوار ثقافي بدأ للتو.

في اليوم التالي، التقينا في بهو الفندق المطل على نهر دجلة. اقترب مني بهدوء يثير الانتباه، وبمجرد أن أصبحنا على مقربة، تحول صوته إلى همس خفيض، كأننا نقف في غرفة زجاجية يخشى أن تُنقل كلماته:

شكرًا جزيلًا على مبادرتك القيمة بطلب الصداقة…

 توقف للحظة، وعيناه تبحثان حولنا دون وضوح.

ثم جاء الاعتذار، الذي لم يكن شخصيًا بقدر ما كان مرآة لواقع قاسٍ:

لكن أعتذر منك بشدة، لا أستطيع الاستجابة لطلبك...

 أثار كلامه حيرتي.. حتى أوضح السبب، ليُسقط على اللقاء ظلالاً ثقيلة من الخوف:

– أخشى من الأجهزة التي تتولى التجسس على العقول.. على الهواتف، والفيسبوك… صداقتي الافتراضية معك قد تجلب لي متاعب لا أحتاجها.. أنا في غنى عنها…

 اكتملت الصورة حين نظر إلى غلاف صفحتي الفيسبوكية، المزينة بصورة القدس مرفقة بالعلم الفلسطيني.. أدركت أن شغفي بمواصلة الحوار قد اصطدم بجدار من الخوف الأمني المُمنهج.

لم يكن اعتذارًا لي، بل كان اعترافًا موجعًا بأن المساحات الافتراضية لم تعد آمنة، وأن الخوف من المتابعة والتجسس أصبح يحدد حتى العلاقات الثقافية البريئة بين العرب، خاصة عندما يلامس الأمر قضية فلسطين.

***  

منذ عقود وصل صديقي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، هاربا من “مدن الملح”.. باحثاً عن الأمان بعيدا عن “أرض السواد”..

 ترك وراءه بلداً يحكمه بطش الدكتاتورية والطغيان، حيث كانت الجدران والأرض تتجسس على أنفاس الناس وأحاديثهم في المقاهي.. ظن أن ملاذه الجديد هو حضن الأمن والحريات الذي لا يقيده شيء.

لكن المفارقة القاسية كمنت في أن هذا الملاذ تحول تحت ضغط التحولات السياسية وشبح المكارثية المُعاد تدويره، إلى سجن جديد من نوع آخر.. فإذا به يجد نفسه تحت حراسة ومراقبة دائمة، لكنها هذه المرة تجسس رقمي غير مرئي. إنه ليس مجرد مراقبة للكلمات التي يقولها علناً، بل مراقبة لأفكاره ونواياه المضمرة التي يخفيها حتى عن أقرب الناس.

المأساة الحقيقية هي أن الرقابة وصلت إلى درجة من الشدة، ربما جعلته يخشى حتى على تلك النوايا والهواجس التي يخفيها عن عينيه فلا يراها حتى لا يبصرها الآخرون. أصبحت مساحة الخصوصية، حتى في عقله الباطن، مُهددة، مما يُجبره على التقييد الذاتي، وليصبح رهينة لـهواجس الرقابة التي لا تنتهي.

قد يكون خوف صديقي “العربي-الأمريكي” مبررًا بالفعل، خاصة في ظل التحولات التي نتحدث عنها. من المثير للقلق رؤية كيف أن مخاوف التجسس والرقابة، التي لطالما ارتبطت بالأنظمة الشمولية، أصبحت تلامس حتى الدول التي تُعتبر قلاعًا للحريات.

الحديث عن “دكتاتورية الرئيس ترامب” يعكس شعورًا واسعًا لدى قطاعات من الجمهور والمثقفين، بأن الإدارة الأمريكية الحالية أصبحت تتجاوز الأعراف الديمقراطية، لتفتح الباب على مصراعيه أمام رقابة أوسع وتضييق على حريات التعبير.

يذكر هذا بما حدث في حقبة السيناتور جو مكارثي، في عقد الخمسينيات، حيث ساد الخوف من التجسس الداخلي والاتهامات بالخيانة أو التعاطف مع الشيوعية..

إن التضييق على حرية التعبير السياسي اليوم في أمريكا، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الساخنة كالشرق الأوسط، يخلق بيئة من الخوف من الملاحقة أو التشهير.

 يحدث هذا التضييق والهلع في وقت موازٍ مشحون بقمة التناقض والسخرية. بينما يعيش المثقفون في أمريكا تحت وطأة المراقبة الافتراضية التي تشبه ظلال المكارثية القديمة، يطالب المستر دونالد ترامب العالم بتوشيحه بأعلى وسام للسلام العالمي، بمنحه جائزة نوبل للسلام. وقد لا تنحصر مطالبته على العام الجاري وحسب، بل هي مطالبة مفتوحة، وكأنها استحقاق دائم، محسوب لكل الأعوام اللاحقة… هكذا يؤسس ترامب لجائزة “نوبل” الأبدية، جائزة لن يتكرر منحها لأحد بعده، كأنه خاتم الأولياء الصالحين في العالمين!

 كيف يلح دونالد على تتويجه رمزا للسلام الأبدي، بينما هو يتمادى في خلق بيئة من الخوف من النوايا المضمرة، تلك التي يخشى صديقي “العربي الأمريكي” حتى أن يُفكر فيها.

لقد تحول المشهد الأمريكي إلى عرض عبثي حيث يجتمع التجسس على العقول مع المطالبة بالسلام الأبدي في مفارقة تفوق كل تصور.

دونالد ترامب يسعى لأعلى مراتب التكريم العالمي، غير مكترث على الإطلاق بـالبهلوانيات المكارثية الخالصة التي يمارسها ببشاعة وقساوة، والتي تهدد الحريات الداخلية..

لم يكتفِ بإحياء روح “الزمن المكارثي”، بل أعاد تصميم وتطريز ثوبها بخيط خاص به، يمزج بين الشيطنة السياسية والرقابة الافتراضية، ليتناسب تماماً مع ما يشتهيه ويحلو له من فرض السيطرة والتضييق على العقول.

يا لها من مفارقة لاذعة، رئيس يطالب بالسلام العالمي بينما يعود ببلاده إلى الوراء بعقود، إلى زمن التجسس على النوايا، زمن حوَّل فيه الخوف إلى عملة رسمية.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!