عودة الملك الاحتفالي جالوق

عودة الملك الاحتفالي جالوق

د. عبد الكريم برشيد

فاتحة الكلام

في فاتحة كتاب مسرحية (شكوى المهرج الحكيم) ـ منشورات إيديسوفت ـ الدار البيضاء ـ وفي صفحة الإهداء، يقول الكاتب الاحتفالي ما يلي:

(إلى كل الفنانين الذين يشتغلون بصناعة الفرح ولا يفرحون

وإلى كل المهرجين الذين يضحكون كل العالم ولكنهم لا يضحكون)

ونبقى مع موضوعة الفرح، وأن أصل ما كتبناه في النفس السابق من هذه الكتابة وأن نقول مع المفكر الاحتفالي بأن أسعد كل السعداء هو من يكون مع الفرح، ويكون الفرح معه، ويكون مع الحياة، وتكون الحياة معه، ويكون مع الجمال ويكون الجمال معه، والأصل في هذا الفرح الإنساني، هو أنه ليس ترفا في الحياة، ولكنه روح وجوهر الحياة، كما هو جوهر كل الأحياء.

ونبقى مع الحق في الفرح، ومع فلسفة الفرح، ومع مبدا اقتسام هذا الفرح، ونعرف أن الفرح الكبير لا يمكن أن تسعه إلا الأرواح الكبيرة والنفوس الكبيرة والعقود الكبيرة، وذلك في الفضاءات المدنية الكبيرة وفي الحقب التاريخية الكبيرة،  ونبقى ايضا مع البحث عن وطن الفرح، وعن مدينة الفرح، والتي لا يمكن أن تكون إلا مدينة فاضلة، ونحن، في الحركة الاحتفالية، لم ننتظر هذا الفرح حتى يأتي إلينا، من مكان ما، وأن يكون عطاء ومنحة، من جهة من الجهات، لأننا كنا نعرف دائما بأنه لا محالة آت، وأنه لابد سيظهر إلى العلن، عندما تظهر إلى الوجود أجساد وأرواح وعقول إنسانية حية، تؤمن بالفرح، وتتقن صناعة الفرح، سواء في الفكر أو في الفن أو في الرياضة أو في العلاقات أو في المؤسسات أو في السياسات.

وتقول الطفلة مريمة، والتي هي روح الموسم، وروح الوطن، وروح الحياة في احتفالية (عرس الاطلس):

(ممنوع لغنا حتى نغنيو كلنا

وممنوع لهنا حتى تنهناو كاملين)

مما يؤكد أن الفرح الحقيقي، إما أن يكون جماعيا، وأن يكون شاملا وكليا، أو لا يكون، وكل فرح ناقص أو مزيف أو كاذب أو مقنع لا يمكن أن يكون فرحا حقيقيا.

وبالنسبة للاحتفالي فإن أصدق الفرح هو الفرح المركب والمضاعف والشفاف، وهو أن تفرح أنت، وأن تمنح الناس الذين من حولك شيئا من الفرح، وأن تتصدق بالفرح، وأن تجود بساعات ولحظات وكلمات من الفرح الصادق.

والفرح البسط هو أن تفرح نفسك، أما الفرح المركب والمضاعف، فهو أن تفرح الناس الآخرين، والفرح الصادق ليس هو الفرح الكاذب والمزيف بكل تأكيد، وإن من يستهلك الفرح، ليس كمن يصنعه، وبذلك تكون أصدق وأجمل وأنبل كل الصناعات هي صناعة الفرح.

وفي معنى هذا الفرح الصادق والمتصدق به، يقول الملك جالوق، في تلك الاحتفالية المسرحية التي تحمل اسمه، والتي يقدم فيها، ويشرح فيها فلسفة الفرح، ويقول وهو يخاطب ساحة جامع الفنا، ما يلي:

(لقد ألهمني رب العباد أن أناديك باسمك الحقيقي. وأن أقول بالصوت العالي .. (بصوت مرتفع)

أنت مملكتي يا مملكة البهجة والفرح

وأنا .. في هذا الزمن المتجدد سلطان الفرح ورسول الفرح ونبي الفرح ..

 وحق الله، لا شيء صادق وحقيقي في ملكوت رب العالمين إلا الفرح .. وإنني أدعو كل تعساء العالم من أجل أن يأتوا إلينا ..

يا أيها الناس ..صدقوني .. نحن هنا كلنا .. من حضر منا ومن غاب.. لا نعيش ونحيا إلا بالفرح. وبأنه لا شيء يمكن أن يسعدنا إلا .. الفرح .. الفرح الصادق.. في الفضاء الصادق وفي الزمن الصادق..

 (تشتعل الخشبة بالنور مما يدل على أنه أصبح يوم جديد، وتدب الحركة في ذلك الصمت الذي كان من قبل، ويأتينا صوت أجراس (الكرابين .. بائعي الماء

                           الوجود ومراجعة نظام الوجود

وبحسب هذا الاحتفالي، وبحسب فلسفته العيدية، فإن ما دعت إليه الاحتفالية، وسعت إليه دائما، هو أنها، في هذه الحياة، قد ألحت على (مراجعة نظام الحياة، مؤكدة على أنه من الممكن أن تكون هذه الحياة أحسن مما كانت، وأحسن مما هي كائنة الآن، وأن نعيشها بشكل أحسن، وذلك داخل شروط إنسانية تكون أكثر حقيقة وأكثر مدنية وأكثر حيوية وأكثر حقيقة وأكثر جمالية.

كما دعت إلى مراجعة مسار التاريخ أيضا، بجعل هذا التاريخ يكون أكثر صدقا ومصداقية، ويكون أكثر حياة، ويكون أكثر حيوية، ويكون أكثر عفوية، ويكون أكثر مدنية، ويكون أكثر جمالية، ويكون أكثر احتفالية وعيدية، وأيضا، يجعل هذا المسار (التاريخي) يتجه نحو الإنسان ونحو الأجمل ونحو الأكمل في الواقع والحياة، ونحو التلاقي والحوار والتسامح، ليس نحو الحروب ونحو الهيمنة ونحو التسلط ونحو الاستبداد بالسلطة، ونحو النفي والإقصاء ونحو الاستحواذ على خيرات هذه الأرض).

هكذا تحدث المفكر والمبدع الاحتفالي إلى  الباحث المسرحي العراقي عبد الرزاق الربيعي في كتابه (الحكواتي عبد الكريم برشيد).

ولقد آمن الاحتفالي بالفرح، تماما كما آمن بالمستقبل، وآمن بأن الخير أمام، وبأن الفرح أمام، وبأن الحقيقة المتجددة سوف تأتي من المستقبل، وهذا ما يفسر أن تظل هذه الاحتفالية موجودة وحاضرة في التاريخ، ونعرف أن الاحتفالي في وجهته باتجاه الممكن الآتي لا يمكن أن يلتفت إلى الخلف، وإذا حدث والتفت، فإنه لا يمكن أن يلتفت إلا إلى .. المستقبل، وهذا هو ما عبر عنه الكاتب الاحتفالي، في (بيان القنيطرة الاحتفالية المتجددة)، والذي قال فيه ما يلي:

(شيء مؤكد أن مستقبل الاحتفالية لا تصنعه النوايا المتفائلة وحدها، ولا النوايا المتـشائمة وحدها، وهو بهذا مرتبط بطبيعة هذه الاحتفالية الحية، ومرتبط بوجودها الحي والحيوي، ومرتبط بالقانون الذي يسري على كل الكائنات الحية، بما فيها الكائنات الرمزية والافتراضية، والتي من بينها الاحتفالية، وهذا القانون لا يمكن أن يكون إلا قانون النشوء والارتقاء، والذي هيأ لهذه الولادة الفكرية والإبداعية أن تنشأ في الثلث الأخير من القرن الماضي، وأن تواصل النمو على امتداد (نصف قرن) وأن تقاوم الأوبئة والأمراض، وأن تكتسب مع توالي الأيام والأعوام حصانة ومناعة داخلية، وأن تنبت لها ذاكرة حية، وأن يصبح لها تاريخها الخاص داخل التاريخ العام، وأن يكون لها موقع قدم داخل المالك الفكرية والإبداعية الحديثة والمعاصرة).

                          الدخول والخروج بيد فارغة

ونعود إلى مسرحية (الملك جالوق) والتي هي آخر ما كتبه الكاتب الاحتفالي، إلى حدود هذا اليوم طبعا، وهي بلغة المسرح المدرسي تسمى مونودرما، أما بلغة الفنون الشعبية المغربية، فهي مجرد حلقة شعبية في ساحة مغربية شعبية تسمى جامع الفنا، ولقد أصر بطلها الفنان البوهيمي أن تكون برتبة مملكة، وأن تكون هذه المملكة مملكة للفرح، وأن يكون فيها هو الملك، وهو يعود إليها في فجر يوم من الأيام، والتي قد تأتي أو قد لا تأـي، سواء في اليقظة أو في المنام، وهو يقدم نفسه، ويقدم مدينة مراكش ويقدم ساحتها على الشكل التالي؛

(تقولون بأنني مجرد سائح غريب..  أعرف .. وكلنا في هذه الساحة مجرد غرباء.. نأتي نحن ونمضي، وتبقى هي ..

أما إذا سألتم عن موقع هذه المملكة فإنني أقول لكم بأنها موجودة في قارة سادسة تسمى الخيال أو تسمى المحال، وأن هذه القارة موجودة في كوكب يسمى المغرب.  (بالعامية) ايوا كيف جيتكم؟ (نعم) إنني أنطق اللغة العربية بشكل سليم، مع أنني سويدي .. لا تصدقون؟ إذن قولوا عني بأنني ياباني .. حتى هذه لا تصدقونها؟ إذن اعتبروني سائحا من جزر الواق واق .. وهذا آخر كلام عندي (ضحك خارجي).

وفي مفتتح هذه الاحتفالية، وفي حوار بين الملك جالوق ووزيره على شاشة خيال الظل، يمكن أن نقرأ، وأن نسمع، وأن نشاهد المشهد التالي:

( ــ يسالني كيف دخلتها أول مرة .. أقول لك كيف دخلتها ..  لقد دخلتها عاريا وخرجت منها عاريا..  هكذا ولدتني امي الحاجة ميمونة رحمها الله.. والتي قال عنها الناس .. كل الناس .. ميمونة تعرف ربيْ وربي يعرف ميمونة ..

ــ لا يا مولاي لا .. هذا لا يصح .. (بالعامية) خلليك كبير الله يخليك..

ــ (بالعامية) (والله العظيم الى حتى يصح) لقد خرجت من المدينة والساحة ومن عالم الأحياء عاريا .. هكذا خلقني ربي. وهكذا سوف ألقى ربي يوم القيامة..

 ــ (متأسفا) مسكين… بلا قميص وبلا سراويل وبلا كيلوط يسترك ؟

 ــ:لقد خرجت، أنا الملك. من هذه الدنيا عاريا .. إلا من قماش أبيض يسمى الكفن .. ولقد أوصيت أن يتركوا يدي خارج الكفن، حتى يعلم الجميع بأنني قد جئت الدنيا بيد فارغة. وبأنني قد ودعتها بيد فارغة.. وبأنني في رحيلي الأخير لم أكن ارتدي .. إلا كفني … كفني الذي لم تكن به جيوب..

 ــ مسكين .. حتى الملك مسكين .. وكلنا مساكين في مملكة رب العالمين ونحن لا ندري .. (مصححا) أو لا نريد أن ندري.)

                        كرامات وآيات ملك الفرح

هو ملك الفرح في مملكة الفرح، ومه‍مته في مملكته هي ان يعيد للناس الأحياء ثقتهم في الحياة، وان يعيد لهم الفرح الضائع، وان يعيد لهم طفولتهم البريئة التي كانت، وفي احد مشاهد هذه الاحتفالية الشعبية نجده يقول للضيوف خلقته:

(رجاء أحبتي .. كذبوا كل شيء .. وشككوا في كل شيء .. إلا في شيء واحد أوحد.  وهو المتعلق بحضرتنا .. وإن قالوا لكم بأنني أنا. الملك جالوق، ولي من أولياء الله فصدقوهم .. اييه..أييه .. أنا أحد الأولياء الصالحين في مملكة رب العالمين.. وإذا كان عندكم مانع فحتى أنا ما عندي مانع .. (أصوات استغراب واستجان وضحك).

وتعرفون رجال مراكش السبعة؟ فأنا ثامنهم .. اييه .. أما بخصوص الكرامات.. ففعلا لدي كرامات وكرامات وآيات كثيرة يصعب على العقول الصغيرة تصديقها بسهولة..  ومن كراماتي أنني أمشي فوق الماء..وأنني أطير في السماء.. وأنني أحضر إذا غبت، وأغيب إذا حضرت .. ( أصوات ضحكات).

وأغرب وأعجب كل كراماتي هل تعرفون ما هي؟ (صمت) أقول لكم ما هي .. هي أنني في كل حياتي ومماتي ما صليت إلا صلاة واحدة .. اييه .. صلاة واحدة بركعة واحدة وبسجدة واحدة. .. وهي سجدة واحدة فعلا، ولكنها استمرت خمسين عاما من عمري. بالتمام والكمال.. تقولون بزاف؟ (بالعامية) على وجوهكم نقول أربعين عالما .. وحتى هذه بزاف؟ صدقوا أو لا تصدقوا، فهذا آخر ما لدي.. وأقول قولي هذا..  (بالعامية) ولعنة الله على  من كذبني وادعيتو لرب العالمين..

وحتى لا تفهموني خطا فإنني أقول لكم ما يلي .. هي خمسون سنة مما تعدون أنتم.. في حساباتكم المادية أنتم، وليس في حساباتى الروحية. وفيما عشته أنا. بيني وبين نفسي، والذي هو خمسون ثانية. أي نصف دقيقة .. ولكم دينكم ولي دين، ولكم توقيتكم ولي توقيتي الخاص. وأنتم لستم أنا وأنا أنتم .. هل فهمتم؟

وكل شيء نسبي في عالم رب العالمين، وكل ما فيه نسبي حتى يتغير ناموس الخلق والمخلوقات.. (بالعامية) وكلها وقياس برادو وكلها وحسابو في راسو. وأنا في مملكتي الروحية لدي ساعة روحية خاصة..ساعة  ليست رملية ولا شمسية ولا ظلية ولا ميكانيكية ولا إلكترونية.. (بالعامية)  إيوا فهموني الله يخليكم؟

زمن كرامتي إنني كنت متزوجا  بحورية من حوريات البحر، في انتظار أن يكرمني الله بحورية من حوريات الجنة).

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!