عَنِ اليُوسْفي مرَّةً أُخْرَى: أُصْبُع دِينَامِيتْ فِي برْمِيلِ بَارُود.. أخْمَدَ آلافَ الحَرَائِقِ ليُشعلها في الذَّاكرات! (2-4) *

عَنِ اليُوسْفي مرَّةً أُخْرَى: أُصْبُع دِينَامِيتْ فِي برْمِيلِ بَارُود.. أخْمَدَ آلافَ الحَرَائِقِ ليُشعلها في الذَّاكرات! (2-4) *

عبد الرحيم التوراني

           كانت رسالة الأخ عبد الرحمان اليوسفي إلى المؤتمر الاستثنائي قصيرة ومركزة، وجد مؤثرة، منمقة بعناية قصوى. كلماتها مشحونة ومكثفة بما قلَّ ودلَّ. هزَّت أركان قاعة الأفراح بشارع الجيش الملكي، حيث انعقد المؤتمر، أيام الجمعة والسبت والأحد (10، 11، 12 يناير 1975).

 لا زلت أتذكر دموع بعض المؤتمرين ونشيجهم وهم يشهقون عند سماعهم لكلمات اليوسفي، يحدثهم عبر كاسيت مسجل، وكنت من أعضاء المؤتمر ضمن وفد الشبيبة بالدار البيضاء، لقد كان اليوسفي موفقا فيما أراد تبليغه للمناضلين وأجاد، إذ أتى صوته صافيا متهدجا قريبا من النحيب.

كانت أول كلمة قالها في التسجيل بعد التحية. “أخوكم عبد الرحمان اليوسفي من المنفى”.. فتململت القلوب واهتزت الأفئدة.

في الرسالة أكد عبد الرحمان اليوسفي على أن الاتحاد له قيادة واحدة، هي قيادة الداخل بزعامة الأخ عبد الرحيم (بوعبيد)، ما يفيد أن الحزب يتبرأ من كل الأعمال والمبادرات التي تنفذ انطلاقا من الخارج.

تأشيرة شرعية كانت ضرورية لإعادة تأسيس حزب جديد على أنقاض رواسب حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية. حزب أصبح يحمل اسم “الاشتراكي” بدل “الوطني”، إنهاءً للخلط بين “اتحاد” الدار البيضاء بقيادة عبد الله ابراهيم، و”اتحاديي” فرع الرباط بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، التيار الذي أعلن عن نفسه إثر ما يعرف في أدبيات الحزب بـ”قرارات 30 يوليوز 1972″.

لكن الاتحاد الاشتراكي ظهر ليرسم القطيعة مع ممارسات “بلانكية”، لا ليتنصل من تاريخ ومناضلي الاتحاد الذي أسسه بنبركة في 1959. لذلك كان المؤتمر تحت شعار: “استمرار حركة التحرير الشعبية”. وزينت قاعة المؤتمر بصور مكبرة لزعيم الريف عبد الكريم الخطابي، ورمز المقاومة الشهيد محمد الزرقطوني، ورمز الاعتدال محمد بلعربي العلوي (شيخ الإسلام).

عمل المؤتمر الاستثنائي على ممارسة نوع من النقد الذاتي، ووصف الأخطاء الماضية بكونها “أخطاء ثورية”، حسب تعبير عمر بنجلون، مؤكدا على خيار الديموقراطية كوسيلة لتحقيق الاختيار الاشتراكي، مع السكوت التام عن المطالبة بـ”المجلس التأسيسي لوضع الدستور”، وهو الشعار” الذي كان يتمسك به الاتحاد.

لعب اليوسفي دورا أساسيا في العلاقات الخارجية للاتحاد الاشتراكي، فهو من اقترح  تسمية الاتحاد بـ”الاشتراكي” بدل “الوطني”، وهو أيضا من اقترح تسمية “الكاتب الأول” بدل “الأمين العام” أو “الرئيس”.

 وفي المؤتمر الوطني الثالث الذي انعقد بقاعة القصر الصغير للمعرض الدولي في الدار البيضاء، في نهاية ديسمبر 1978، سيصبح اليوسفي، وقبل عودته واستفادته من العفو الملكي، عضوًا رسميا  في المكتب السياسي.

بعد مرور حوالي خمس سنوات على انعقاد المؤتمر الاستثنائي، تم العفو الملكي عن مجموعة من المنفيين والمعتقلين السياسيين، كان في مقدمتهم عبد الرحمان اليوسفي، الذي تم تقديمه من طرف عبد الرحيم بوعبيد ومحمد نوبير الأموي في ملعب “كازابلانكيز” في التجمع العمالي للكونفدرالية الديمقراطية للشغل، بمناسبة الاحتفال بذكرى فاتح ماي 1981، حيث تقدم اليوسفي رافعا يديه معًا، لتحية المهرجان العمالي، وألقى كلمة مقتضبة.

 كائن مشوه برأسين!

      خلال هذه الفترة ظل عبد الرحمان اليوسفي يقيم ببيته القديم، في العنوان: رقم 4، زنقة “بوان دوجور”، المطلة على شارع الزرقطوني بحي بوركون في الدار البيضاء، وهو بيت متواضع من طابق واحد، بأثاث بسيط، وقد سكن به قبل اليوسفي اتحاديون آخرون، كما أقام به فترة الصحفي عبد السلام البوسرغيني عندما جيء به من يومية “العلم” لحظة انطلاق جريدة “التحرير”. وهو نفس البيت الذي سيستقبل فيه اليوسفي الوزير الأول الفرنسي ليونيل جوسبان في مستهل عام 1998، أيامًا قليلة قبيل تعيين اليوسفي وزيرًا أول. لاحقًا تم تفويت البيت لتشيد مكانه بناية حديثة من عدة طوابق.

حاول اليوسفي تمتين علاقته بالتنظيم الحزبي في العاصمة العمالية، لكنه لم ينجح. فقد ركز على الأطر الاتحادية من خارج قطاع التعليم، إذ كان ينتقد سيطرة هذا القطاع على التنظيم الحزبي، وهو المعلم القديم. كما أن المكلف بالتنظيم كان يعمل باستمرار على اختراق ما يبنيه اليوسفي من أنوية تنظيمية ليقوم بهدمها وتشتيتها، ولم يكن غير الثعلب محمد اليازغي.

لذلك سيتراجع اليوسفي قليلا، ويوزع حياته ما بين الدار البيضاء والكوت دازور، حيث تملك زوجته اليونانية الأصل عقارًا بمدينة “كان” الفرنسية.

وبدا أن اليوسفي عاد ليقضي تقاعدًا مريحًا بعد حياة “الصخب والعنف” الثوري، إلى أن تم اعتقال عبد الرحيم بوعبيد ومحاكمته والحكم عليه بالسجن مع الدكتور محمد الحبابي ومحمد اليازغي، على إثر بلاغ سياسي ينتقد موافقة الحسن الثاني على إجراء استفتاء في الأقليم الصحراوية، من أجل إثباث مغربيتها من عدمها.

هنا عاد اليوسفي ليلعب دور المؤتمن على تسيير الحزب، الذي كان يعرف نوعا من التجميد والركود، بعد اعتقال قائد الحزب، ومنع صحافته، والزج بعدد كبير من مناضليه وأطره في السجون، إثر “انتفاضة الخبز” في 20 جوان 1981.

كان بعض المناضلين يلجأون إلى السي عبد الرحمان لاستشارته، فمثلا ذهب إليه محمد بنيحيى ليأخذ موافقته على إطلاق أسبوعية جديدة، كان اختار لها في البداية اسم “النقطة”، اقتباسًا من اسم الأسبوعية الفرنسية الشهيرة “لوبوان”، لكن الأصدقاء انتقدوا التسمية واقترحوا عليه اسم “البلاغ المغربي”، تيمنا باسم مجلة “البلاغ” اللبنانية التي كانت تصدر من بيروت، وكانت تهتم بالشأن المغربي، ومن بين أقلامها الصحفي الكبير محمد الباهي. وهي المجلة ذاتها التي ستنشر رسالة الفقيه التي لم يطلع عليها الاتحاديون والمؤتمرون في المؤتمر الاستثنائي سنة 1975.

تصميم الصفحة الأولى من العدد الأول من أسبوعية "البلاغ المغربي"  (1982)
محمد بنيحيى، وأحمد الجواهري (خطاط "المحرر" ودار النشر المغربية)، و
مصطفى لكرد وحميد نجاح (من الأطر التقنية لدار النشر المغربية)، وعبد الرحيم التوراني.
تصميم الصفحة الأولى من العدد الأول من أسبوعية “البلاغ المغربي” (1982)- محمد بنيحيى، وأحمد الجوهري (خطاط “المحرر” ودار النشر المغربية)، ومصطفى لكرد وحميد نجاح (من الأطر التقنية لدار النشر المغربية)، وعبد الرحيم التوراني.

كما ذهب لأخذ الاستشارة من عند السي عبد الرحمان، الأخ أحمد صبري، ليأخذ منه الموافقة على العمل بديوان وزير اتحادي سابق، هو عبد اللطيف السملالي، القيادي في الحزب الإداري الاتحاد الدستوري، الذي تزعمه وزير وبرلماني اتحادي سابق هو المعطي بوعبيد، والسملالي كان وزيرا للشبية والرياضة.

كثيرون هم من لجأوا إلى اليوسفي في تلك الفترة للاستشارة والحصول على “المباركة والتبريك”، وحاولوا أن يجعلوا منه “الملاك الحارس” للبيت الاتحادي. لكن اليوسفي كان دائما يبتسم في وجوههم ولا يردهم خائبين. على حد ما وصلني لم يشر اليوسفي على أي أحد من زواره برأي. غير عبارة: “الله يكمل بالخير.

فتجربة “البلاغ المغربي”، التي كنت أول سكرتير تحرير لها، والصحفي الوحيد بها عند انطلاقتها، ووجهت بسيل من الانتقادات من طرف المناضلين، الذين كانوا يرغبون في الاستمرار في الصمت الاتحادي المطبق، ما دام النظام يصادر جريدتهم الرسمية “المحرر”. وكانوا يسخرون في مجالسهم الخاصة من بنيحيى ومن أسبوعيته، ويسمونها “البلاء”، قبل أن يهبوا لمساندتها ودعمها بقرار صادر من صقيع مدينة ميسور، حيث كان عبد الرحيم بوعبيد يقضي حكما بالسجن مع اليازغي والحبابي. (يتبع)

_________________________________________________________________________

* مقال سبق نشره بزاوية “رأي” في موقع “لكم 2″، في شهر  يونيو 2020 

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!