عَنِ اليُوسْفي مرَّةً أُخْرَى: أُصْبُع دِينَامِيتْ فِي برْمِيلِ بَارُود.. أخْمَدَ آلافَ الحَرَائِقِ ليُشعلها في الذَّاكرات! (3-4) *

عبد الرحيم التوراني
برحيل عبد الرحيم بوعبيد في 8 يناير 1992، آلت قيادة الحزب إلى “السي عبد الرحمان”، لكنه سيواجه عراقيل كثيرة من المتحكم في التنظيمات الحزبية محمد اليازغي وبطانته، كان من بينهم تلميذه النجيب إدريس لشكر.
عمليا تحول الحزب في تلك الفترة إلى “كائن سيامي” برأسين في جسد واحد، في حاجة مستعجلة لعملية جراحية دقيقة، عملية ليست لفصل طرفين، ولكن تكون تدخلا جراحيا نتيجته التضحية بطرف على حساب آخر.
ولأن العملية دقيقة جدا وتحتاج لجرَّاح ماهر، فقد تأجلت. لتأتي محطة الانتخابات التشريعية سبتمبر 1993 وتضع حدًّا لاستمرارية اليوسفي على رأس الحزب، حين قرر مغادرة المغرب تاركًا رسالة من صفحة يعلن فيها استقالته، وهي الاستقالة التي كان لها أثرها الكبير في رجة سياسية كبيرة أصابت الأوساط الحزبية، وارتدَّ صداها داخل أروقة الحكم والنظام.
كانت فرصة لمحمد اليازغي ليتخلص من نعت “بالنيابة” الذي يلتصق بصفته، إذ كان يسمي نفسه في جريدة الحزب “الكاتب الأول بالنيابة”.
سيعلن الملك في الجلسة الافتتاحية لمجلس النواب في أكتوبر 1994، عن نيته القيام بما سمي بـ”التناوب”، هنا ستبلغ الحماسة بمحمد اليازغي مبلغها، أكثر من المتصور، هكذا خاض “السي محمد” (كما يسميه حواريوه) اجتماعات ماراطونية عامرة بالركض واللهاث مع الفرقاء في الكتلة، خاصة حزب الاستقلال، من أجل الاستجابة لأمنية الملك. وهو ما نظر إليه الاتحاديون بعين السخط، كيف يحصل ذلك وزعيم الحزب غائب في الخارج؟
لكن اليازغي ضرب بكل الانتقادات عرض الحائط، فالحزب لا يقوم على رجل واحد ولو كان اسمه عبد الرحمان اليوسفي.
ومشت الأمور على أن يتولى امحمد بوستة رئاسة الحكومة، وشرع في توزيع “الغنيمة” بتسمية الوزراء، مع التماس إلى الملك بالتخلي عن وزيره في الداخلية إدريس البصري.
لكن الحسن الثاني سيرفض إعفاء وزيره القوي، ونقل عنه الصحفي الفرنسي فراسوا سودان “أن الواحد لا يغير مديرة بيته بسهولة”، وأضاف نفس الصحفي في صفحة “سري” بمجلة “جون أفريك” أن الملك خاطب الراغبين في إبعاد البصري، “ما أعرفه أنا هو أن السي إدريس من أشد المدافعين عن الاتحاد الاشتراكي، عليكم منحه بطاقة انتساب إلى الحزب بدل المطالبة بإبعاده (!)”.
لكن ولد دوار “موكَارطو” في “ابن أحمد”، الزعيم العمالي محمد نوبير الأموي سيصل ذات نهار جمعة إلى اجتماع المتحمسين في التوزير، ويقلب عليهم أطباق الكسكس التي كانوا يتحلقون حولها، قائلا بغضب بدوي كيف تقررون نيابة عن الاتحاد وزعيمه مغيب؟!!
هكذا سيصدر بلاغ الديوان الملكي موقعا باسم مستشار الحسن الثاني أحمد رضا اغديرة، ينهي جولة التناوب إلى إشعار لاحق. فانفض القوم منهزمون يجرون ذيول الخيبة والغبن. فالقصر نفسه لم يكن متحمسا لمنح ثقته لامحمد بوستة، ولم يكن مقتنعا باليازغي للعب الدور.
ركلة بحذاء من ماركة “أوديربي”..
لم يعرف منتجع “كان” زيارات بنفس الحجم والكثافة لمغاربة ترددوا على اليوسفي من أجل إقناعه بالعودة والتراجع عن استقالته من مهمته في الحزب، منهم أعضاء في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ومنهم مبعوثين من طرف الملك، مثل المستشار الملكي محمد عواد، كما ذهب إلى “كان” في تلك الأيام آخرون، أحدهم سافر صحبة حرمه المصون، وقد أصبح لاحقًا عضوا في البرلمان، وفي العام الماضي صار سفيرًا للمغرب بإحدى البلدان اللاتينية، وتساءل القوم عندها من أين جاء هذا الشخص بهكذا مؤهلات (!)
وعاد اليوسفي إلى المغرب ونجح في عودة منفيين آخرين على رأسهم الفقيه البصري، ولأول مرة سيصوت الاتحاد بنعم للدستور المعدل سنة 1996، ولا زلت أحتفظ بالتسجيل الصوتي لحوار أجريته مع الفقيه يؤكد فيه على رفضه للتعديلات الدستورية، لكنه في صباح اليوم الموالي اتصل بي هاتفيا وطلب مني توقيف نشر الاستجواب، وستنشر جريدة “الاتحاد الاشتراكي” تصريحا للفقيه يؤيد فيه الدستور الجديد المعدل.
***
أعلن الملك الحسن الثاني يوم 3 مارس 1996 عن إصلاح الدستور المغربي.، قُدم الدستور الجديد للاستفتاء في 13 سبتمبر 1996، حيث تم الحصول على 96,56 ٪ من الأصوات لصالحه.
الإصلاح الذي طُرح في هذا الدستور هو إنشاء مجلسين، مع انتخاب غرفة مجلس النواب بالاقتراع العام المباشر، وإنشاء غرفة برلمانية ثانية تُدعى غرفة المستشارين، ينتخبون عن طريق الاقتراع غير المباشر.
استخدم اليوسفي سلطته المعنوية ورصيده التاريخي لإقناع الحزب بالقبول بالتصويت بـ “نعم” لدستور (13 سبتمبر 1996)، ولم ينجح في جر رفيقه محمد بنسعيد أيت يدر معه في ذلك القرار، حين كان بنسعيد على رأس حزب منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، وهو ما أدى إلى انشقاق عرف بتيار “فندق حسان”، نسبة إلى فندق راقٍ في العاصمة تعود ملكيته للقصر الملكي، حيث عقدوا به ندوة إعلان تأسيس الحزب المنشق (الحزب الاشتراكي الديمقراطي)، وظهر اسم عيسى الورديغي زعيمًا لهم. وقد تم لاحقًا حل منظمة العمل الديمقراطي الشعبي لينصهر مع فعاليات يسارية أخرى في حزب اليسار الموحد، (حزب الاشتراكي الموحد حاليا)، أما عيسى الودغيري فقد اختفى من الواجهة وغاب، وانضم رفاقه إلى الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وأطلق عليهم وصف (المندمجون) قبل أن يتراجع أكثرهم عن النشاط داخل الاتحاد.
حلف على المصحف
لما اتفق اليوسفي مع الحسن الثاني على تولي حكومة التناوب تم إخضاع اليوسفي للقَسَم على المصحف، قبل إخضاعه لإجراء فحوصات طبية أوضحت أنه بصحة جيدة. وكانت المرة الثانية التي يضع فيها عبد الرحمان اليوسفي يده اليمنى على كتاب الله لأداء اليمين، أما الأولى فكانت سنة 1943 ذات يوم من شهر ديسمبر، حين انخرط في حزب الاستقلال، كان القسم ينص على الوفاء بمبادئ الحزب والحفاظ على أسراره. لكن مضمون قسمه أمام الحسن الثاني ظل من الأسرار التي أخذها معه إلى قبره، أو على الأقل بقيت صيغة القسم غير معروفة وإن عرف المضمون، الحفاظ على النظام الملكي وتسهيل انتقال الملك من ملك إلى ملك. وهو القسم الذي لم يتم هضمه من الرفاق اليساريين أن يصدر من رجل يساري علماني.
وعندما أخبر صديقه البصري بعزمه العمل إلى جانب الحسن الثاني، سأله الفقيه عن الضمانات التي تلقاها، فرد عليه اليوسفي: “في السياسة ما كاينش لاصورانص” (لا تأمين في السياسة).
وذهب اليوسفي لتشكيل فريقه الحكومي، لكنه في كل مرة كان الملك يرفض الأسماء التي يقدمها له، فمثلا كان اليوسفي يرغب في جلب محمد الحلوي ليكون هو الأمين العام للحكومة أو لحقيبة وزارة العدل، لكن الحسن الثاني كان يكره الرئيس السابق للاتحاد الوطني لطلبة المغرب. كما رفض اقتراح المناضل ابراهيم أوشلح لتولي حقيبة الجالية المغربية المقيمة في الخارج.
وبعد مرور حوالي أربعين يوما اضطر اليوسفي للقبول بالتشكيلة التي تم تعيينها له. وكان أحمد الحليمي هو المسير الحقيقي للحكومة، عند استقبال الحسن الثاني لأعضاء حكومة اليوسفي، ووصل أحمد الحليمي، خاطبه الملك بالقول: “أنا كنعول عليك أسي أحمد”، ولم يتردد اليازغي في حوار له نشر بـ”المساء” وتم توثيقه في كتاب، أجراه معه الفلسطيني محمود معروف، في اتهام الحليمي بالعمالة لأجهزة المخابرات، و”لادجيد” تحديدا.
لم يكن اليوسفي يرجع إلى المكتب السياسي للانفاق معه واستشارته في الخطوات التي يخطوها، وأثناء هذه المرحلة كنت أحاور أحمد الحليمي في بيته بالرباط، عندما علمت أنه يخطط لانشقاق داخل الاتحاد، واستطاع أن يستقطب حوالي 35 من أطر الاتحاد إلى جانبه، صرح لي الحليمي إنه غاضب من اليوسفي بسبب ذهابه إلى دار إدريس البصري بدل ملاقاته في مكتبه بوزارة الداخلية من أجل ترتيبات تشكيل الحكومة. ومن بين الـ 35 كان محمد بنيحيى وحسن الصبار، لكن يبدو أن الأمور مضت في سياق تم فيه “تراجع” هؤلاء الغاضبين، وقد صار الحليمي هو “الكل في الكل” بالحكومة، وحسن الصبار وزيرا للسياحة، ومحمد بنيحيى عضوا بديوان السي عبد الرحمان. و”قضي الأمر الذي فيه تستفتيان”…
ومن بين أصدقائه في المهجر و”الكفاح المسلح” جاء بالعربي عجول في منصب الوزير المنتدب لدى الوزير الأول مكلف بالبريد والتقنيات الحديثة والاتصال. وما يحكى أن الحسن الثاني استدعى وزيره العربي عجول ليكلمه في شؤون وزارته، لكن العربي عجول أُرْتِج عليه، ولم يستطع النطق والكلام والرد على أسئلة الملك، وبقي الملك يتأمل في الوزير الجالس مرتعبا أمامه، ثم أمره بالانصراف. بعدها تم تعديل وزاري غادر فيه عجول الحكومة ليجيء مكانه طارق حجي.
بالإضافة إلى بنيحيى وعجول، من رفاق اليوسفي في مرحلة الخارج، عمل أحمد آيت قدور في ديوان محمد اليازغي وزير السكنى وإعداد التراب الوطني. وبعدما كان من “الثوار” وأحد المنسقين مع ضباط القنيطرة في انقلاب الطائرة 1972، عاد أيت قدور إلى المغرب ليقطع مع ذلك التاريخ وتلك الممارسات، وشن حملة شعواء ضد قائده السابق الفقيه البصري في استجواب نشر بـ”الأحداث المغربية”، وهي نفس الفترة التي نشر فيها عبد اللطيف جبرو سلسلة مقالات تهاجم الفقيه أيضا، وقام بجمعها في كتيب صغير، لكن تلك الحملات كانت مثل “الفرشي” فارغة، ولم تكن ذات مصداقية، ومليئة بالأكاذيب، ومنها أن الفقيه البصري حاول أن يغرق طفلة آيت قدور في مسبح!
ملكي أكثر من الملك
ما بين أبريل 1998 وأكتوبر 2002، الفترة التي تولى فيها منصب الوزير الأول كان اليوسفي يقتات من اسمه ومن سيرته المضيئة كمعارض سابق، وكأحد أبرز وجود المعارضة السياسية في المغرب. حاول التركيز على الملف الحقوقي، وواجه ما سماه بـ”جيوب المقاومة” وخصوم “التغيير”. وبعد وفاة الحسن الثاني جاءه امحمد بوستة ومحمد بنسعيد أيت يدر وطلبا منه تجديد العقد مع الملك الجديد، بالتنصيص على ملكية برلمانية، لكن اليوسفي رفض، وقد صار ملكيا أكثر من الملك. إلى أن صدم بعد أن استقبله محمد السادس وركب معه السيارة في جولة قصيرة بشاطئ المدينة، ووعده خيرا.
كان اليوسفي يستعد لتشكيل حكومته الثانية بعد أن حصل الاتحاد على المرتبة الأولى في انتخابات 27 سبتمبر 2002، لكنه سيفاجأ عندما سيعرف كباقي الناس من خلال نشرة التلفزيون أن الملك استقبل رجل الأعمال المستقل إدريس جطو وزير الداخلية وعينه وزيرا أول. وإدريس جطو هو صانع أحذية الملك، صاحب شركة “أوديربي” للأحذية في شارع مولاي سليمان بالدار البيضاء، كان هو من بعثه الحسن الثاني إلى بيت عبد الرحمان اليوسفي يوم الأربعاء 4 فبراير 1998، بعد أسبوع من عيد فطر تلك السنة، ليبلغه أن العاهل راغب في تعيينه وزيرا أول على رأس حكومة التناوب، فإذا به يخلفه خارج سياقات “المنهجية الديمقراطية” كما هي منصوص عليها في دستور 1996. ذلك ما عبرت عنه كلمات بيان صدر عن المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، بيان شاع أن من صاغ سطوره هو الأديب الشاعر والروائي محمد الأشعري.
ثم غادر اليوسفي إلى منتجعه اللازوردي معلنا اعتزاله الحياة السياسية بشكل نهائي لا رجعة فيه.
***
بعدها سيستغل اليوسفي دعوة تلقاها من منتدى في بلجيكا ليلقي محاضرة خصصها لتقييم تجربة حكومته، وهي المحاضرة المرجعية المعروفة في الأدبيات السياسية بـ”محاضرة بروكسيل”. (يتبع)