غسان كنفاني: الطفولة- الأدب- الماركسية- الجبهة الشعبية- مجلة الهدف
ترجمة: سعيد بوخليط
أجرى هذا الحوار مع غسان كنفاني، كاتب سويسري متخصِّص في أدب كنفاني، قبل أسابيع من اغتيال صاحب ”رجال في الشمس” يوم 8 يوليو 1972، بالتالي تندرج مضامينه ضمن الوثائق التّاريخية الأساسية قصد الإحاطة ببعض جوانب تراث كنفاني.
س- هل بوسعكَ غسان كنفاني أن تحدّثنا عن تجربتكَ الشّخصية؟
ج- أظنّ بأنّ تاريخي يعكس وسطا فلسطينيا تقليديا جدا. غادرتُ فلسطين في سنّ الحادية عشر وأنحدر من أسرة تنتمي إلى طبقة متوسطة. كان أبي محاميا ودرستُ في مدرسة فرنسية تبشيرية. فجأة، تَفَكَّكَتْ أوصال عائلتنا المنحدرة من الطبقة الوسطى ثم تحوَّلنا إلى لاجئين، فورا توقَّف أبي عن العمل نتيجة أصوله المجتمعية العميقة. عندما غادرنا فلسطين، واصل أبي العمل لكن بلا معنى، فقد أرغمه الوضع على ترك طبقته المجتمعية والانحدار صوب أخرى أقلّ مكانة، مسألة ليست هيِّنة. فيما يخصّني، بدأت الاشتغال منذ الطفولة والمراهقة قصد تلبية حاجيات الأسرة، وأكملتُ دراساتي بوسائلي الذّاتية بفضل مهنة لاتستدعي تأهيلا أكاديميا عاليا، أقصد مُعَلِّما داخل إحدى حجرات مدارس القرية. كانت بداية منطقية، لأنّها وضعية أتاحت لي إمكانية مواصلة دراساتي في السلك الثانوي. بعدها التحقتُ بجامعة دمشق، شعبة الأدب العربي، طيلة ثلاث سنوات، لكنّي طُرِدتُ لأسباب سياسية وهاجرتُ إلى الكويت حيث مكثت عشر سنوات، بدأت خلالها القراءة والكتابة. أمّا بخصوص مساري السِّياسي فقد انطلق سنة 1952، وأنا في عمر الرابعة عشر أو الخامسة عشر. خلال السنة نفسها، أو الموالية 1953، التقيتُ في دمشق صدفة للمرّة الأولى الدكتور جورج حبش. كنت أشتغل مدقّقا للاختبارات داخل مطبعة، لا أذكر تحديدا من عرّفني به، غير أنّ أواصر علاقتنا تبلورت منذ تلك اللحظة. التحقتُ فورا بصفوف الحركة القومية العربية وحينها انطلقت فعليا حياتي السياسية. خلال فترة تواجدي في الكويت، أظهرت فاعلية سياسية داخل صفوف تلك الحركة،التي تمثِّلها حاليا أقليّة مهمّة داخل الحكومة الكويتية.سنة 1967، تلقّيتُ اقتراحا بالانضمام إلى صفوف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الفصيل الفلسطيني لحركة القوميين العرب. سنة 1969، انتميتُ إلى هيئة تحرير مجلة ”الهدف” حيث أواصل الاشتغال.
س- هل بدأتَ الكتابة عقب دراساتكَ للأدب العربي؟
ج- لا، أعتقد بأنّ اهتمامي بالأدب العربي بدأ قبل هذه المرحلة. أحسّ بكونه جاء حصيلة تركيب نفسي، إن كانت ذاكرتي جيّدة. قبل الرّحيل عن فلسطين، درستُ في مدرسة فرنسية تبشيرية، مثلما أشرتُ سابقا. بالتالي، لم أمتلك لغة عربية رغم أنّي عربيّ، وضع خلق لديّ عدّة مشاكل، وسخرية أصدقائي نتيجة عدم تمكّني من اللغة العربية. لم أختبر هذا الأمر حينما كنت في فلسطين، بحكم وضعي الاجتماعي. لكن عندما غادرت، ومعرفتي بأصدقاء جدد انتموا إلى طبقة اجتماعية أخرى لاحظوا من الوهلة الأولى ضعف مستوى عربيتي وتوظيفي تعابير غربية خلال أحاديثي، ممّا دفعني قصد التخلّص من المعضلة التركيز على اللغة العربية. أستعيد واقعة تعرُّضي لكسر على مستوى القدم نتيجة حادثة سير، سنة 1954 إن لم تخني الذاكرة، فأرغِمْتُ على المكوث طريح الفراش طيلة ستّة أشهر. شكّلت الحادثة فرصة لدراسة العربية بكيفية فعلية.
س- يمكن الاستشهاد حسب اعتقادي بأمثلة عديدة عن تاريخ شخصيات ”أضاعت” لغتها ثمّ سعت إلى استرجاعها ثانية. هل تتصوّر بأنّها عملية تؤدّي إلى تطوّر الشخصية سياسيا؟
ج- لا أعرف، قد يكون المنحى كذلك. فيما يخصّني، أضحيتُ مسيّسا بكيفية مختلفة. انتميتُ مبكرا جدا إلى عالم السياسة خلال فترة حياة المخيّمات بحيث عشتُ في تماسٍّ مباشر مع الفلسطينيين ومشاكلهم من خلال بالتالي اختبرتُ حقبة طفولتي هذا المناخ الحزين والوجداني. لم يكن صعبا في غضون ذلك اكتشاف الجذور السياسية للسياق الذي يحيط بي. عندما شرعتُ في التّدريس، واجهتُ صعوبات كبيرة مع أطفال المخيّم، ينتابني الغضب عندما أرى طفلا نائما أثناء الحصّة، فيما بعد اكتشفتُ ببساطة علّة ذلك: يشتغل هؤلاء الأطفال ليلا، يبيعون الحلوى أو العلكة وأشياء من هذا القبيل داخل قاعات السينما والأزقّة. طبعا، يأتون إلى الفصل مرهقين. معطيات وضعية تهتدي بالشخص فورا نحو أصل المشكلة.حينها اكتشفتُ بوضوح أنّ منام الطّفل ليس استخفافا بي أو امتعاضه من التعلّم، ولا بكرامتي كمدرِّس، بل مجرّد انعكاس لقضية سياسية.
س- إذن ساهمت تجربتكَ في التّدريس على تطوير وعيكَ المجتمعي والسِّياسي؟
ج- نعم، أذكر حدوث هذا الأمر فورا ذات يوم.كما تعلم، يدرّس معلِّمو المدرسة الابتدائية مختلف المواد،بما فيها الرّسم، الحساب، الانجليزية، العربية ودروس أخرى. كنتُ بصدد محاولة تعليم الأطفال كيفية رسم فاكهتي تفّاحة وموز حسب البرنامج المقترح من طرف الحكومة السورية، مادامت الضرورة تقتضي الامتثال للمنهاج الدراسي. خلال تلك اللحظة، وأنا أتوخَّى رسم الصّورتين على السبُّورة بشكل أفضل قدر المستطاع، لكنّي أحسستُ بشعور الاستلاب وعدم الانتماء؛وأتذكّر إلحاح شعور إبّان تلك الفترة يلزمني بضرورة القيام بشيء معين، فقد أدركتُ حتى قبل تأمُّل وجوه الأطفال الجالسين خلفي،أنّهم لم يكتشفوا قط الفاكهتين المقصودتين،لذلك تمثّل آخر اهتماماتهم،بحيث تنعدم أيّ علاقة بين هؤلاء الأطفال والصّورتين. تحديدا، العلاقة متوتّرة بين مشاعرهم وتلك الرسوم، وليست على ما يرام. جسّدت معطيات اللحظة منعرجا محوريا، وأستعيد تماما تلك اللحظة الخاصة من بين جلِّ وقائع حياتي.هكذا، بادرتُ إلى محو السبّورة ثم طلبتُ في المقابل من الأطفال أن يرسموا مخيّما. بعد مرور أيام، حضر المفتِّش إلى المدرسة، ثمّ كتب تقريرا مفاده انزياحي عن إطار البرنامج المحدّد من طرف الحكومة، تأويل يعني بأنّي مدرِّس فاشل. قادتني مباشرة إمكانية الدّفاع عن نفسي نحو القضية الفلسطينية. تراكم خطوات صغيرة من هذا القبيل يدعو الأفراد كي يتّخذوا قرارات تطبع كل حياتهم.
س- تعليقا على هذه الإشارة، أعتقد بأنّه حين انخراطك في الفنِّ، باعتبارك اشتراكيا في كل الأحوال، انطلاقا من موضوع رسم الفاكهتين، حاولتَ إعادة ربط الفنِّ مباشرة بالمجالات الاجتماعية، السياسية والاقتصادية. لكن ما يتعلّق بكتاباتكَ، هل ترتبط بحقيقتكَ ووضعيتكَ الحالية، أو تأتي من رافد إرث أدبيّ؟
ج- صدرت قصَّتي الأولى سنة 1956، تحت عنوان ”شمس جديدة”، انصبّ مضمونها على واقع طفل في غزة. حينما أتصفّح مختلف الحكايات التي كتبتها عن فلسطين غاية الآن، أتبيَّن بوضوح ارتباط كلّ حكاية منها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مع تجاربي الحياتية، وفق خيط ضعيف أو متين.هكذا، تطوَّر تماما أسلوب كتابتي خلال الفترة الممتدّة بين سنوات 1956 و1960، أو 1962 أكثر تحديدا. بداية، كتبتُ عن فلسطين باعتبارها قضية في حدّ ذاتها؛ وكذا الأطفال الفلسطينيين، والفلسطيني ككائن إنساني، والآمال الفلسطينية، حقائق منفصلة ومستقلّة بعوالمها؛ مثل وقائع فلسطينية حتمية لامفرّ منها. ثمّ اتّضح لي بجلاء أنّي أرى في فلسطين رمزا إنسانيا متكاملا. عندما أكتب عن أسرة فلسطينية، فإنّي أكتب فعليا عن تجربة إنسانية. لا توجد واقعة في العالم لم تعكسها التراجيدية الفلسطينية. عندما أرصد واصفا بؤس الفلسطينيين، أرى في الواقع الفلسطينيين كرمز للبؤس في العالم قاطبة. يمكنني القول بأنّ فلسطين تختزل العالم برمّته بين طيّات حكاياتي. بوسع النَّاقد الأدبي حاليا ملاحظة اهتمام حكاياتي ليس فقط بالفرد الفلسطيني ومشاكله، لكن أيضا الوضع الإنساني لشخص يكابد نتيجة هذه المشاكل، التي تتبلور أكثر ربما مع حياة الفلسطينيين.
س- هل رافق تطوّركَ السّياسي نظيره الأدبي؟
ج- نعم. لا أعرف في الواقع، أيُّهما يتقدّم الآخر. قبل البارحة، أعدتُ قراءة واحدة من حكاياتي التي كتبتها سنة 1961 وأنتِجَت فيلما. شاهدتُ هذا الفيلم وفق منظور جديد، لأنِّي اكتشفتُ بغتة بأنَّ حوار أبطاله، خطُّهم الفكري، طبقتهم الاجتماعية، تطلُّعاتهم وجذورهم خلال تلك الحقبة، تعبّر عن أفكار متقدّمة قياسا لفكري السياسي. يمكنني القول بأنّ شخصيتي كروائي أكثر تطوُّرا من شخصيتي السياسية، وليس العكس، ويتجلى ذلك بين ثنايا تحليلي وفهمي للمجتمع.
س- هل تعبِّر كتابتكَ عن تحليل لمجتمعكَ، أو تلوِّن أيضا تحليلاتكَ بكيفية عاطفية؟
ج- أفترض ارتكاز حكاياتي في البداية على وضعية عاطفية. لكن بوسعي القول بأنّ كتابتي شرعت تعبِّر عن الواقع ابتداء من سنوات الستّينات. قادتني ملاحظة هذه الحقيقة ثم الكتابة على ضوئها إلى تحليل جوهري. تفتقد حكاياتي نفسها إلى التّحليل. لكنها، تسرد الطّريقة التي يتفاعل بحسبها أبطالها، والقرارات التي يتّخذونها، ثم مبرّرات تبنّيهم لها، وإمكانية تبلورها، إلخ. تجسّد متون رواياتي طبيعة الوضعية مثلما أفهمها، دون تحليل.أما بخصوص سعيي نحو الإقرار بأنّ نصوصي السّردية أكثر تطوُّرا من آرائي السياسية، فيرتبط ذلك باندهاشي الصّادق وأنا أتعقَّب تطوّرات شخصيات ابتعدت عنها منذ سنوات، كما لو أشاهد وقائع فيلم. اندهشتُ حينما استمعتُ ثانية لحوار شخصياتي حول قضاياهم وإمكانية مقارنة حوارهم مع المقالات السياسية التي كتبتها خلال الحقبة ذاتها، واتَّضح لي أن أبطال القصة يقاربون الأشياء بكيفية عميقة جدا وأكثر صوابا من مقالاتي السياسية.
س- أشرتَ بأنّ عملكَ السياسي انطلق بالموازاة مع التحاقكَ بحركة القوميين العرب خلال يوم التقائكَ بجورج حبش سنة. 1953 متى آمنت بمبادئ المرجعية الاشتراكية؟ ولم تكن حركة القوميين العرب حركة اشتراكية خلال بداياتها.
ج- لا، لم تكن كذلك. انصبّت وجهة الحركة القومية العربية ضدّ الاستعمار، الامبريالية وكذا التّنظيمات الرجعية، ولم تتبنّ حينها خطّا إيديولوجيا. مع ذلك، استلهمت الحركة مسارا اشتراكيا خاصا بها خلال سنوات نضالها. أتاحت مناهضة الامبريالية حافز الاشتراكية في خضمِّ استمرار معركة المقاومة والتصدّي إلى الامبريالية. فمن الطبيعي، أن يفضي تطوُّر الحركة المناهضة للامبريالية نحو الأفق الاشتراكي. أنجز القوميون العرب هذا الأمر نهاية سنوات الخمسينات. لقد فهموا عدم إمكانية خوض الحرب قصد مواجهة الامبريالية إذا لم تتحقّق خطوة الارتكاز على طبقات اجتماعية معيّنة: طبقات تقاوم الامبريالية من أجل الكرامة، لكن أيضا سعيا إلى وسائل البقاء والاستمرارية، ويقود هذا السبيل مباشرة صوب الاشتراكية. لكن أضمرنا داخل مجتمعنا وحركتنا القومية العربية، حساسية معيّنة نحو المبادئ الماركسية-اللينينية وليس الاشتراكية، نتيجة أخطاء اقترفتها الأحزاب الشيوعية داخل العالم العربي. لذلك، استعصى كثيرا قبل سنة 1964 على الحركة القومية العربية اختيار نهج الماركسية-اللينينية. بيد أنّه سنة 1967، تحديدا شهر يوليو، اعتمدت الجبهة الشعبية مبادئ الماركسية-اللينينية وشكَّلت المكوِّن الوحيد وسط الحركة القومية العربية التي انتقلت نحو هذه الخطوة، وغيّرت اسمها كي تصير حزب العمل الاشتراكي بينما سمّي الفرع الفلسطيني بالجبهة الشعبية. حتما، يتعلق الأمر بتبسيط للمشكلة.لقد ترعرعنا داخل الحركة القومية العربية،التي عاشت صراعا دائما بين مايسمّى اليمين واليسار. خلال كلّ مرّة، يتغلّب اليسار نتيجة رؤيته التقدُّمية المناهضة للامبريالية وكذا التوجّهات الرجعية، مقارنة مع من موقف اليمين.توجّه أفضى نحو اختيار الماركسية-اللينينية. فيما يخصني، لا أتذكَّر حاليا إن كان موقفي من الصّراعات التي تنبعث داخل الجبهة يميل يمينا أو شمالا، مادامت الحدود بين اليمين والشمال لم تتجلّى بعد خلال تلك الحقبة كما الوضع حاليا، مثلما كان الشأن مثلا داخل الأحزاب السياسية المتطوِّرة. لكن بوسعي القول على أنّ الحركة القومية العربية ضمّت صفوفها عناصر شابّة، ضمنهم أنا، أظهرت سخرية من حساسية الشيوخ نحو الشيوعية. بالتأكيد، لم نكن شيوعيين خلال تلك الفترة أو مؤيِّدين للشيوعية. مع ذلك، لعب الجيل الجديد دورا أوّليا فيما يتعلّق بصيرورة الحركة القومية العربية نحو أخرى ماركسية لينينية. المصدر الجوهريّ لهذا التحوُّل انحدار أغلبية عناصر الحركة القومية العربية من الطبقة الفقيرة بينما كان محدودا عدد الأعضاء المنتمين إلى البورجوازية الصغرى أو الكبرى ثم غادروا الحركة، بعد سنتين من الانتماء.كما الشأن بالنسبة لأعضاء آخرين من نفس الطبقات، بحيث خرجوا من صفوف التنظيم بعد فترة وجيزة.في المقابل، استمرّ وجود أفراد الطبقات الفقيرة، وشكّلوا بسرعة قوة ضاغطة داخل الحركة القومية العربية.
س- متى شرعتَ في دراسة الماركسية-اللينينية؟ هل تذكر اللحظة بالضّبط؟
ج- أعتقد بأنّ تجربتي بهذا الخصوص تقليدية. أوّلا، كنتُ ولازلتُ معجبا بالأدباء السوفيات.إعجاب مطلق خلال تلك الحقبة، ساعدني على تكسير الجليد بيني والماركسية. ضمن السياق، جاء اهتمامي بالماركسية خلال حقبة مبكِّرة من خلال قراءاتي وانجذابي نحو هؤلاء الأدباء. من ناحية أخرى، تزوَّجت أختي سنة 1952 مسؤولا شيوعيا بارزا، شخص ألهم حياتي خلال تلك الحقبة المبكِّرة. أيضا، عندما هاجرتُ إلى الكويت، قطنتُ منزلا صحبة ستَّة شباب آخرين، وبعد أسابيع من وصولي، اكتشفتُ بأنّهم يشكّلون خليّة شيوعية. هكذا، بدأتُ باكرا جدا في قراءة الماركسية، ولا أعلم كم استغرقتُ خلال تلك الحقبة والمرحلة، تحت تأثير هذه المشاعر ضمن صفوف الحركة القومية العربية، ولا يمكنني تقدير فهمي أو استيعابي للمادة التي أقرأها في حين بدا المضمون مألوفا.
س-ربما طوَّرت هذه التأثيرات نصوصكَ السّردية الأولى قياسا إلى أفكاركَ السياسية خلال الحقبة. أعتقد بأنّ قراءاتكَ للأد ب الروسي واحتكاكك مع الماركسيين قد عكسته كتاباتكَ؟
ج- لا أظنُّ بأولوية هذه العوامل، بل مثّل الواقع نفسه مصدر التَّأثير الكبير لكتابتي: أراقب تجارب أصدقائي، والداي، إخوتي،أخواتي، تلامذتي، ثم حياتي داخل المخيَّمات تحت كنف الفقر والبؤس. لعبت هذه المعطيات دورا على مستوى توجيهي. ربّما انكبابي على الأدب الروسي أساسه قدرته على التعبير، والتّحليل، والمقاربة وكذا وصف ما كنت أعيشه فعليا، ويستمرّ حتما هذا الإعجاب. مع ذلك، لا أعرف مدى تأثُّر الكتابة بالأدب السوفياتي، وحجمه. أفضِّل بالأحرى الإقرار بأنّ المصدر الأول لمساري يعود إلى حقيقة الوضع نفسه، حيث استلهمت القوّة والخيال. لم أختر أبطالي لأسباب فنية وأدبية، لكنّها أتت جميعها من المخيّم، وليس خارجها. فيما يتعلّق بالشَّخصيات الفنِّية لقصصي الأولى، فقد كانت دائما سيِّئة نتيجة تجربتي مع مرؤوسي في العمل. الحياة نفسها مارست تأثيرا كبيرا على كتاباتي.
س- تنتمي إلى الطبقة المتوسطة، لكنَّكَ تحوّلت إلى البروليتاريا منذ طفولتي.
ج- نعم، بالتّأكيد، تعود أصولي إلى الطَّبقة المتوسطة لأنَّ أبي انتمى إلى تلك الطبقة قبل الرَّحيل صوب سوريا مثل لاجئين. ارتباط أسرتي بجذورها الطبقية، أبعد عن واقع، لا علاقة له بهذه الأصول. أدّينا نحن الأطفال ثمن هذا التّناقض بين الماضي والواقع. بالتالي، صارت علاقاتي عدائية مع أفراد طبقتي بدل أن تكون وِدِّية، ولاأدّعي انتسابي إلى البروليتاريا، فلم أكن بروليتاريا حقا، أو انحدرت منها خلال تلك الحقبة، بل مانسميه حسب لغتنا بـ”الطبقة الاجتماعية المهمَّشة”، طبقة لا ينتمي عناصرها إلى الجهاز الإنتاجي، لكنهم يعيشون على هامش البروليتاريا. وضع أتاح لي حتما إمكانية استيعاب إيديولوجية البروليتاريا.
س- إذن، منذ البداية، أبديتَ قدرة على رؤية الحقيقة من خلال منظور المظلومين؟
ج- نعم، يمكن الإقرار بذلك.فلم يتبلور تصوُّري بكيفية علمية، تحليلية، لكنه جاء ببساطة تعبيرا عن حالة عاطفية.
س- لنعد حاليا إلى سنة 1967، فترة ولادة ”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”. ما هي قناعات هذا التنظيم وكذا مبرّرات خلق تنظيم جديد؟
ج- مثلما تعلم، لم تكن الجبهة الشعبية تنظيما جديدا، بل تعلّق الأمر أساسا بالمكوِّن الفلسطيني للحركة القومية العربية التي انتميتُ إليها وتطوّر بداية عبر إطار الحركة سنة 1967. لقد أنشأنا ”الجبهة الشعبية” لأنّ العالم العربي يشغل الحيّز الأوّل ضمن الفضاء السياسي. تطوّر كثيرا الفرع الفلسطيني واختبر تغيّرات على مستوى وجهته وكذا ذهنية أعضائه، ثم الانتماء إلى الجبهة الشعبية. حتما، التحقتُ شخصيا بالجبهة الشعبية نتيجة إيماني بأنَّها حزب يمثّل مرحلة متقدِّمة نسبيا مقارنة مع تنظيمات سياسية أخرى في مجال العمل الفلسطيني. إذن، شكّل الاعتقاد بخصوص إمكانية بلورة رؤاي المستقبلية، الحافز الجوهري كي أنظمّ إلى صفوف الجبهة الشعبية.
س- كيف ترى دوركَ داخل التنظيم، انطلاقا من طبيعة موقعكَ كرئيس لتحرير أسبوعية الهدف، وهل بوسعكَ أن تحدّثنا عن أسلوبها في تعبئة الجماهير؟
ج- أنا عضو داخل تنظيم، يشكّل في نهاية المطاف هيئة محكومة بمرجعية واستراتجية سياسية خاصة. أيضا امتلك نهجا تنظيميا وإداريا استلهم المبادئ الديمقراطية الأساسية. لذلك، حينما فوّضت لي الإدارة هذا الموقع النوعي، ألزمتني طبيعة المهمّة الامتثال لمقوِّمات برنامج معين. أنا عضو في الهيئة الإعلامية المركزية للجبهة الشعبية. يشكِّل منبر الهدف جانبا من البنية الإعلامية للجبهة، حسب تصوٌرنا للإعلام، الذي لا ينبغي اقتصاره على البروباغندا، بل يتجاوز ذلك نحو التربية، إلخ. لستُ المسؤول الأول، لكنها وظيفة أوكلت إلى هيئة مركزية، وأنا ممثّلها في مجلة الهدف.عمليا، يلزمني الاهتمام بالجانب التنظيمي لهذه المؤسّسة، لكن لدينا لجنة قراءة وكذا تقييم سير العمل، تدبّج مقالات وتناقش الافتتاحيات. تضمّ الجبهة الشعبية، عشرات الأقسام المشابهة، وتعتبر ربّما مؤسّستنا الأصغر مقارنة مع الباقي. أيضا، تنطوي هيكلة الجبهة الشعبية على حلقات تمارس أنشطة مجتمعية وسياسية داخل المخيّمات، ثمّ من يشتغل داخل الجيش ومخيّمات أخرى، لكن في نهاية المطاف تتكامل أهداف مشروعنا. حتما، العناصر المكلّفة بجوانب تنظيم النّدوات، والبرامج التّربوية، ثم سلسلة اللّقاءات والاتّصالات مع الجماهير، تستفيد من منبرنا الإعلامي قصد التعبير عن وجهة نظر الجبهة الشعبية، يناقشوننا بخصوص موضوع الجماهير. بالتالي، نتيجة هاته العلاقات الديناميكية بيننا جميعا، تتحمّل مختلف الحلقات معركة تعبئة الجماهير.
س- ما طبيعة العمل في المجلة نفسها؟
ج- عمل مرهق جدا، وهذا ما أحسُّه في اللّحظة الراهنة وقد أنهيتُ توضيب عدد هذا الأسبوع. أشعر بالتّعب والأمر ليس سهلا بالنسبة لمن يشتغل داخل منبر من هذا القبيل. عندما تضع نقطة انتهاء عند الجملة الأخيرة لعدد معين، تجد نفسكَ ثانية أمام عشرين صفحة بيضاء تحتاج للانجاز. أيضا، يناقشنا أعضاء الجبهة الشعبية حول كل سطر أو صورة، والانتباه إلى أدنى خطأ. إذن تخضع المجلة إلى النّقد والاشتغال على هيكلتها ليس كالاشتغال على واجهة صحفية عادية، تقتضي مجرّد القيام بالعمل المألوف. تركز مختلف دوائر الجبهة الشعبية على أبسط تفاصيل المجلّة ومناقشة حيثيات كل عدد. يصعب إذن جدا تقديم عمل متكامل أمام هذه المحكمة الكبيرة، التي تألّفت من عناصر مختلفة تنتمي إلى الجبهة الشعبية. في خضمّ هذا الوضع يشغل الشخص هاجس ضرورة العمل بجدّية أكبر. فضلا عن ذلك، نعيش حاليا داخل بلد في طريق التنمية. ضمن هذا الأفق، يحاول كل قطاع داخل تنظيمنا المقاوِم، جذب أشخاص يمتلكون مواهب وكفاءات، كيفما كانت طبيعتها، قصد تنفيذ العمل المطلوب، وتفعيل المخطَّطات المحدَّدة باعتبارها أشياء جوهرية. داخل مجلة الهدف، كان لدينا عدد صغير من الموظّفين، وعندما نلتمس من الجبهة الشعبية تطعيم الطاقم بأشخاص آخرين، ينتظرنا الجواب التالي: “بل نطلب منكم أن تضعوا رهن إشارتنا اثنين أو ثلاثة من الأشخاص العاملين لديكم قصد تقديم تعليم قاعدي، لأنّ العمل القاعدي أكثر أهميّة من الاشتغال في الجريدة“. حينها نلتزم الصمت، خشية أن ينتزعوا منا بعض الموظّفين. يصعب على الآخرين تصور إشراف فقط ثلاثة أشخاص على طبع مجلة الهدف، منذ ثلاث سنوات. أحيانا، نتلقى مساعدة إضافية من شخص رابع، لكنه يغادرنا، ثم يحلَّ محلَّه آخر وتتكرّر العملية.
س- إذن يلزمكم العمل ليلا ونهارا؟
ج- نعم.أعتقد بأنّ زملائي في العمل يشتغلون خلال اليوم الواحد مدّة تقارب ثلاثة عشر أو أربعة عشر ساعة، دون توقف أو عطلة أو رحمة حيال الانتقادات. بهذا الخصوص، تعرَّضنا لجملة انتقادات من طرف شخصيات تنتمي إلى نفس تنظيمنا، أو الإدارة وكذا منابر إعلامية أخرى.
س -هل تعتقد بأنّ أسبوعية الهدف منبر تقدُّمي، تُقرأ مضامينه وفق مرجعية تقدّمية بناء على وجهة نظر سياسية نظرية؟
ج- نعم، وأعتقده وضعا يطرح إشكالية معيَّنة. لا أتوخّى الثّناء على المجلة، لكن يصعب للغاية التّعبير عن أفكار سياسية ونظرية عميقة بكيفية بسيطة. قليل هم الأشخاص الذين امتلكوا هذه الكفاءة. تواجد داخل تنظيم الجبهة الشعبية، اسمان كان بوسعهما الإفصاح عن أفكار عميقة بكيفية بسيطة وكل من يقرأهما يستطيع فهمهما. أقصد تحديدا جورج حبش، ثم أحد القادة العسكريين الذي دبّج نصوصا رائعة. بينما يصير الأمر مستعصيا على الآخرين، لاسيما حينما يفتقدون لتراكمات سابقة. لقد واجهتنا دائما انتقادات من طرف القاعدة، وإقرارهم لنا بالصعوبة الكبيرة لاستيعاب ما تنشره أسبوعيتنا، وينبغي تبسيط الأشياء والكتابة بطريقة أسهل.لذلك يأخذ تحضير العدد الواحد وقتا طويلا،لأنّه يلزمني إعادة فحص الوثيقة وتبسيط بعض المحاور التي تحتاج إلى التعديل بعد كتابتها. أعتقد بأنّ إنشاء جرائد ثانية داخلية بين مناضلي الجبهة الشعبية من شأنه تيسير مهمّتنا ومواصلة عملنا ضمن نفس الوجهة. يمكن لجريدة داخلية تعميم أفكار سهلة وبسيطة. أمّا بالنّسبة لجريدة عمومية مركزية مثلما الشأن مع أسبوعية الهدف، تقتضي تبنّي خطّ صارم، فلا يمكنها تقديم نفس خدمة الجرائد الداخلية. لهذا الغرض، نسعى حاليا حصر عدد المقالات التي تتطرَّق إلى أفكار سياسية عويصة عن الإفهام، بحيث تشغل مقالات من هذا النّوع مساحة صفحات قليلة وتركيزها على المعارك السياسية المباشرة.
س- هل تنشر على صفحات الهدف، نصوصا أدبية مثل الشعر وكتابات أخرى تندرج ضمن نفس المقام؟
ج- نخصِّص صفحتين للأدب، النّقد السينمائي، المسرح، الفنّ، الرسم، إلخ. أعتقد بأنّ الصُّحفيين الذين يشار إلى أسمائهم في أعلى الصفحة يعتبرون الأكثر شهرة مادام كثير من عناصر الجبهة الشعبية يستوعبون مسار فكر اليسار عبر هاته الصفحات.
س- هل أصدرتَ روايات؟
ج- ليس لدي الوقت للكتابة منذ بداية عملي في الهدف. بالتالي، لم أصدر حديثا سوى قصّتين حول امرأة عجوز اسمها ”أمّ سعد” لازلت بصدد الكتابة عنها. أفتقد إلى مساحة زمنية تسمح لي بكتابة نصوص أدبية فالأمر متعب للغاية.
س -هل تتطلّع أكثر نحو الكتابة؟
ج- بشكل عام،حينما أغادر المكتب وأعود إلى البيت، أشعر بتعب شديد وتنعدم لديّ القدرة على الكتابة، أستعيض عن ذلك بالقراءة، حتما خلال فترة لاتتجاوز يوميا ساعتين نظرا لعدم إمكانية أن أحيا بغير هذه الوتيرة.بعد الانتهاء من القراءة، تلحّ عليّ رغبة النّوم أو مشاهدة فيلم رغم سخافته، نظرا لعجزي عن الكتابة.
س -هل تظنّ بأنّ التّطورات الحديثة داخل الجبهة الشعبية تُتَرجم بكونها صارت مجال سجالات مستفيضة، بدل انخراط الجماعة في أنشطة عسكرية؟
ج- لستُ متّفقا معك. بالفعل، ألححنا دائما داخل الجبهة الشعبية على خطّ استراتجي معيّن شعاره أنّ كلّ سياسي بمثابة مقاوم وكلّ مقاوم يعتبر سياسيا. فيما يتعلّق بملاحظتك، فلا تقتصر على تنظيم الجبهة الشعبية. تعود هذه الظاهرة إلى وضعية التَّراجع الحالية التي تعانيها حركة المقاومة الفلسطينية عموما نتيجة الظروف الموضوعية التي تسعى إلى تدميرنا خلال هذه الفترة. نكابد هذا المآل منذ سبتمبر 1970، مما يَحُول دون تقدُّم الأنشطة العسكرية. بالنّسبة للجبهة الشعبية، فقد رفعت من وتيرة عملياتها العسكرية خلال العامين الأخيرين، داخل غزة، الضفّة الغربية وكذا إسرائيل، لكن الأخيرة تعمل على إخفاء مايحدث. سنواصل رسم أهدافنا بفعّالية، نتوفّر على قواعد عسكرية جنوب لبنان ونهيِّئ لحرب شعبية سرّية ضدّ الرِّجعيين في الأردن. صحيح، تسود حالة انهيار وأجواء الاستبداد العامة التي تعضّدها النُّظم العربية تؤثِّر على مواقف الرأي العمومي، ثمّ يعتقد الأشخاص جراء استنتاج مغلوط أنّنا سنوقِّف عملياتنا العسكرية.
س- كيف لحالة الانحدار بحسبكَ، ممارسة تأثيرها على الفلسطيني دون الرّجوع إلى مسار سياسيّ معيّن؟
ج- الحركات السياسية مثل الكائنات البشرية. حينما يتمتّع الشخص بصحّة جيّدة، والشّهرة والثّراء، يحتشد كل أصدقائه حوله والجميع يحيط به. لكن عندما يشيخ، ويغدو مريضا ويفقد أمواله، يبتعد هؤلاء الأصدقاء. حاليا، ننتقل باعتبارنا حركة مقاومة من مرحلة، قد أصفها بالخمول. يحسّ الفلسطيني بتقويض أحلامه التي بناها خلال السنوات الأخيرة. إحساس مؤلم، كما تعلم، وأعتقد بكون العديد من رفاقي يتقاسمون قناعتي: مرحلة ظرفية.عندما يكتشف الفلسطيني بأنّنا نقاتل عدوّا ضخما يستحيل التغلّب عليه خلال سنوات معيّنة، وحربنا طويلة النَّفس وإمكانية انهزامنا خلال مناسبات عدّة، يغدو حينها وفاء الفلسطيني نحو الثورة الفلسطينية أقلّ هشاشة وانفعالية. أومن بإمكانية تحفيز الجماهير مرّة أخرى عندما نحقّق انتصارنا الجديد، وأنا على يقين من تحقُّقه. لا يخيفنا هذا ”الوقت الميّت”، مثلما أحبّ وصفه. الأمر عادي مادام المسؤولون العرب والنَّاطقون باسم وسائل الإعلام قدّموا وعودا كثيرة إلى الجماهير، تتباهى بانتصار سهل الانجاز. لكن حاليا اكتشف الكثير من العرب بأنَّها مجرّد وعود زائفة. بالتالي، لا أظنّ بأنّ فتور الفلسطيني حاليا بمثابة ظاهرة أصيلة وراسخة. سنتجاوز هذه المرحلة مستقبلا ويتعضَّد أكثر من ذي قبل وفاء الجماهير للثورة.
س -هل كنتَ، أو إدارة الجبهة الشعبية، في غاية التفاؤل سنوات 1967، 1968، أو 1969؟ هل تبلورت تطلُّعات كبيرة؟ هل اعتبرتَ ورفاقكَ النِّزاع سهلا؟
ج- لا، بالعكس، وجَّهت الجبهة الشعبية تحذيرا إلى مختلف القوى الشعبية مفاده أنّ القضية ليست سهلة. أيضا طرحنا مرارا تحذيرات بخصوص إمكانية هزيمتنا وحدوث حمَّامات دم، ومآسي عدَّة ومذابح. أشرنا باستمرار إلى تلك الحقائق، لكن عموما، قدّمت إدارة الثَّورة الفلسطينية وعودا إلى الجماهير بتحقيق انتصار سهل. مع ذلك، نحن متفائلون جدا، ويمكنني تأكيد الحقيقة بالقول أنَّ وضعيتنا الحالية، رغم منحى تراجعها ونضالنا الصّعب، تعتبر أفضل من سياق أعوام 1967، 1968، أو 1969، من وجهة نظر علمية وكذا حركة مقاومة، يتمّ وفقها تقييم الحركة التاريخية، وليس بناء على مظاهر سطحية.
*هامش:
Samidoun : palestinian prisoner solidarity network.12 -07- 2022.
