غياب صنع الله إبراهيم… صوت الحرية والوثيقة في الرواية العربية
فاطمة حوحو
صباح هذا اليوم، الأربعاء 13 أغسطس 2025، غيَّب الموت الكاتب والروائي المصري الكبير صنع الله إبراهيم في القاهرة عن عمر ناهز 88 عامًا، إثر إصابته بالتهاب رئوي حاد.
ويشكل رحيله خسارة ثقافية كبيرة للمشهد الأدبي العربي، إذ كان أحد الأصوات الأكثر استقلالية، صوتًا للضمير والمجتمع، ومعبرًا عن هموم المهمشين والطبقات المسحوقة.
لم يكن صنع الله إبراهيم مجرد روائي، بل كان شاهدًا على العصر، يجمع بين الإبداع الأدبي والموقف السياسي الصريح، وقد استطاع في أعماله أن يخلق جسرًا بين الرواية والواقع الوثائقي، بين التاريخ الشخصي والتاريخ السياسي والاجتماعي لمصر والعالم العربي.
مواقفه السياسية وصوت المثقف المستقل
لم يكن صنع الله إبراهيم مثقفًا يتفرج، بل مشاركًا في الأحداث عبر موقفه الصريح والمستقل:
في العام 2003 رفض الجائزة، رفض تسلم جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، معلنًا أن مصر “تمارس التعذيب وتقمع حرية التعبير وتحاصر الثقافة الحقيقية”. كانت هذه الخطوة علامة فارقة على استقلالية المثقف، وأكدت رفضه للمساومة مع السلطة.
تجربة السجن
انتمى مبكرا للحزب الشيوعي المصري واعتقل بين عامي 1959 و1964، وخاض تجربة أساسية شكلت وعيه السياسي والأدبي، وترك أثرًا واضحًا في أعماله المبكرة مثل تلك الرائحة.
وتم إطلاق سراحه بضغط من الاتحاد السوفيتي خلال زيارة لأعضاء قياديين زعموا أن التغيّر في مصر هو إهانة لهم، وكان له موقف نقدي أيضًا عبر حواراته حين وصف موت عبد الناصر غير طبيعي.
النقد السياسي والاجتماعي
اتسمت كتاباته بمواجهة الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات، وانتقاد جماعات الإسلام السياسي، وفضح التناقضات والفساد، مؤكدًا أن العنف جزء من أيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين والتيارات المتطرفة.
مواقف متسقة مع القضايا الإنسانية
ظل داعمًا للفلسطينيين ولحقوق المهمشين، ولم يتوقف عن التعبير عن قلقه من الانتهاكات السياسية والاجتماعية، سواء في مقابلاته أو كتاباته الصحفية.
أسلوبه الروائي ومميزاته
تميزت أعماله بمجموعة من السمات التي جعلت نصوصه علامة فارقة في الرواية العربية:
ــــ الرواية الوثائقية: دمج الأخبار، المقالات، والإحصائيات مع السرد الروائي، ما أعطى أعماله واقعية قوية ومصداقية عالية (اللجنة، شرف).
ــــ اللغة المكثفة والبسيطة: أسلوب جاف ومقتصد يترك الأحداث تتحدث عن نفسها، بعيد عن الزخرفة البلاغية (تلك الرائحة).
ـــــ الانحياز للمهمشين والكادحين: غالبية أبطاله من الطبقات المستضعفة، يعكس التزامه الاجتماعي والسياسي (ذات).
ـــــ البنية المفتوحة والتجريب: استخدام اليوميات، المستندات، والرسائل في السرد، مع عدم الالتزام بالخط الزمني التقليدي.
ــــــ حضور المدينة والتاريخ: القاهرة كشخصية حية، واستحضار لحظات سياسية واجتماعية هامة في مصر والعالم العربي.
ـــــ السخرية النقدية: أداة لفضح البيروقراطية، العبث السياسي، والانتهاكات المجتمعية.
شهادات في رحيله
هيثم حسين (ناقد): “الكتابة عنده كانت في موقع المواجهة لا في مقعد الشرح، والتعاطف الشعبي كشف فشل المؤسسات الثقافية في احتضانهط.
فواز حداد (روائي): “فتح منافذ كانت مغلقة في وجه الرواية، من تلك الرائحة إلى الرواية الوثائقية”.
علي بدر (روائي): “لم يسعَ إلى أن يُحب، بل إلى أن يُقلق… هذا هو صنع الله إبراهيم.“
باسل رمسيس (كاتب): “كان المثقف المتسق مع نفسه والفنان الحقيقي في الوقت نفسه”.
مصطفى بكري (إعلامي): “كان منحازًا لقضايا الوطن ومصالح الكادحين.“
أحمد فؤاد هنو (وزير الثقافة المصري): “أحد أعمدة السرد العربي المعاصر، وخسارته فادحة للمشهد الأدبي”.
الجدول الزمني لأعماله وسياقاتها
ــــ عام 1966 كتب “تلك الرائحة” بعد خروجه من السجن (1959–1964) إثر انتمائه للحزب الشيوعي، وهي تعكس إحباط جيل الستينيات بعد انهيار الأحلام الثورية، وتنتقد القمع السياسي وحصار الحريات.
عام 1981 كتب “اللجنة” في بداية عهد مبارك، فيها نقد مباشر لسياسات الانفتاح الاقتصادي في عهد السادات وتبعاتها على المجتمع، مع إسقاطات على البيروقراطية والقمع.
وفي العام 1984 كتب “بيروت بيروت” وهي دليل سردي على الحرب الأهلية اللبنانية.
في العام 1992 كتب “ذات” في ظل تزايد اللامساواة الاجتماعية وانفجار الإعلام الاستهلاكي، رصد التحولات الاقتصادية والاجتماعية من السبعينيات حتى بداية التسعينيات، عبر حياة امرأة عادية في القاهرة.
1997وفي العام 1997 كتب “شرف” وتناولت قضايا السجون والعدالة والفساد، في لحظة تصاعد خطاب حقوق الإنسان، مع استمرار التضييق على الحريات.
2003في العام 2003 صدرت روايته “برلين 69” وفيها استعادة لرحلة إلى برلين الشرقية عام 1969، وسط الحرب الباردة، بما يعكس رؤيته عن الاشتراكية وتجارب العالم الثالث.
أما العام 2008 فاصدر رواية “ العمامة والقبعة” عن لقاء الحضارتين الإسلامية والغربية في القرن التاسع عشر، قراءة للتاريخ لفهم الحاضر، في وقت تصاعد فيه الجدل حول الهوية والثقافة.
إرثه الثقافي
ترك صنع الله إبراهيم إرثًا متنوعًا يجمع بين الرواية، المقالة، والمقابلات الصحفية، كلها تحمل الجرأة في النقد والانحياز للحق. أعماله تعد مرجعًا لفهم التطورات السياسية والاجتماعية في مصر والعالم العربي خلال نصف قرن، وتبقى وثائق حيّة لمرحلة تاريخية وأدبية هامة.
الميلاد والنشأة
وُلد صنع الله إبراهيم في القاهرة عام 1937. تأثر منذ صغره بوالده الحكّاء والمثقف الذي امتلك مكتبة غنية، مما شجعه على الاطلاع وتشكيل وعيه الأدبي منذ طفولته.
الدراسة والبدايات
درس الحقوق في جامعة القاهرة لكنه سرعان ما ابتعد عنها ليتوجه نحو الصحافة والسياسة. عمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط، ثم في القسم العربي لوكالة الأنباء الألمانية في برلين، قبل أن ينتقل إلى موسكو لدراسة التصوير السينمائي. عاد إلى مصر عام 1974 وتفرّغ للكتابة الأدبية والتراجم.
ولم يكتفِ صنع الله إبراهيم بالكتابة بل ترجم أيضًا أعمالًا من الأدب العالمي، منها التجربة الأنثوية ومشروع نقدي حول فكر المرأة، وكتاب العدو حول الفن والعمارة.
الجوائز والمواقف النقدية
الجوائز التي نالها:
جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر (2004)
جائزة سلطان العويس الثقافية
جائزة كفافيس للأدب (2017)
وقد نعته وزارة الثقافة التي وصفته بأنه أحد أعمدة السرد العربي المعاصر، مؤكدًا على التزامه بقضايا الإنسان والوطن. العديد من وسائل الإعلام العربية نعت الرحيل واعتبرته خسارة فادحة للأدب العربي.
برحيل صنع الله إبراهيم، فقدت الثقافة العربية روائيًا ومثقفًا حمل قلمه كسلاح في مواجهة القمع والتزييف، وجعل من النص الروائي مرآة للمجتمع وذاكرة للتاريخ. إرثه الأدبي لا يُقرأ كأدب فقط، بل كوثيقة حية عن مسار أمة وأحلامها المجهضة، وصوت حقيقي للمهمشين والباحثين عن الحرية والكرامة.
