فصول من مذكرات سيلفيا كريستل أيقونة السينما في سبعينيات القرن الماضي (4)

فصول من مذكرات سيلفيا كريستل أيقونة السينما في سبعينيات القرن الماضي (4)

رضا الأعرجي

           العمة أليس مستقيمة وحسنة التصرف لكن العمة ماري لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها وفريدة من نوعها ومجنونة.

عمتي أليس هي أخت والدتي. تصل باكراً كل صباح بالقطار من هيلفرسوم للعمل في الفندق. تعيش مع والدتها، جدتي المتدينة، البروتستانتية، المتزمتة، الصامتة، والطيبة.

أحياناً، أغادر صخب الفندق لألجأ إليها. ركبتُ القطار بمفردي لأول مرة وأنا في الرابعة من عمري. مع اتجاه الريح، استطعتُ سماع إعلانات انطلاق القطار بوضوح تام. ظننتُ أنهم ينادونني، فغادرتُ دون أن أنبس ببنت شفة، كدمية صغيرة، حازمة، وقادرة على الدفع بنفسها.

ابتعدي عن حافة المنصة، قطار هيلفرسوم على وشك المغادرة

هذه المرة أنا على متن القطار، فتاة صغيرة تثير اهتمام الركاب الآخرين.

جدتي لديها مبادئ. على عكس صخب الفندق، تُعطي طفولتي وضوحاً وقواعد. شيئاً أعتمد عليه.

لا ضجيج أيام الأحد في منزل جدتي، ولا دراجة. المائدة مكانٌ للهدوء، وليست محلاً لبيع رقائق البطاطس. عليك أن تتأمل وتصلي كي لا تحترق في نار جهنم. تشكر الله في كل وجبة كما لو كان هو من يُرزقك الطعام. هو نفسه. إنه أمر غريب. أشعر أن أسئلتي لن تلقى ترحيباً في هذا الصمت المتوتر، لذا التزمتُ الصمت، وأطعتُ، ولهذا أنا هنا.

هناك مرآة ثلاثية الجوانب أمام كرسيي. أتأكد دائماً من أنني أستطيع رؤيتها، مُدربة فضولي على نفسي. أُحدّق في انعكاسي، وأكتشف نفسي أكثر فأكثر في كل مرة. طفلة وحيدة في أغلب الأحيان، أنا مهتمة بنفسي. أنظر إلى جانبي، إلى قمة رأسي، إلى الأجزاء التي عادةً ما تكون غير مرئية مني. كما أشاهد نفسي أكبر. وكلما كبرت، كلما شاهدت نفسي أكثر.

أحب النظر إلى نفسي. عندما لا تكون جدتي موجودة، أقترب من المرآة جداً لدرجة أنني أستطيع تقبيلها. تُكوّن أنفاسي ضباباً خفيفاً أمسحه بذراعي لأجد نفسي مجدداً. أُحرّك كل ملامحي بالتناوب، مُشكّلةً جميع أنواع الوجوه الزائفة التي أحتفظ بها لبضع لحظات. التظاهر سهل.

أنا مفتونة بلون عينيّ، بشبه عائلتي. لا أعرف اسم هذا اللون. رمادي، أخضر باهت…؟

جدتي لا تُعجبها تصرفاتي النرجسية، ووقفاتي. هذا التأمل المُطوّل في وجهي، واكتشافه من كل زاوية، يُشتت انتباهي عن صلاتي، وهو أمرٌ مُفرطٌ حقاً. لذا، في أحد الأيام، نهضت جدتي، وألصقت صحيفةً على المرآة، ونظرت إليّ بسلطةٍ لطيفة، دون أن تنطق بكلمة. محرومةً من رؤية نفسي، استسلمتُ لبضعة أيام من العطلة لترتيب جدتي الهادئ والجميل.

***

العمة ماري تعاني من اضطراب الهوس الاكتئابي، مثل والدها.

إنها ليست في حالة جيدة جداً. عقلها”، همست والدتي.

كنا نزور هذه العمة الغريبة في المستشفى. بدت طبيعية، مبتسمة ولطيفة. استمتعت بزياراتنا، وحرصت دائماً على إظهار حسن تصرفها، لتُثبت سلامتها العقلية، وأنه لا ينبغي حبسها. وحسب حالتها، كانت تُغمر بالليثيوم أو تُعالج بالصدمات الكهربائية لتحقيق استقرار اصطناعي. كنت صغيرة، وقد دهشتُ من حجم الممرضات.

كانت تقول بهدوء كي لا يسمعنها: “إنهن حيوانات”. في محاولة للبقاء على قيد الحياة، أشعلت النار في سريرها، وطُلب منهن المغادرة. ذهب والدي ليأخذها. وقّع وثيقة، ودفع ثمن السرير المحترق، وأعاد العمة ماري إلى الفندق.

كانت تصرخ قائلةً: “أخبرني أنني لستُ مجنونة، أخبرني” وهي تغادر المستشفى، غاضبةً من تكميم فمها بدواء، وقد غلب عليها الابتسام المستمر والغامض. وجّهت إصبعها انتقاماً إلى تلك الأجساد البيضاء الضخمة الجامدة.

«لا، لستِ مجنونة»، أجابها والدي وهو يضغط على يدها. «هيا بنا»

الهوس الاكتئابي” كلمة غريبة ومعقدة، تحمل في طياتها دلالة فكرية. تُقال دائماً بوضوح وهدوء، مصحوبة بانزعاج حزين على وجه والدتي. لابد أن يكون هناك عيب يجب إخفاؤه، وهو عيب نادر أثر على عائلتنا، وعمتي هي الدليل الواضح على ذلك.

تقضي العمة ماري نصف حياتها في الهواء والنصف الآخر على الأرض. تعيش معظمها في الليل، حين تتلاشى التناقضات. أحيانًا تضحك وتغني لأيام متواصلة، تشتري هدايا باهظة الثمن بالدين، وتتعجب من روعة الحياة وقصرها. تُهدي العمة ماري حبها في باقات زهور ضخمة، أو تلجأ إلى الأرض، في أبطأ لحظاتها، كضحية حلم محطم أو حبيب رحل. ثم تعود يوماً ما إلى الحياة، مؤمنة بها من جديد، بحماس أكبر من أي وقت مضى، مانحةً إياها حس الفكاهة، وشهيتها المستعادة، وشغفها المؤقت.

عندما أكبر، سأصاب بالاكتئاب الهوسي. إنه أمر ممتع ومسلٍّ للغاية.

أعشق عمتيّ. صحيح أنهما مختلفتان تماماً، لكنهما دائماً ما تكونان سنداً لي في محنتي الصغيرة. شخصيتان دافئتان وحيويتان في حياتي اليومية، تنسجان شبكة حب واضحة حولي كل يوم.

تدير العمة ماري بار الفندق، ذلك المكان المحوري الذي لا تغلقه غالباً إلا في الصباح، ذلك المكان الذي يعجّ بالروتين والطقوس الفاحشة. لا تنام كثيراً، ولا تشرب على الإطلاق. العمة ماري دائمًاً في حالة يقظة وهي تشهد جلسات الشرب اليومية. يشعر الزبائن بالاسترخاء مع هذه المرأة اللطيفة لدرجة أن بعضهم يظنها ثملة مثلهم.

والدتي زبونة دائمة في البار. تشرب باستمرار، وتضيف لنفسها النبيذ أو الشيري. تستطيع تحمّل مشروبها الكحولي. أنا أشبهها. لا تبدو ثملة أبداً. عندما تكون ثملة، تختبئ أو تطلب مني الذهاب إلى غرفتي. يبدو أن هذا كل ما تستطيع والدتي قوله عندما تشعر بالضعف أو التأثر أو المفاجأة.

والدتي عاجزة عن التعبير عن مشاعرها. تكبتها باعتبارها ضعفاً وتهديداً. الحياة صعبة وخطيرة، عليك أن تكون حذراً. والدتي تخشى المشاعر، كموجة لا تنتهي تجرفها حتماً. تفضل السيطرة، وتلجأ إلى الشراب لجعل هذه الحالة اللاإنسانية محتملة.

يرتاد والدي البار لنفس أسباب والدتي، ولكنه أيضاً يستضيف المكان. يعزف على البيانو وجهاز التوليف، وهو نوع من صناديق الموسيقى الحديثة التي تُعيد إنتاج أصوات آلات أخرى، بالإضافة إلى إيقاعات مُصممة خصيصاً. إنه مكان ساحر، غامض، ومبهج. يُعلّمني والدي بعض الدروس من حين لآخر، وبفارغ الصبر.

يُحبّ الزبائن بار الفندق، حيث يشرب الجميع حتى يضحكون ضحكاً لا يُقاوم على لا شيء. ضحكات عميقة وحنجرية تتردد في أرجاء المبنى. يسقط بعضهم أرضاً، يبكون، ثم ينهضون مجدداً ويغنّون بصوتٍ عالٍ. يهتفون بأسماءٍ مجهولة. بلاد بعيدة زاروها، ونساءٌ أحبوهن.

كان الكحول جزءًا من حياتي منذ اليوم الذي ساعدتني فيه والدتي، قبل فطامي، على النوم من خلال وضع قطعة قماش مبللة بالكونياك ملفوفة حول قطعة من السكر على شفتي.

كان الكحول يجعل والدي صاخباً ومبتهجاً. كان يلعب ويغني ويتصرف كالمهرج.

كسر الكحول قيود والدتي البروتستانتية، وأخرجها من صمتها، وأطلق العنان لكلمات غريبة وشريرة، كلمات شخص آخر. انفجرت المشاعر، ثم اختفت والدتي.

كان الكحول مصدر الحياة. كان بمثابة الأغنية، والدم، ورباط الفندق. كان والدي يشرب ما يصل إلى أربعين قنينة بيرة يومياً. كنت أتدرب على الرياضيات بعدها. وللوصول إلى مجموع مختلف، كنت أضيف كأس كونياك كامل وزجاجة أندربيرج إلى البيرة.

عندما يكون والدي رصيناً، لا يتكلم.

فضلت الكحول على الصمت.

***

كريستل هو اسمي الحقيقي، مشتق من كلمة “كريستال”. كان يناسب بريق والدي الرقيق.

ليس هناك دائماً سببٌ للهشاشة، فقد تكون جزءًا من طبيعة المرء. كان والدي هشاً، لكنه أخفى ذلك، غارقاً في الكحول والضوضاء، مُدمِّراً نفسه. كان والدي يعشق صيد الحمام، وآلات النجارة خاصته، تلك الوحوش المعدنية الصاخبة التي تعيش في ملاذه: العلية. كان يستمع إلى هدير أدوات النحت الميكانيكي المزعج دون أي حماية لأذنيه.

عندما كان يخرج للصيد، كان يستخدم بندقيته بكثرة، يضعها قرب أذنيه، مُطلقاً النار في الهواء بتمردٍ مدفوعاً برغبةٍ في سماع الأصوات العالية. في منتصف عمره، كاد أن يُصاب بالصمم، وهو ما كان يناسبه. كانت أصوات النساء، وبكاء الأطفال وصراخهم، علامات الحياة هذه، تتلاشى تدريجياً، وتضعف كصدى، تاركةً إياه في صمته وعزلته التي اختارها.

عندما كان والدي طفلاً. أُرسل إلى مدرسة داخلية. كان في الرابعة من عمره. أتخيله فتىً صغيراً شجاعاً، ذكياً، مُجبراً على التصرّف كشخص ناضج، يُرتّب فراشه دون تجاعيد، ولا يبكي في سنّ لا يستطيع فيها أحدٌ فعل شيء. نشأ وحيداً، بلا حماية، لا يبالي أبداً. اكتشف الرغبة قبل الحب، والكحول قبل كل شيء.

كان والدي يشرب ويصطاد ويحب البحر والرياضة واللحم والشطرنج. في اللغة الهولندية، يُطلق على الشطرنج اسم يشير أيضاً إلى اختطاف فتاة صغيرة لطيفة على يد رجل شرير.

ربما ظنّ والدي أنه سيء، لكنه لم يكن كذلك. كان مُحطّماً وغائباً في أغلب الأحيان.

في عليته، يصنع قطع شطرنج صغيرة. هناك المئات منها، مرتبة حسب الحجم والفئة: ملوك، قلاع، بيادق، فيلة. الأفضل في المقدمة، والعيوب مخفية خلفها. لا نهاية لهذا الإبداع الجامح، ولا لهوس والدي بهذه اللعبة، هذه المعركة الاستراتيجية، هذه الكش مات.

أحياناً، عندما أشعر بالملل، أصعد إليه لأراه، وأجرؤ على الدخول. يُوقف آلته ويجلس ساكناً، ينظر إليّ. أبتسم له، أشعر وكأنني أجمل تمثال له. يُشير إلى إبداعاته الجديدة، ثم يعاود العمل بسرعة، فأغادر المكان هرباً من الضجيج.

كان والدي كاثوليكياً، ابناً لصاحب فندق وموسيقي. كان جدي يدير أوركسترا، وفي إحدى المرات أحضر معه من رحلة إلى سويسرا آلة موسيقية غريبة وفريدة من نوعها تُصدر صوتاً أشبه بقصص الخيال: إكسيليفون. كانت تجذب الناس من كل حدب وصوب.

والدتي من عائلة ريفية متواضعة، كانت كالفينية وجميلة للغاية. نشأت في كنف والدتها الأرملة، على تعاليم دينية صارمة للغاية. حل الخوف من العقاب الإلهي محل تأديب والدها.

أتذكر والدتي في صغرها. كانت سلسة كراقصة بوهيمية، فاتنة وأنيقة كنجمة سينمائية. التقاها والداي في حفلة راقصة. رقصا معاً طويلاً، طليقين، متألقين. كان والدي يُحب النساء والجمال، وقد أحب والدتي منذ رقصتها الأولى.

كانت والدتي تُحب الرقص، فقد كان ركنها الأساسي. أما هواياتها الأخرى فكانت الخياطة والعمل ووالدي. لم تكن متدينة جداً. منحها الزواج مهرباً من الغلو الديني وخوف الله. فضّلت الحب الدنيوي على الحب الإلهي، واعتنقت الكاثوليكية إيماناً بوالدي. لم تكن والدتي تحضر القداس، بل كانت تُلزمنا بإقامة هذا الطقس الأسبوعي بدلًا منها.

استمتعتُ كثيراً بنزهة الأحد هذه. في نهاية الحفل، كنتُ أبتسم ابتسامةً ملائكيةً وأقترب من أطباق التبرعات لأجمع المال الذي كنتُ أجده أحياناً. كنتُ أهزّ صناديق التبرعات وأفتح أغطيتها الصغيرة المضحكة، ثم آخذ أختي إلى السينما لمشاهدة “لوريل وهاردي”. كان الأمر أكثر متعةً بكثير.

بعد سنوات قليلة من تلك الحفلة الأولى، أصبحت والدتي زوجةً وأماً، ثم توقفت عن الرقص. لم تعد تمارس ما تحب. أصبحت مهووسة بالآثار بالآثار الإيجابية للعمل الشاق، صارمةً، سريعة الانفعال، وكثيراً ما كانت تشعر بالحزن وهي تشهد هروب والدي البطيء.

كانت تُركز على واجباتها اليومية، على الفندق وأطفالها. كانت تُعنى بواجباتنا المدرسية، وصحتنا، ونظافتنا، وكي ملابسنا بدقة، والتي كانت تُجيدها بنفسها أحياناً ببعض المهارة. لم تكن والدتي قادرة على التعبير عن حبها إلا من خلال العناية الفائقة بنا. كنا مُنتشرين في كل مكان حتى لا نُعكر صفو الفندق. كنتُ غالباً في غرفتي، وماريان مع جيراننا أصحاب متاجر السيجار الطيبين، وأخي أينما شاء. كان الرجل الصغير في العائلة، وهو من يُدير الأمور.

يقول الناس إنهم يفتقدون الموتى. افتقدتُ والدي ووالدتي في أوج عطائهما. رافقاني في طفولتي بنفس الطريقة التي كانا يتنقلان بها في الفندق: والدتي مجتهدة، متسرعة، خفية؛ ووالدي ثمل، متباهٍ، وحيد.

***

السيدة كريستيل السيدة كريستيل

الرجل في ردهة الفندق مستاء. إنه السيد جانسن، صاحب محل الصحف المقابل للفندق. هرعت العمة ماري لتجد والدتي، التي نزلت وهي متفاجئة، وفي إصبعها كشتبان من الكروم.

نعم، سيد جانسن، ماذا يمكنني أن أفعل لك؟ سألت بتوتر.

سيطري على فتياتك يا سيدتي. ابقيهن تحت السيطرة

ـ ماذا تقصد؟

ـ كم عمرهن الآن؟

ـ ستبلغ سيلفيا العاشرة من عمرها هذا الخريف، وستبلغ ماريان الثامنة، لماذا؟

ـ عشرة وثمانية… حسناً، هذا لا يبشر بالخير

ـ ماذا تريد أن تقول؟ والدتي بدأت تفقد صبرها.

ـ هذا لا يبشر بالخير، هذا كل شيء

تتجه والدتي نحوي وتبدأ باستجوابي.

ـ ماذا فعلت؟

ـ لا شئ

ـ لا شئ؟

السيد جانسن يقاطعها….

ـ سيدتي، منذ بداية الصيف، ابنتكِ وأختها الصغيرة تمرحان على طاولات مطعمكِ. حوالي الساعة الثالثة عصراً، عندما تكون القاعة فارغة. تضحكان، تغنيان، تُشيران بأيديهما..

ـ ولكنهما طفلتان، سيد جانسن. قاطعتنه والدتي. الأطفال يلعبون ويرقصون.

ـ نعم، لكن ليس عاريات. عاريات تماماً! يخلعن ملابسهن ويتجولن، يداعبن أنفسهن ويتمايلن بشكل فاضح لدرجة أن المارة يحدقون بهن، ثم يصطدمن بكابينة الهاتف. انظري، لقد انكسر الزجاج. ابنتاك تجدان الأمر مسلياً، وخاصة الكبرى. إذا كان الاصطدام عنيفاً، تقفزان عن الطاولة كالبراغيث وتهربان. أنا الوحيد الذي رأى ما تفعلانهما. ألا تسمعينهما تغنيان بصوت عالٍ، تصرخان. أستطيع سماعهن من خلال النافذة على الجانب الآخر من الطريق. لم أقل شيئاً حتى الآن، لكنني أحذركم.

تقاطع والدتي السيد جانسن مرة أخرى.

ـ حسناً، سيد جانسن، حسناً. أرجوك سامحني، أنا آسفة جداً. سيلفيا أحياناً تُحب لفت الانتباه اليها، أنت تعلم كيف يُمكن أن يكون الحال في سنها، وأختها لا تزال صغيرة وسهلة التأثر، لكن هذا لن يتكرر.

يذهب الجار وهو يهز رأسه ويظل يتمتم: “عشرة وثمانية…”

والدتي حمراء اللون. لقد ضاع وقتها وشوّهت سمعتها المحلية. تركض في أرجاء الفندق وهي ترعد وتزبد. تلاحقني، مليئة بالتهديدات.

سيلفيا.. سيلفيا. إن لم تأتي إلى هنا الآن

لكنني غبت في مخبئي الجديد، الخزانة على أعلى الدرج. عمتي أليس تعلم بالأمر لكنها لا تُخبر أحداً. لقد رأتني ووقفت أمام والدتي مباشرةً، وظهرها للخزانة.

ـ أين سيلفيا؟ هل تعرفين أين هي؟

غضب والدتي لا ينفد. لقد سلّحت نفسها بآلة تنظيف السجاد، عصا الصفصاف الطويلة، وبالطبع، بأظافرها المدببة التي تخترق الجلد كالدبابيس. هددت عمتي أليس، رافعةً يديها في الهواء، صارخةً: لم أستحق هذا؟

أبقى في تلك الخزانة ساعتين، دون أن أصدر صوتاً. والدتي ستهدأ في النهاية. إنها مسألة وقت. قريباً ستخرج الكأس الفولاذية الصغيرة التي تخفيها في علبة خياطتها كإصبع كبير، وتشرب عشرات الرشفات الصغيرة من الشيري أو النبيذ الأبيض، وأحياناً حتى الزجاجة كاملة، ولكن بلمسة إصبع، تُقنع نفسها بأن هذه الرشفات مجتمعة أقل من الكمية الكاملة. ستغفو، منهكة، ثملة. ستنسى، وسأنجو من سوط الصفصاف.

هل انفجر أنف السيد الفضولي كثمرة ناضجة؟ حظ عاثر. أنا مستعدة لأي شيء لتجنب الملل وجلب الانتباه.

شارك هذا الموضوع

رضا الأعرجي

صحفي وكاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!