فقدان روح الالتزام وشغف التجديد في السياسة!

فقدان روح الالتزام وشغف التجديد في السياسة!

 د. محمد الشرقاوي

           عندما تفقد السياسة روح الالتزام وشغف التجديد، تصبح الأحزاب ساحة شطرنج لإقصاء المنادين بتصحيح مسار الانجرافات وتدجين المريدين في اعتناق ديانة باطنية جديدة، والتلويح بـ”نوافخ جيلالة” في عز الجذبة مع شيخ الزاوية.

تصبح ” القيادات” الهزيلة ترفل في تركة الزعامات القديمة، وهي رخويات تمتطي خيولا من ورق. ويصبح الحزب محطة للتنكر للأفكار والقيم والترويج لسقط المتاع.

في عام 2020، نشرت دراسة تفصليلة بعنوان “من يكتب النقد الذاتي للاتحاد الاشتراكي؟”، طالعها القرّاء في ثمانية أجزاء على صفحات ما كان “أخبار اليوم” قبل وفاتها أو إقبارها بفعل فاعل. وتحت عنوان فرعي “من يملك الخطاب؟”، كتبت هذه المقتطفات من فقرات لا تزال صلاحيتها ممتدة، بل وتزداد عبرة ومغزى بفعل ما تؤول إليه مستجدات هذا الاتحاد الاشتراكي المترهّل:

بين اتّحاد الأمس واتّحاد اليوم بون شاسع. ويمكن اختزال أهمّ التحولات في مسار هذا الحزب في تدرّج مواقفه وأدبياته إزاء ثلاث قضايا رئيسية:

 1) مآل الديمقراطية في المغرب، و2) التفاعل مع الملكية ضمن سجال مفتوح حول مدى الحاجة لملكية “برلمانية” وسط تأرجح كفتي الميزان بين القصر والمعارضة اليسارية، و3) كيف يقيس الاتحاد الاشتراكي أداءه في السياسة ويقدّر مدى مكانته في المجتمع في ضوء السؤال الذي أثاره كل من بن بركة واليوسفي: هل ستغدو “برلمانية” على الطريقة المغربية أم الأوروبية؟ وجادل بوعبيد حول مدى اقتراب الملكية أو ابتعادها من السلطوية والدستورانية. ونادى آخرون بضرورة تحديد المسافة بين أن تكون مطلقة أو برلمانية، وما تعنيه في السياق المغربي.

ينفي ادريس لشكر أي قرينة بين التحوّل السياسي ونضال الاتحاديين القدامى في المغرب. فهو يعتقد أنّ التوافقات لم تأت “لا بعد 23 مارس سنة 1965 ولا بعد أحداث 20 يونيووغيرها من النضالات الكبيرة، بل كان على العكس يتلو كل ذلك نوعٌ من “الردّة”. رغم حجم تلك النضالات، كان عبد الرحيم بوعبيد يتميز بقدرته على تدبير الصراع بما يضمن الوصول، في مراحل معينة، إلى التوافقات لربح خطوات إلى الأمام.” وقد يصحو الجابري من قبره ليذكّر لشكر بفحوى المحاضرة التي ألقاها بن بركة، وكان وقتها ينوب عن علال الفاسي في زعامة حزب الاستقلال خلال غيابه، بعنوان “نحو بناء مجتمع جديد” في فرع الحزب في تطوان، وكيف شكّلت أهم نص له عند تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

يقف بعض الاتحاديين المحبطين في حسرة يضربون أخماسا في أسداس وهم يعاينون كيف فقد حزبهم “كل مبادئه ومشروعه، بل وفقد كل أفكاره”، وكيف أن قياديي الحزب “لم يعد يهمهم المجتمع المغربي وخدمته، وإنّما همّهم الأكبر هو السلطة”، كما يقول محمد بوبكري العضو السابق في المكتب السياسي للحزب. وتبدو حالة لشكر وحالة الاتحاديين الجدد صورة مصغّرة عن تحلّل يسار القرن الحادي والعشرين من مبادئ وتوجهات اليسار القديم. وقد توصلت دراسة نشرتها مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية إلى أن “اليسار المغربي بات أشبه برجل عليل وواهن تنخره أزمة خانقة تتدحرج بين تشتت بين مكوناته المحتفظـة بخطهـا اليسـاري وفقــدان المصداقيــة لمكونــات أخــرى حــادت عــن الخيــارات اليســارية وانخرطت تدريجيا في تبني برامج غريبة عنه.”

هكذا يصبح لشكر حكيمَ زمانه وقدوةَ اتحاده، وقد نفخ في مغرب “تكافؤ الفرص” روحا جديدة تؤهّله لاعتراف أو جائزة وطنية تقديرا له على “نكران الذات” وتجاوز المصالح “الشخصية” الضيقة. فهو ينصح أنصار حزبه بالاقتناع بأنّ مشروعه المجتمعي “يقوم على تعليم متقدم، واقتصاد منتج، وتكافؤ اجتماعي، وحياة عامة آمنة في دولة قوية، بعيدا عن أي أوصاف جاهزة تؤدي إلى هزم الذكاء الجماعي، وإقبار الطاقات المعطلة والمنسية بسبب تضييق فضاء الاختيار وحصره في إطار القرابات والدوائر الخاصة”. يا ترى من هو إدريس لشكر الحقيقي وسط تزاحم هذه الأمزجة وتداخل الشخصيات السيكزوفرينية في ما آل إليه الاتحاد الاشتراكي منفصم الشخصية والمزاج السياسي!

تبقى “الديمقراطية الواقعية” التي تخيّلها بن بركة جسر العبور إلى المستقبل، كما كانت عقلنة السياسة وعقلنة الفكر والأكاديميا وتنوير المجتمع خطّا نقديا بنّاءً يمتد من أرسطو عند الإغريق، إلى ابن رشد في الأندلس، إلى كانط عند الألمان، إلى مدرسة شيكاغو عند الأمريكيين، يبني الحرية والمواطنة والإنسية وسائر تجليات الحداثة الديمقراطية في أوروبا، قبل أن ينظر لها بن بركة وعلال الفاسي والجابري وغيرهم في السياق المغربي. لكنها رؤية يتعيّن عليها أيضا أن تأخذ حذرها من الميكيافليين وفقهاء السلطة و”الشكريين الجدد.”

شارك هذا الموضوع

د. محمد الشرقاوي

أكاديمي وكاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!