فلسفة الاحتفالية وأخلاق الاحتفالي

فلسفة الاحتفالية وأخلاق الاحتفالي

 د. عبد الكريم برشيد

  فاتحة الكلام

     في ظل هذا الصمت المخيف والمرعب؛ صمت النقد والنقاد في المغرب، يظل الاحتفالي وحده يواصل التفكير والتأمل، ويظل حاضرا في كل الفضاءات والأمكنة وفي كثير من المناسبات، وحتى خارج كل المناسبات، إيمانا منه بأن الحياة حضور، وبأن الغياب خيانة، وبأن هذه الطبيعة لا تحب الفراغ، ولا تحب الفارغين أيضا، وإيمانا منه أيضا، بأن هذا الوجود، في معناه الحقيقي، هو التحدي، بين أن تكون أو لا تكون، وبأن من يحيا حقيقة يتحدى الموت، وأن من يخسر هذا التحدي يخسر عمره وحياته، ويخسر حاضره ومستقبله، ويبدأ وينتهي هذا التحدى من خلال مقاومة كل (إكسسوارات) الموت، والتي من بينها الثبات والسكون واللافعل واللا انفعال واللاكتابة واللا قراءة واللا كتابة واللاتفكير واللا إحساس.

وهذا الاحتفالي السيزيفي، في طبعته وطلعته الجديدة والمتجددة، يواصل اليوم ما بدأه بالأمس، إنه يواصل فعل العيش والحياة، و يواصل فعل الكلام وفعل الكتابة وفعل التاسيس ولعل إعادة التأسيس، وتظل هذه الاحتفالية، ونحن فيها ومعها، مصرة على الحضور المتجدد، ويظل الاحتفاليون فيها مصرين على أن ينطقوا كلمة الحق، وعلى أن يجاهروا بالحقيقة، وعلى أن يظلوا أوفياء لرؤيتهم العيدية والاحتفالبة، وعلى أن تكون وجهتهم هي الحياة مع الحرية، وأن تكون فلسفتهم هي الحرية مع الكرامة، وأن تكون أخلاقهم هي الاستقامة مع الفضيلة

ويسعدني أنا الاحتفالي، أن أجد من يفكر معي، وليس ضروريا أن يكون تفكيره نسخة من تفكيري، ويسعدني أن أجد في الناس من يمشي معي في نفس الطريق، وليس ضروريا أن يمشي كما أمشي، والمهم هو أن يمشي ويسبر، وأن يكون سيره إلى الأمام وليس إلى الخلف، وإلى الأعلى والأسمى دائما، وإنني في طريقي لا أفعل شيئا سوى أن أحلم، وأعتبر بأنه بهذا الحلم وحده أستطيع أن أكون أنا، وأن أكون من أشاء في العالم الذي أشاء، وعندما أقول (أنا) فإن عقلي لا يفكر إلا في (النحن) الجماعية، ولعل هذا هو ما يجعل الاحتفالية تقفز على كلمة الأنانية، وأن تعوضها بكلمة أصدق منها وأوسع منها، والتي هي كلمة (النحنية) والتي تسع كل البشرية

وإن كل من يقتسم معي هذا الحلم الاحتفالي الكبير والخطير، هو بالضرورة رفيق طريق، وعندما قلت كلمة في حق الفنان الإنسان عبد المجيد فنيش، جاءني الرد منه في كلمة عميقة وغنية بالدلالات الإنسانية الجميلة والنبيلة، لقد قال

(أستاذي؛ معلمي؛ مبدع وجهتي والآخذ بيدي إليها؛ سيدي في مقام الأب الروحي؛ الفاضل الكريم النبيل *عبد الكريم برشيد*.

السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

وبعد؛ ما كنت أدري ما الاحتفال لولاكم. علمتمونيه من طيب معناكم. وما كنت أدري أني سأحظى يوما بمثل هذا الكرم الباذخ من طيب وسابغ الإطراء الذي لا ولن يضاهيه جاه ولا مقام ولا سلطة ولا نفوذ و ثراء.. أشهد الحق سبحانه؛ أني الآن في حال من أحوال *الوجد*.

حفظكم الله تعالى، وأنعم عليكم بجزيل الصحة والسلامة والعافية؛ وزادكم من الزاد ما يزيد في بهاء قامتكم الروحية؛ العلمية؛ الفكرية؛ الثقافية؛ الفنية؛ الجمالية..؛ ونفعنا سبحانه – والناس أجمعين- بثمار الدوحة الاحتفالية العيدية.. محبكم؛ تلميذكم: فنيش).

 وفي الرد أقول، هذا هو الاحتفالي الحقيقي، وهذه هي لغته الصوفية الفردوسية، وهذا هو معجمه الاحتفالي الحي والمتدفق حياة وحيوية، وهذه هي أخلاقه العيدية المرصعة بالألوان وبالأنوار وبالظلال، وهذا هو المسرحي الذي يؤمن بأن المسرح عطاء وسخاء، وأنه فيض عقول وفيض نفوس وفيض أرواح غنية، وذلك قبل أن يكون حكيا يحكى، أو يكون رواية تروى، أو يكون فرجة على عموم الآخرين الغائبين أو المغيبين.

وكل الذين ينتصرون للطائفة على حساب الأمة، وينتصرون للحزب أو للجهة على حساب الدولة، ويدعون إلى التفرقة لا يمكن أن يكونوا احتفاليين، ونحن في هذه الاحتفالية دعونا إلى الوحدة، وفي المقابل، كانت دعوتهم إلى الفرقة وإلى التفرقة وإلى التشرذم وإلى إقامة الأحلاف والتكتلات الخفية والسرية.

ولقد كانت دعوتنا إلى البهجة والفرح، وكانت دعوتهم إلى البكاء والتباكي، وكانت رحلتنا إلى الامتلاء، وكانت رحلتهم إلى الخواء،

وجوابا على سؤال (ما معنى أن تكون احتفاليا؟)

يقول الاحتفالي في بيان يحمل نفس السؤال ما يلي:

(معناه أن تكون في شفافية الضوء، وأن تكون في مثل تدفق عين الحياة، وأن تكون في مثل حرارة الشمس الساطعة، وأن تكون عميقا عمق أسرار الوجود والطبيعة، وهكذا هو حال المبدع الاحتفالي دائما؛ رقة في غير ضعف، وقوة بلا شدة، وانفتاح بغير تبعية، واعتزاز بالذات بغير الاستعانة بالآخر).

 الممكن والمستحيل في الأخلاق الاختفالية

     وقدر هذا الاحتفالي هو أن يكون في طليعة الحياة والأحياء، وأن يكون مناظلا وجوديا في هذا الوجود، وأن يكون سلاحه العقل المفكر، وأن تكون الكلمة الشعرية هي ما يبرر ويفسر وجوده، وأن تكون قوته المغيرة هي قوة ناعمة دائما، وأن يكون غنيا حتى يمكن أن يعطى، وأن يكون عالما حتى يكون معلما، وأن يكون جميلا حتى يبدع الإحساس الجميل والموقف الجميل والفكر الجميل.

في حياة هذا الاحتفالي حد فاصل، بين ما يكونه وبين ما لا يمكن ان يكونه، بل وبين ما يستحيل ان يكونه، وما يميز هذا الاحتفالي، في حياته وفي حياه فكره وإبداعه، هو أنه (يستعصي على التصنيف والتصفيف دائما، وهو لا يقبل المساومة أبدا، وهو يعيش الرفض في أجمل وأنبل وأكمل صورة، أي رفض التحزب المرعب، ورفض التبعية الذيلية، ورفض الصدوية الببغائية، ورفض الطوطمية العشائرية، ورفض الاستسلام لشبح الأوهام، ورفض الصعود الانتحاري إلى الهاوية، ورفض السلطة المتسلطة، ورفض الحكم إذا لم يكن عاقلا وحكيما وإنسانيا، ورفض العلاقة التي لا تنبني على التكافؤ وعلى الحوار وعلى الاختلاف الذي لا يفيد الود قضية).

وميزة هذا الاحتفالي، أو عيبه، لست أدري، هو أنه ليس من هواة الوقوف عند الأبواب العالية، وهو لا يقف على باب أي أحد من الناس، أو عند باب أية إدارة، أو عند باب أية جهة من الجهات، أو عند باب أية هيئة من الهيئات، وهذا ما يفسر أن يكون الفكر الاحتفالي اليوم رائدا ومتقدما، وأن يظل المفكر الاحتفالي فيه مبعدا ومقصيا ومنسيا، ومسجلا في اللائحة السوداء، هو باب واحد احد يقف عنده الاحتفالي دائما، والذي هو (باب الله).

وبخصوص السؤال الذي سبق وطرحه الاحتفاليون من قبل، والذي هو (ما معنى أن تكون احتفاليا) يقول المسرحي الاحتفالي كبير ديكار ما يلي:

(فاتحة كلام تطل علينا من جديد أستاذنا الفاضل، لتؤكد لنا أن الاحتفالية لها فلسفتها الخاصة ولها فكرها الخاص. سهل جدا أن تكون احتفاليا في عرضك المسرحي، تغني، ترقص، تفرح، تتواصل، تعبر بحرية وجرأة … ومن السهل أيضا أن تستمد من التراث أو الأساطير دروسا  تساعدك على أن تجعل عرضك المسرحي هادفا. وسهل أن تتحرر من العلبة الإيطالية وتهدم البناء الأرسطي، وتكسر الجدار وقواعد اللعب الدرامي. لكن من الصعب جدا أن تكون مخرجا احتفاليا حقيقيا، لأنه يفترض فيك أن تكون مثقفا أولا، مطلعا على قضايا المسرح وجميع الأشكال التعبيرية الأخرى، رقص موسيقى، رسم، شعر، غناء… وأن تكون فنانا مبدعا ثانيا، قادرا على الخلق والابتكار وإعادة البناء.. ممتلكا الجرأة على التجريب والإدهاش وكشف الحقائق قادرا على رصد التفاصيل الصغيرة والكبيرة، وعلى توظيف الخيال وتنفيذ المتخيل بشكل يزيد العرض جاذبية وإثارة.

 قد يتشابه الاحتفاليون وقد يختلفون، وكل يرى الاحتفالية من زاويته الخاصة، وهذا ليس عيبا فالتنوع في الأشكال لا يغير الجوهر، وجوهر الاحتفالية ثابت رغم تعدد صفاته: فرح… احتفال… تعييد… تعبير حر.. وكلها تصب في معاني الحرية والتحرر: الحرية في الاحتفال والحق في التعبير والتحرر من معيقات أشكال الاحتفال والتعبير. تحياتي أستاذي الفاضل)

هي احتفالية واحدة إذن، ولكن من يكتبها أو يعيد كتابتها، هو بالتأكيد أكثر من كاتب واحد، وهي أكثر من قارئ واحد، وهي أكثر من فاعل واحد، وهي أكثر من مؤسس واحد، وهي أكثر من أسلوب حياتي ومسرحي واحد.

ما معنى أن يكون الاحتفالي احتفاليا؟

     ومساهمة منه في قراءة وكتابة هذه الاحتفالية الجديدة والمتجددة دائما، يقول د. نور الدين الخديري في إحدى كتاباته ما يلي:

(تحياتي. وتقديري للاحتفالي المبدع الدكتور عبد الكريم برشيد، تظل الاحتفالية مشروعا كبيرا قادرا على استيعاب كل ذي صلة بمعاني وقيم الإنسان والإنسانية. إنها الحياة في أبسط تجلياتها) نعم، هي الحياة بكل حيويتها وحركيتها، وهي الإنسانية بكل قيمها الجميلة والنبيلة، وهي الفرح بكل عيديته الكائنة والممكنة

يقول الاحتفالي في كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث) بأنه (لا شيء ثابت في مسرح الوجود، ولا شيء ثابت في مسرح الحياة، ولماذا لا يكون المسرح المسرحي متغيرات أيضا وما هو إلا الحياة وصورة الأيام والليالي، وصورة التاريخ وصورة الحقيقة؟

إنه لا شيء ثابت في المسرح إلا.. الإنسان والمكان والسؤال الوجودي والقضية، وحيثما يحضر هذا الإنسان، في أي مكان وزمان، تحضر معه القضية، وأقدم كل القضايا وأخطرها هي قضية الوجود، يكون أو لا يكون هذا الإنسان؟ ذلك هو السؤال الوجودي الذي مازال يتردد في كل مسارح العالم، ولكن بأشكال وصيغ متعددة ومتنوعة).

وفي الجواب على السؤال (ما معنى أن تكون احتفاليا؟) يقول البيان الاحتفالي ما يلي:

(معناه أن تكون  إنسانا حقيقيا، وأن يكون من حقك أن تنتسب إلى ذلك الكائن الذي استخلفه الله في الأرض، والذي سجد له الملائكة، والذي خصه الله بالعقل، وأعطاه الأمانة والحرية، وحمله المسؤولية، والمواطن الاحتفالي هو هذا الإنسان المعتز بإنسانيته، وهو ينتمي إلى الأرض والسماء، وإلى الجغرافيا والتاريخ، وإلى النسبي والمطلق، وإلى الكائن والممكن، وهو حكواتي من هذا الزمان الجديد والمتجدد، ولكنه ـ بكل تاكيد ـ أكبر وأرحب من فعل الحكي المحدود، وهو أصدق من كل الحروف والكلمات والعبارات، وهو حكاية من حكايا جدتنا الحياة، حكاية تستعصي على الاختصار والاختزال، وتتمنع على التصنيف والتصفيف، لأنها تنتمي إلى دنيا أخرى غير هذه الدنيا الفانية، أي إلى دنيا المسرح، ومن يمكن أن يحيط بفقه المسرح علما؟).

وهذا الاحتفالي، والذي هو في الأصل واحد من الناس، ولكن بأسماء متعددة، هو الذي قدمته الاحتفالية للعالم في الصورة التالية:

(هو إنسان أولا، وفي هذه الإنسانية شيء من الحيوانية، وشيء آخر من الوحشية، وفيها جوانب كثيرة من الضعف والقوة، ولأنه إنساني النزعة، وكوني الرؤية، فقد هاجمته كثير من الكتابات النقدية، واتهمته بالإنسانوية، وبأنه بورجوازي، وبأنه مثالي، وبأنه نخبوي، وبأنه طوباوي حالم وواهم، وبأنه ديني وصوفي وطقوسي، وبأنه غير منتم، وغير متحزب، وفعلا، فهو آدمي غير منضبط.. إلا للأفكار والمبادئ والقيم التي يؤمن بها).

وهذه الصورة، هي مجرد صورة تقريبية، للفلسفة الاحتفالية أولا، ولأخلاق الإنسان الاحتفالي ثانيا.

شارك هذا الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!