في الحاجة لثورة ثقافية للفهم والتصحيح والإنقاذ

في الحاجة لثورة ثقافية للفهم والتصحيح والإنقاذ

عبد الرحمان الغندور

           من أجل المساهمة في نقاش جدي وجاد يعيد للثقافة دورها في بناء الأفكار ونقدها، وهروبا من السقوط في تفاهة ما يعرض اليوم من نقاشات جوفاء لتبليد الوعي وفرض الغباء كقدر حاسم على المواطنات والمواطنين، من أجل هذا أساهم بهذه الورقة، التي لا أنتظر كما هائلا من التفاعل معها بسبب هيمنة ثقافة التبليد، بل تجميع ما تبقى من النخبة الفاعلة على قلتها، بغية خلق إمكانية للتفكير الجماعي الهادئ والرصين يعيد للثقافة موقعها ويجتهد للإيجاد المخارج الفكرية التي تساعد على مغادرة هذا النفق المظلم والمعقد في مشهدنا السياسي والاجتماعي. لذلك نؤكد أننا في الحاجة إلى ثورة ثقافية لفهم وتصحيح هذا المشهد

 أبرز ما يميز النظام السياسي والمجتمعي المغربي هو هذه البنية المعقدة التي تتشكل من طبقات متراكبة من التاريخ والثقافة والسلطة، مما يخلق نسيجاً سياسياً ومجتمعيا فريداً يتحدى في كثير من الأحيان التصنيفات الجاهزة للنظم السياسية والمجتمعية الحديثة. ففي قلب هذا المشهد تقف علاقة متشابكة بين الرسمي وغير الرسمي، بين المؤسسات الحديثة والبنى التقليدية، بين النصوص القانونية والممارسات الواقعية، مما ينتج نظاماً يقوم على ثنائيات متجذرة في الوعي الجمعي، مثل الراعي والرعية (القطيع)، والشيخ والمريد، والآمر والمأمور، والحاكم والمحكوم.

تستمد هذه الثنائيات قوتها واستمراريتها من مخزون ثقافي وتاريخي عميق، حيث تمتزج التراتبية العائلية والقبلية بقدسية الدين، وتتلاقى روابط الولاء الشخصي مع هياكل الدولة البيروقراطية. ففكرة “الراعي” التي تجسد السلطة الأبوية الحامية والموجهة، تقابلها ثقافة “القطيع” أو الرعية التي تتوقع التوجيه وتنتظر الرعاية، مما يعيد إنتاج نفس الثقافة في العلاقة بين الدولة والمواطن. فالدولة، في المخيال الاجتماعي والسياسي، ليست مجرد كيان مجرد يقدم الخدمات وينظم الحياة العامة وفقاً للقانون، بل هي امتداد لتلك الصورة الأبوية التي تمنح العطاء وتنتظر في المقابل الطاعة والولاء. هذا النسق لا يقتصر على العلاقة بين الحاكم والمحكوم فحسب، بل يتسرب إلى داخل جميع المؤسسات الوسيطة، مما يشكل أكبر عقبة أمام تكوين مواطنة فاعلة ومستقلة.

وتتجلى هذه الإشكالية بوضوح في بنية الأحزاب السياسية المغربية، التي يفترض أن تكون قنوات للتعبير والتأطير والتداول. فكل الأحزاب اليوم، بعيداً عن شعاراتها الأيديولوجية، تحولت إلى دائرة مغلقة تحكمها علاقة “الشيخ والمريد”. فالقائد، أو “الزعيم”، ليس مجرد مناضل يتم اختياره بناء على كفاءته وبرنامجه، بل هو مركز دائرة الولاءات التي تُبنى على الأساس الشخصي أوالعائلي أوالجهوي أحياناً. ويصبح الحزب تحت قيادته إمارة صغيرة، يسود فيها منطق الطاعة والتبعية، حيث يتحول الأعضاء من مناضلين إلى “مريدين” مهمتهم التطبيل والتزمير والتسويق، وانتظار ” الاكراميات ” وليس النقد والمساءلة والمحاسبة. هذا المنطق الأبوي الطائفي يقتل الإبداع والحوار داخل الأحزاب، ويجمد دماءها، ويحولها من آليات للتغيير إلى أدوات للمحافظة على الوضع القائم وإعادة إنتاجه.

ولا تخرج النقابات بدورها عن هذا الإطار، فكلها تحولت من أدوات للدفاع عن المطالب المهنية والاقتصادية للعمال وعموم المأجورين إلى مجرد امتداد للصراعات السياسوية الضيقة، أو إلى أدوات للمسايرة والمساومة. فثقافة “الآمر والمأمور” تطبع العلاقات داخلها، حيث تُصدر القرارات من القمة لتُنفذ في القاعدة، مع إقصاء شبه كامل لأي محاولة للتفكير النقدي أو المبادرة الذاتية. وهذا يحولها من فضاءات للنضال الديمقراطي إلى هياكل بيروقراطية جوفاء، تفقد مصداقيتها لدى القاعدة التي من المفترض أنها تمثلها، مما يفسر عزوف الكثيرين عن الانخراط في العمل النقابي الحقيقي.

على مستوى النظام السياسي الأوسع، تخلق هذه الثقافة المركبة حالة من الاستثناء الدائم، حيث تتعايش مظاهر ديمقراطية، مثل الانتخابات والتعددية الحزبية، مع مركزية عميقة للقرار. فالتناوب على السلطة يحدث، لكن ضمن حدود مرسومة سلفاً، وأطر لا يمكن تجاوزها. وخطوط حمراء لا ينبغي الوصول اليها، مما يخلق حالة من “الانفصام السياسي”، حيث الخطاب الرسمي يتحدث عن الحداثة والديمقراطية والمواطنة، بينما تستمر الممارسات على الأرض في إنتاج وتكريس علاقات التبعية والولاءات الشخصية والوصاية. هذا الوضع لا يعيق تطور النظام السياسي فحسب، بل يضع عقبات فاضحة كالجبال أمام انعتاق الطاقة المجتمعية الكامنة.

فالشباب الطموح، والمفكر النقدي، والمرأة التي تسعى للمشاركة الفاعلة، كلهم يصطدمون بسقف غير مرئي مصنوع من هذه العلاقات المتجذرة. إنهم يواجهون خيارين صعبين: إما الاندماج في اللعبة وقبول قواعدها غير المكتوبة، وبالتالي المساهمة في إعادة إنتاج النظام ذاته، أو الانكفاء والانسحاب إلى الهامش، مما يعزز ظاهرة العزوف السياسي والإحساس بخيبة الأمل. وهذا ما يفسر ذلك التناقض الظاهري بين حيوية المجتمع المغربي وطاقته الإبداعية من جهة، وجمود المشهد السياسي الرسمي من جهة أخرى.

خلاصة القول، إن النظام السياسي المغربي، رغم كل مظاهر التحديث التي غلف بها نفسه، لا يزال يرتكز على عقد ثقافي واجتماعي تقليدي، يقوم على الهرمية والولاء والوصاية. هذه البنية، التي تتجلى في الدولة كما في الأحزاب والنقابات، تشكل نظاماً مغلقاً يحافظ على ذاته ويقاوم التغيير. إن أي أمل في تطوير هذا المشهد وانعتاقه رهين بقطيعة حقيقية مع هذا المخزون الثقافي الذي يختزل السياسة في علاقات الأشخاص والولاءات، وترجمته في البرامج والأفكار والمؤسسات. وهو تحولٌ لا يتعلق بتعديل القوانين فقط، بل بثورة ثقافية عميقة تنتقل بالمجتمع من ثقافة الراعي والقطيع إلى ثقافة المواطنة والحق والمسؤولية المشتركة.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!