في مصر كانت لنا أيام

في مصر كانت لنا أيام

   صدوق نورالدين   

     ♦♦ هذه ورقات كتبت في صيغة مذكرات. الغاية منها استحضار لحظات أدبية وثقافية تأتى لي معايشتها إلى جانب أصدقاء فرقت بينهم السبل، ومنهم من ودع. حاولت جاهدا الاعتماد على الذاكرة في الاستحضار. وأما ما فاتني استعادته، فكنت أتوجه بالسؤال عنه إلى أصدقاء مثقفين وأدباء من خارج المغرب، فأمدوني بأسماء أمكنة وذكروني بزمن بات بيني وبينه قرابة العشرين سنة. من قبل حكيت عن الرحلة إلى سوريا والآن عن مصر ♦♦

     كانت صدفة اللقاء بالدكتور سعيد علوش في القاهرة. وألمحت فيما مضى إلى كوني سأعود للتفصيل في مذكرة قادمة. ذلك أني _ وفي هذه الفترة تحديدا _ سأزور مصر ليس عابرا، وإنما مقيم مدة أسبوع تقريبا تمردت فيه على وظيفتي في التعليم، والتراخيص التي لا تعترف بك كاتبا أو أديبا. فأن تزور القاهرة من خلال دعوة، أفق ينفتح على القادم مستقبلا إن كان في خريف العمر بقية. سافرت وليكن ما يكون.

تحققت دعوتي من طرف الأستاذ علاء عبد الهادي الذي رأس حينها جمعية أدبية تابعة لجامعة عين شمس. حدد موضوع اللقاء في النص والتأويل. كان من المفروض أن يحضر الأستاذ محمد معتصم. ومثلما اشرت أتيح التعرف العميق على الأستاذين سعيد علوش وفاتحة الطايب. وجددت علاقتي بالأستاذة والناقدة الأردنية امتنان الصمادي التي تواصلت مراسلاتي وإياها إلى اليوم.

كان سفري متن الخطوط المصرية تمام منتصف الليل، إذ أعاد شرطي الجمارك سؤال استغرابه: مؤتمر أيضا؟ وكأني به/بي لا ينبغي أن أدعى، ولا أن أمثل بلدي في لقاء أو ندوة. وربما لا أغادر المغرب. هذا الاستغراب لم يثر السيدة الاسكندنافية الجميلة في مطار كوبنهاكن التي اكتفت فقد بمعاينة الجواز قائلة: مرحبا.

وصلت مطار القاهرة الدولي عند السادسة والنصف صباحا. تفحص الجمركي جوازي طالبا مني الانتظار. وبعد مدة ختم قائلا: يا نور نورت مصر. لم أجد في انتظاري أحدا. عرض علي سائق تاكسي إيصالي إلى جامعة عين شمس. هناك على لوح وضع في الساحة عند المدخل اشير إلى أن أشغال المؤتمر ستجرى بمكان أشبه بأكاديمية عسكرية. اقترح علي السائق حجز غرفة في فندق والبحث عن المكان لاحقا، وهو ما تم، حيث قادني إلى فندق استنتجت بأن له علاقة بأصحابه، إذ تركني في السيارة مدة وعاد ليخبرني بأنه عثر لي على غرفة. وكان قبل هذا لف بي في دورة وسط القاهرة أطلعني فيها على حد زعمه على قصر الرئيس حسني مبارك. قال: لاحظ إن زجاج النافذة العلوية مكسور من زمان، ولم يصلح.

أقمت في الفندق ليلة واحدة التحقت بعدها بالمكان الذي تعقد فيه اشغال اللقاء. هاتفت في المساء الصديق الناشر رضا عوض الذي طلب مني ركوب سيارة تاكسي والالتحاق بشارع عابدين. أخطأت عند خروجي من الفندق السيارة الأولى، ليتوقف شاب أسمر توحي ملامحه كما لباسه على كونه يغرق في معاناة حياتية قاسية. قال: شوفت أنت اليوم من حظي. مرحبا بك في مصر. سألني عن بلدي. ولما قلت مصر، أجاب بأنه لا يعرف سوى فريقي الرجاء والوداد والفنانة سميرة سعيد. سألته لما لاحظت صغر سنه، إذا كان يدرس

فرد بأنه يقضي نصف اليوم في الجامعة، والثاني في سياقة سيارة التاكسي. وأما في الصيف، فيغادر إلى ليبيا للعمل في شركة الإسمنت. وكشف عن جرح في ذراع يده اليمنى.

تضج القاهرة بالزحام. يتطاير الغبار. أتذكر “الخماسين” للروائي الراحل غالب هلسا. الحافلات المكتظة بالركاب في عودة ربما من الدوام. المحلات التجارية مفتوحة. والبنايات ذات الطراز الاستعماري جميلة الشكل تبكي حاجتها للصباغة والتبليط. قال السائق محمد: نقارب من عابدين. ساحة واسعة. محلات في كل مكان تستوقف العابرين فيلقون نظرة على الداخل وينصرفون. يجد بعضهم في السير لا يلوي على شيء. أستحضر الروائي عبد الله العروي متحدثا عن الميدان في القاهرة وأثره في/ وعلى كتابة الرواية.

تركني الأسمراني وسط الساحة. أمدني برقم هاتفه إن احتجت شيئا. توقفت على الرصيف شبه حائر. وقعت عيناي على مكتبة لم أتردد في توجيه السؤال لصاحبها الذي طعن يتذوق شايه الأسود. سألته إن كان يعرف مكتبة دار رؤية. قال لف يسارا، وعند أول زنقة على اليمين تجد المكان.

كان رضا عوض في الداخل. بمجرد أن رآني مات دهشة. سأل عن الحال والحياة الثقافية في المغرب. أخبرته بأن الروائي عزت القمحاوي سيلحق بنا، وهو ما كان حيث استضافنا في مطعم متخصص في شي الدجاج. عبر رضا عن رغبته في نشر كتاب لعزت مقترحا إعادة طبع “الأيك في المباهج والأحزان”. إلا أن عزت لم يبال بالمقترح.

سقط ليل القاهرة في غفلة منا. امنلأت الفضاءات جميعها بالحياة. فحيثما رمى المرء نظره رأى الأمكنة تعلن صخبا يمتزج فيه الكلام بجلجلة الضحك ورائحة الشيشة التي تلفيها في كل ممر أقيمت فيه طاولات صغيرات يخاطبك صاحب المقهى: أسوي لك قعدة يا باشا.

ركبني خوف أن أتأخر عن الوصول إلى مكان الإقامة، فلا أعثر على وسيلة للنقل. قال عوض مستهزئا: أنت فاكر نفسك في المغرب.

كان من المفروض أن ألقي عرضي مساء اليوم الثاني من إقامتي في مصر. إلا أني فوجئت باللجنة المنظمة تغير الموعد دون استشارتي، حيث قدمت العرض صباحا. وبما أني في مصر، اخترت الحديث عن القاص والروائي يوسف إدريس متناولا قصته القصيرة “يموت الزمار” الواردة ضمن مجموعته “اقتلها” (مكتبة مصر/1977). وصيغت بدايتها كالتالي:

” تقريبا كل ما كتبته من قصص ونسبته إلى نفسي أو قمت فيه بدور الراوي، كانت كلها أبدا لم تقع لي، إلا هذه القصة فأنا فعلا فيها الراوي وما حدث فيها حدث لي.” (ص/16)

لم يحضر أحد الجلسة من أصدقائي. لكني سعدت بوجود الأستاذ الكاتب والناقد الراحل الدكتور صلاح فضل الذي قرأت له مبكرا كتابين: “نظرية البنائية في النقد الأدبي” (1978) و”علم الأسلوب” (1984)

وتدخل في نهاية العرض المنشور ضمن كتابي “بلاغة النص” (دار النايا/ دمشق/2013). إذ بعد تحليلي للطريقة التي تحقق وفقها بناء القصة، إلى المادة المعبر عنها وأجملها يوسف إدريس في التلخيص التالي:

” يموت الزمار وأصابعه تلعب. فالعزف شكل موجات وجوده وحتما يظل يعزف ويعزف إلى آخر الرمق، فالمسألة ليست هزلا. إن لها قانونا. وهكذا بدلا من الموت كفا وكفرا بأداء الدور. أليس من الأروع أن تظل تعزف مهما بدا عزفك نشازا أو شاحبا سيأتي الذي يعلو ويجبر الناس من صدقه على السمع، أو حتى إذا لم يأت اليوم.

فماذا تفعل؟

إنه وجودك، لا فكاك منه.” (ص/40_41)

جاء تدخل الدكتور صلاح فضل ليضيء جانبا الخصوصية المحلية التي بنيت عليها فمرة كتابة القصة. فالعنوان “يموت الزمار”، مستوحى من المثل الشعبي المصري “يموت الزمار وإصبعه تلعب”. ومؤداه أن من درج على عادة لا يمكنه التخلي عنها. وهنا أشرت إلى كون المحلي في خصوصيته يغني النص ويضيف إليه دون أن يفقره بالتأثير السلبي، والدليل كوننا نقرأ الآداب العالمية ونتعرف على خصوصيات هي في العمق والجوهر ما يشكل ثقافة النص في بعده الاجتماعي، السياسي والثقافي.

وأما التدخل الثاني، فكان لأحد السعوديين لم أعد أذكر بالضبط أيهما، معجب الزهراني أم العدواني، حيث طالب بالكشف عن المراجع المعتمدة في كتابة البحث، وكأني به يرغب توريطي، فأكدت على أن العادة جرت أكاديميا أو غيره، إثبات المراجع في نهاية الدراسة.

أمضيت مساء اليوم الثاني برفقة الأستاذ سعيد علوش، ويعود له مطلق الفضل في تعريفي بفضاءات القاهرة، حيث تفسحنا في شوارعها وميادينها الناطقة بالحياة، والتي تحس في جوانبها بالمشترك الاجتماعي والإنساني الذي يشكل وحدة العالم العربي. فحيثما تقصد، تستقبلك البسمة والترحاب خاصة إذا أعربت عن هويتك بالانتماء للمغرب.

كان الأستاذ سعيد بقامته الطويلة، أناقته، عويناته والبايب في فمه يلفت نظر المصريين في معظم الأمكنة التي تعرفنا عليه. طينة مغايرة في سلوكه، آرائه، مواقفه وكرمه اللايحد.

أما والمساء يداهمنا فقصدنا دار الأوبرا ببنائها الرفيع الذي افتتح رسميا في (1988)، ويطلق عليها أيضا (المركز الثقافي القومي). وتتفرد بفساحتها وشكل بنائها الذي يوحي بطابعه الإسلامي المتمثل في أبوابها وقبابها. وقيل بأن أحد المصممين اليابانيين عمل على تجديد فكرة البناء والتخطيط كبديل لدار الأوبرا التي أنشأها الخديوي إسماعيل في (1869)، واحترقت في (1971).

توافقت مناسبة زيارتنا لدار الأوبرا ونهاية أشغال ملتقى القاهرة الدولي الخامس للإبداع الروائي، وتوج بمنح

الروائي الليبي إبراهيم الكوني جائزة الرواية العربية عن العام (2010). وفاز من قبل بنفس الجائزة عبد الرحمن منيف (1998)، الطيب صالح (2005)، إدوار الخراط (2008)، بينما رفض صنع الله إبراهيم  استلامها عن العام (2003). وتأتى للمناسبة تجديد اللقاء ببعض الروائيين كالراحل إلياس فركوح واوسيني الأعرج، مثلما تعرفت على الناقد الأردني فخري صالح، والروائية ميرال الطحاوي والقاص والروائي منتصر القفاش.

أمضي صباح اليوم الثالث في صحبة الروائي عزت القمحاوي الذي عرفني على أبرز معالم القاهرة، وبالتحديد الموجودة في وسطها أو قريبا. ومن تلك، موقع جريدة “الأهرام” و”أخبار اليوم”. وهنا بنايتان تتشكلان من طوابق تضمان مكاتب يتفرد كل طابق باختصاص حسب المنشورات المتوافرة في السوق. فإلى فترة كانت جريدة “الأهرام” تصدر في طبعتين يوميتين: الصباحية والمسائية، إلى إصدارات تتوزع بين السياسي، الرياضي، الاقتصادي. وكان من أبرز كتابها الروائي نجيب محفوظ، توفيق الحكيم، لويس عوض، زكي نجيب محمود وجابر عصفور، علما بأن الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل تولى رئاسة تحريرها على امتداد حياة الزعيم جمال عبد الناصر، حيث ذاعت شهرة هيكل الصحافية مقترنة بمقاله الأسبوعي “بصراحة” الذي بدأ نشره منذ (1957)، حيث جمع في مجلدات نيفت على (16 مجلدا) توقفت أحداثها وقضاياها عند (1974). وتولى هيكل لاحقا مسؤولية رئاسة إدارة “أخبار اليوم”.

 على أن من الفضاءات التي تعرفت عليها “عمارة يعقوبيان” الموجودة في شارع طلعت حرب، واستوحاها روائيا علاء الأسواني، مثلما تحولت إلى شريط سينمائي في (2006). واضطلعت أيضا من بعيد على بيت الروائية الراحلة رضوى عاشور. بيد أن من أهم الفضاءات ذات الطراز المعماري المذهل وشبه المهملة مبنى وزارة الأوقاف الواقع وسط القاهرة.

وكان أن لحق بنا في منتصف النهار الناقد الأستاذ محمد برادة الذي استضافنا بكرمه المعهود في مطعم “فلفلة”، حيث حرص على القول البليغ مخاطبا الروائي عزت القمحاوي بأن أي مغربي يحل بالقاهرة فإن له أن يستضيفه إذا حدث وتواجد فيها.

وأما في اليوم الخامس، فأخذني عزت القمحاوي في سيارته الصغيرة على مطار القاهرة الدولي، مبينا كما قال “مهارته في السواقة”.   

شارك هذا الموضوع

صدوق نور الدين

ناقد وروائي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!