في وداع “با هادي”.. أو قصتي مع رجل عميق من المغرب العميق
إسماعيل طاهري
أيها الرجل الطيب. الورع الذي أفنى حياته في العمل الصالح وخدمة الناس والعطف على الفقراء. والوقوف الى جانب المظلومين منذ أن كنت كاتبا لفرع نقابة الاتحاد المغربي للشغل في الخمسينات من القرن 20 في مطار سلا. وبوصفك من الوطنيين الأوائل الذين انخرطوا في حزب الاستقلال ودافعوا عن عودة الملك محمد الخامس، وأقسموا على الوفاء لمبادئهم النبيلة مدى الحياة. وكثيرا ما حدثتنا بفخر، في مجالس العائلة، عن مشاركتك في مظاهرات خنيفرة في الأربعينات..
…
وقد كانت لي معك سجالات ونقاشات حول معتركي السياسة والمجتمع، وكانت تتخللها قفشات، ومستملحات، وعندما أتجاوز بعض حدودي، تقول لي مبتسما: قل ما تشاء، فأنت صديقي!
وهكذا بدهائه يطفئ جذوة اندفاعي، ويهدئ من روع الحاضرين معنا في مجلس العائلة، وتتلطف الأجواء وتعود الابتسامة التي اختفت الى حين.
…
كنت يا ” با هادي” تعاملني كواحد من أبنائك البررة، ولن انسى احتضانك لي في فترة توتر عائلي في بداية الشباب، وفتح منزلك في وجهي عندما غادرت مكرها منزل والدي لأشهر عدة.
وهذه مناسبة متأخرة لأقول لك شكرا. فبفضلك تمكنت من الحصول على شهادة الباكالوريا بهدوء، ولما كنت على ما أنا عليه الآن من مقام أفرحك كثيرا، وجعلك تفتخر به وبي. وأنت الذي أبيت ألا تكون “مختالا فخورا” وقد بلغت شأوا عظيما بعدما بدأت مشوارك عائلا و”ما ودعك ربك وما قلى”، ولم تملأ قلبك يوما بما كنت تسميه “طمع الدنيا“.
…
سوف لن انسى كذلك، ما حييت تقديرك وتفهمك لاختياري الفكري والسياسي على يسار الدولة والمجتمع. وكنت تكبر في صرامتي وجديتي وعنادي رغم بعض من عتاب خفيف..لأن ذلك يتسبب لي في بعض المعاناة والمشاكل..وكنت تمتص ضربات المخزن في نضالات وكتابات التسعينيات في جريدة “أنوال” وفضاء سجلماسة وتهديده باعتقالي ولا تخبرني حتى بها.. حماية لعودي من الانكسار..
….
لقد كنت نموذجا للرجل الذي يقدس العمل ويعمل ليل نهار من أجل تنمية تجارته، إنك الكنود الذي لم يأخذ عطلة في حياته أو قسطا من راحة طيلة مسار مهني طويل وشاق بدأته في رحلة الشتاء والصيف الى الجزائر ومنها،عندما كنت طفلا لا يتجاوز عمره 14 سنة، وقد حكيت لي مرارا عن رحلة وراحلة السفر الى بشار على الأرجل، وقطع مئات الكيلومترات وسط أراض قاحلة، تتخللها واحات متباعدة، وما يرافقها من أهوال وجوع وعطش، وظروف العمل القاسية في ضيعات العنب والكروم والحبوب المملوكة للمعمرين الفرنسيين.
…
لقد كنت طيلة حياتك، الممتدة في قلبي، حسن المعشر لا يمل من كلامه أحد، فكله حكم وقصص أنبياء وأولياء مشوقة وقرأن كريم أحاديث نبوية. كنت في الموائد تأكل كالطير وفي المجالس تتحدث كالولي، ولا تجلس مختالا، ولا تمشي في أي بساط، مهما كان لونه، مرحا رغم حضوتك الإجتماعية. ومن كثرة جودك وكرمك التي لا تخطئها العين.. لم تنهر فقيرا أو تهجر رحما أو تجافي من ظلمك أو أكل رزقك.
…
كنت يا ” باهادي” عفيفا حليما تتقي شر ظلك من شدة زهدك وإيمانك العملي.، فالدين عندك معاملة. ومقولة ” النية أفضل من العمل” كانت ديدنك الذي لا يفارق لسانك في كل المواقف التي عشتها. ومع ذلك فقد كنت مهاب الجانب في صمتك وفي حديثك.
…
لقد كنت تلعب دور قاضي الأحوال الشخصية، (قبل أن تكون قاضيا رسميا) وتدخل خيطا أبيضا في المشاكل والصراعات الأسرية، وغالبا ما كانت تدخلاتك ناجحة.، وقد رافقتك في بعض مساعيك الحميدة عندما كنت طفلا يافعا لا يلو على شيء، خصوصا في مجتمعات قبائل ودواوير أغبالو نكردوس وفركلة وملعب وأيت عيسى وإبراهيم قرب تنغير.
وعندما توليت منصب قاض في محاكم القضاء الجماعي بمدينة تنجداد في بداية التسعينات من القرن الماضي كنت نزيها ومنصفا وعاضا على الحق بالنواجد في تدقيق حيثيات أحكامك، ومعظم ما عرض عليك من نوازل وقضايا ومنازعات غلبت حلها باعتماد مسطرة المصالحة والتنازل حتى اشتكت منك الإدارة لقلة مبالغ الرسوم والصوائر. وبعد فترة قصيرة استقلت من منصبك كقاض مفسرا ذلك بكونك لا تريد أن تظلم أحدا على يديك. وتحلم أن تلقى الله طهورا طاهرا، وليس على رقبتك ذمة. فقد كنت تقول محذرا والخشوع يعلو وجهه: “حق العباد لا يسقط“.
…
لقد كنت يا “با هادي” حقا من أعلام واحة فركلة الكبرى، وقد بلغ صيتك الآفاق بعد نجاح تجارتك وشهرتك بخدمة المجتمع أولا قبل التفكير في الربح المادي. كنت تعتبر الخياطة خدمة اجتماعية (لله) أولا وأخيرا.
لقد كنت رجلا طاهرا صوفي الهوى، قابضا على الجمر في إيمانه، متسامحا في تعاملاته اليومية،
كنت فاضلا بوقارك وحسن خلقك، ووفائك لقيم العائلة، فعندما تغضب لا تنتقم، وعندما تفرح لا يركبك الغرور. وعندما يفيض جاهك، تتصدق سرا، ولا تتكبر. لم تمش مرحا يوما واحدا في حياتك. كنت متواضعا عزيز النفس، تخاف على عرضك وشرفك، لا يسمع لك في محفل صوت عالي الطبقات، مهما بلغ حنقك. فقد عشت مسالما الى حد كبير، لم تشتك أحدا الى محكمة. كنت ترفع شكواك دائما الى الله، وتعتبر كل ما واجهك من خير أو ضر فهو قضاء وقدر.
…
هذه قصتي مع رجل عميق من المغرب العميق.
من يكون؟ وما الخطب؟
إنه عمي القاضي الطاهري الحاج عبد الهادي بن الذهبي الذي تجاوز 100 سنة، وقد رحل عن عالمنا مساء الأحد 26 أكتوبر 2025.بمدينة تنجداد/الرشيدية.
وداعا”با هادي“.
يا قصة تستحق أن تروى. وقد استحقت أن تعاش بقصر قطع الواد.
