في وداع زياد!

في وداع زياد!

   د.جمال القرى

                هل ارتاح زياد الرحباني بموته مما أرّقه على مدى سنوات حياته منذ تشكّل وعيه المتفتّح في عزّ بروز تناقضات المجتمع اللبناني وتحوّلها إلى حروب أهلية وطائفية ومآسي ومظالم. كيف لهذا الشاب المولود في عائلة فنية عظيمة كان لها الأثر الأكبر في رسم صورة وردية ومثالية للبنان تحوّلت إلى سردية مؤسِّسة رفعت هذا البلد الصغير إلى مصاف العلا والتفرّد والتنزيه عبر الكلمة النثرية والشعرية واللحن والغناء.

زياد ظاهرة إنسانية فريدة ثورية متمرّدة على العائلة والتقاليد والمجتمع، رافضة لكل المفاهيم التي قامت عليها السرديات المؤسِّسة وخصوصاً سردية عائلته الفنية الرحبانية. لقد قاد ثورة داخل أناه فجّرها في سن السابعة عشرة من خلال الألحان وسهرية ونشيد الثورة الرائع والشعب المسكين، ليكمل ثورته على طريقته بتبنّي أفكار يسارية وماركسية كانت بمثابة الكفر في بلاد الطوائف والأديان. ولكن من أين أتى زياد بهذه الطاقة الخلّاقة التي جعلته معجوناً بتناقضات كل الأطياف وبرفضها في آن، حتى ليخال كل طيف أن زياد جزء منه في مكانٍ ما. لقد كان كل الهويّات اللبنانية مجتمعة في روحٍ واحدة، عمل على تفكيكها بفكرٍ جدلي وبألحانٍ تمسّ الروح، وببلاغة كلامية قلّ نظيرها، ورواها في قالب من السخرية والنقد اللاذع بعيداً عن الابتذال. لقد كان ثائراً على طريقته، عبّر عن آلام الناس المهمّشة ونقل وجعها بطريقة مضحكة مبكية، إلى مسرحه ليجعل منه مرآة حقيقية لمجتمعه. فهو لم يرث من عائلته سوى النبوغ وحب الموسيقى الذي تخطّاهما ليستثمرهما بخلق نبوغ وموسيقى جديدين هما خالدان في الذاكرة الإنسانية وفي ذاكرة كل الأجيال والأطياف بكل تناقضاتها.

ما كان يمكن لزياد من بلوغ ما بلغه من نبوغ وإبداع إلا بعدما رفض التسلّط، التسلّط كفكرة عامة وخاصة، لقد “قتل الأب” في داخله ليتحرّر من سلطته، و”قتل أبوية السلطة” ليحرّر مجتمعه. فإذا كانت صورة لبنان التي قدمها الرحابنة مع فيروز تتماهى بالفكرة القومية المثالية، وتسمو بلبنان إلى العالي الذي لا يُمسّ، فإن زياد فكّك هذه الصورة المثالية بالفكرة الماركسية ونقدها وشرّحها بكافة أبعادها الطبقية وأنزلها إلى نقيضها، إلى الواقع المبكي الأليم. لقد أنسن فكرة لبنان بالكلمة الحرة الصادقة وباللحن الموسيقي وقدّم من خلالهما صورة حقيقية مؤلمة وساخرة عن مأساة هذا المجتمع الذي نعيش.

وداعاً زياد الإنسان الثائر العبقري الذي يستكمل بموته الإشكاليات التي رافقته في حياته!

شارك هذا الموضوع

د. جمال القرى

طبيبة وكاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!