قاب قوسين أو أدنى

قاب قوسين أو أدنى

لحسن أوزين

             وأخيرا وجد نفسه في المحطة المؤلمة جالسا بجانبها على مقعد خشبي، على مقربة من خط السكك الحديدية. كثيرا ما كان يردد سرا وجهرا “الحياة سفر رهيب تتلاعب بنا أقدارها الكئيبة ذات اليمين وذات الشمال.” كانا يتبادلان بعض الجمل القصيرة، التي تمزق من حين لآخر سطوة عذابات رهيبة تحفر في الأعماق أسئلة مؤلمة حول خيبة الحب الذي كتب عليه الشقاء وقدر ألا يكتمل. كل واحد منهما جاء متأخرا بسنوات معدودة عن موعد انبثاق زهرة الحب والعشق الجنوني.. زهرة كانت بحجم صخرة سيزيف الملعون. هي لم تكن واثقة من قدرتها على كسر جدار العمر وتصديق حب لم يولد بالصدفة العمياء. فالرجل عاش التجربة بما يتجاوز الرؤيا الى الواقع الملموس. طيلة سنوات كانت صورتها لا تفارق حلمه الواثق من نفسه على أن هذه الفتاة هي حبه المفقود. نسج معها بصمت جواني الكثير من الأشياء، وصرح لها بكل ما يعتمل في دواخله الصامتة والمجهولة، والمشحونة بالكثير من الحزن والألم الذي لم تكن تعرف عنه إلا النزر القليل. ترك لها في نفسيته الدفينة ممرات للمرور، دون أن ينصب في وجهها أية حواجز، حالما باشتباك القلوب بقوة تقهر كل افتراق. هكذا كان يغازلها في نفسه المكلومة بحب صادق كل صباح على أمل أن يكون قد بدد أية عتمة تحول بين تحقق التواصل الحميم، المحلوم به على مر الزمان، والمنتظر على أحر من الجمر. كان ممعنا في إصراره تصديق الرؤيا التي لاحت له ذات يوم في جوف الليل على أن فتاة تنتظره على مسافات موعودة، وعلى أن اللقاء حاصل لا مفره منه كالقدر المحتوم.  صحيح أن طيف شعور حزين كان ينتابه من حين لآخر، كلما اعتلت صورتها شاشة مخيلته. لكن سرعان ما كان ينحيه جانبا بعناد العاشق الصدوق. لم يشعر بأية صدمة استغراب عندما رآها لأول مرة، الملامح نفسها، وتقاسيم الوجه ذاتها. اختلط عليه الفرح بالحزن الكئيب، حين مر شبح الخيبة في تجاويف القلب معلنا إشارات عذابات رهيبة تنتظره على حافة السكة، وهي تعلن نهاية الحلم وبداية طريق دفع الصخرة من جديد، ومواصلة درب الآلام. كان يعرف أن حياة المستنقع الآسن الذي يتخبط فيه الناس كل يوم، تشوش الرؤية وتعمي صدق النفس و ما يستوطن القلب من جنون الحب والعشق. صعب على فتاة ولدت في هذا الوحل الذي تحرسه لوثة الرجال في القهر والغدر  أن تصدق رجلا تكلم الحب في جوفه العميق. كان يدرك خيبته واستحالة عيش لحظة الفرح التي انتظرها طويلا.

كان صعبا عليه أن تجتمع الحقيقة والاستعارة في لحظة انتظار مروعة، تمزق أحشاءه دون شفقة ولا رحمة. كان أشلاء بين قطار يعلن قدومه الوشيك نهاية حلم اغتصب فيه الخريف جذوة الربيع . وتساقط العمر أصفرا مدهوسا تحت أقدام المارة. وبين قطار يرميه مهزوما خائبا من محطة لأخرى دون وعد بالحب و الحلم، وهو يرى الأمل مذبوحا على عنف سكة الحديد من الوريد الى الوريد.

آه.. لو أمكن لهذه الفتاة أن تطل على حرقة الحب التي تعذب هذا الرجل دون أن يقوى على هزم سنوات الصبر والخيبة التي جثمت على النفس.. سنوات تعلن بقسوة وعدوانية فشله المرعب في تضميد جراحات الحلم العاري من دفء الحب.

شارك هذا الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!