قراءة أولية في انتفاضة جيل Z

قراءة أولية في انتفاضة جيل Z

 عبد الرحمان الغندور

           بعيدا عن التخندق في منطق التآمر والمؤامرة، والحسابات السياسية لأطراف متصارعة، ومن أجل فهم ما يجري فإن المغرب اليوم يبدو مثل بركة آسنة تتحرك بتعقد بليغ يستدعي ضرورة فهمه من خلال تفكيك مكوناته.  ويرسم هذه التحرك بصرامة وجرأة جيل جديد من الشباب، لم يعد محملاً برايات أيديولوجية جاهزة، بل هو مشبع بإحساس التهميش الذي يطاله على جميع الواجهات، ويبحث عن مكان في عالم لم يعد يعد بالكثير. إنه جيلٌ يحمل بين جوانحه رؤى متشابكة للحياة والوطن والمستقبل، تتحرك من رحم الفضاء الرقمي حيث تُختزل مطالب العدالة والحرية والكرامة في مقاطع مصورة حادة، ومنشورات ساخرة وتدوينات غاضبة، وحملات افتراضية، ما تفتأ أن تتحول بين عشية وضحاها إلى هتاف في الشارع.

هذا الجيل، ابن “هنا والآن” بامتياز، يعيش تناقضاً صارخاً بين عالمين: عالم الميتافيرس الذي يمنحه الأجنحة للتحليق والتواصل والتعميم، وواقع البطالة والإحباط والتهميش التي تغرقه في واقع يزداد فسادا كل يوم. إنه جيل التطبيقات الذكية والتواصل اللامحدود، الذي لم يعد يستمع لخطابات التقديس والتمجيد ويرفض لغة المكتسبات الكبرى، ولا ينخدع بالوعود والشعارات الفضفاضة. إنهم يعيشون عالم الميتافيرس بينما يقفون في طوابير البطالة، والضياع والاحباط ويتصفحون فرص العمل عن بعد وهم يعانون من قيود سوق محلي لا يستوعب أحلامهم.

لا ينظر هذا الجيل إلى السلطة بالعينين اللتين نظر بهما أسلافه. فلم يعد نظرهم منصبا فقط على القصر أو الحكومة فقط، بل يمتد بوعي هلامي إلى جميع رموز الفساد والاستبداد في الاقتصاد والسياسة والإدارة والقضاء، ووسائل الإعلام التي فقدت بريق مصداقيتها. الأهم من ذلك، أنه جيل يوظف سلطة جديدة تقوم على الخوارزميات والبيانات وسرعة التواصل والانتشار. وهو يحاول أن يستخدم نفس الأداة كشكل فاعل في المقاومة لمواجهة سلطة تقليدية غاشمة. إنهم يواجهون سلطة من نوع جديد، مبتكرين أشكالاً جديدة من التعبير والتنظيم تتجاوز المفاهيم التقليدية لدى النقابات والأحزاب.

تشكل هذه الحركة تيارا متشابكا ومعقدا ذا طبيعة هلامية، أشبه ما يكون بشبكة عنكبوتية بشرية، قابلة للتشكل بشكل فجائي وسريع كعاصفة رقمية ضد غلاء المعيشة، ومشاكل التعليم والتطبيب والعديد من حالات الفساد، ثم تتحول إلى احتجاجات وانتفاضات كلما واجهتها  حادثة عنف مهينة. إنهم رواد ما يمكن تسميته بـ “رد الفعل الاحتجاجي” (Réaction protestationelle) بحيث لا ينتظرون قيادة تأمرهم، بل يصنعون قيادتهم في اللحظة ذاتها،  بما يمليه واقع “الهنا والآن” من قدرة على التعبئة السريعة، التي تحاكي منطق الإنترنت الذي نشأت فيه، وتجعل من الصعب على الأنظمة التقليدية فهمه أو التعامل معه.

لكن هذه القوة الرقمية تحمل في أحشائها تناقضها الأساسي: فالقدرة على التحشيد والتجييش الخاطف لا تعني بالضرورة القدرة على الاستمرار في الزمان وفرض حلول جذرية لما تطرحه من مشاكل وقضايا. فقد تنجح في إسقاط مسؤول أو إلغاء قرار، لكنها تصطدم بصخرة الهياكل الاجتماعية والاقتصادية المتجذرة في بنية النظام السياسي والاقتصادي. وقد يغيرون بعض مكونات المشهد، لكنهم لا يملكون أدوات تغيير النظام من جذوره. فقدرتها منحصرة في إحداث صخب قصير الأمد، غير قادر على أن يترجم بالضرورة إلى تغيير هيكلي مستدام في بنية النظام.

يمكن فهم المشهد على هذا الأساس، وكأنه حوار صامت بين قوتين:

قوة النظام المتجذر الذي يميل إلى مواجهة هذه الحركة عبر وسائله القمعية المعروفة، أو استيعاب الصدمات عبر إصلاحات ترقيعية، يحاول من خلالها امتصاص الغضب دون المساس بمراكز الثقل،

وقوة طاقة الجيل الجديد المتطلع الذي يرفض الترقيع، ويطالب بتغيير يحقق الحد الأدنى من طموحاته.

وبين هاتين القوتين، تطرح الأسئلة حول المسارات الممكنة التي يمكن ان تسير فيها البلاد

والمسار الأول هو مسار الإصلاح المركب، حيث يحاول النظام السياسي تلبية جزء من المطالب مع الحفاظ على استقرار البنية السياسية، عبر مبادرات شبابية واقتصادية وإصلاحات قانونية. لكن هذا المسار يعتمد على قدرة النظام على الاستمرار في تلبية الحد الأدنى المتصاعد للطموحات، وهو تحدٍ ضخم في ظل اقتصاد هش وتحديات اجتماعية متزايدة.

أما المسار الثاني، فهو مسار التصعيد، الذي قد ينشأ إذا ما شعر هذا الجيل بأن الأبواب موصدة أمامه، أو إذا حدثت صدمة كبرى تدفع بالغضب المتراكم إلى الانفجار. وهذا المسار لا يعني بالضرورة ثورة بالمعنى الكلاسيكي، بل قد يأخذ أشكالاً من اللااستقرار المزمن، أو الاحتجاج المتقطع الذي يستنزف الجميع، دولة ومحتجين.

وبين هذين المسارين، يبرز أمل ثالث، قد يكون الأصعب تحقيقه، لكنه الأكثر استدامة إذا ما تحقق: وهو تحول هذه الطاقة الاحتجاجية  إلى قوة إبداعية تشارك في صنع التغيير من داخل المؤسسات. أن يتحول الغضب إلى رؤية، والطاقة الرقمية إلى مشاريع اقتصادية إبداعية، والصوت الافتراضي إلى سياسة جديدة ومبادرات مجتمعية. أن يتحول هذا الجيل من الخارج الناقد إلى الداخل الفاعل، دون أن أن يكون عرضة لأن يفترسه النظام عبر الاحتواء والتدجين.

ويبقى مستقبل المغرب، في النهاية، غير محسوم لفائدة أي من هذه القوى. إنه مساحة من الصراع الذي لا يمكن التنبؤ بمخرجاته، حيث يحضرالجيل الجديد بقوة وجوده، بينما يحاول النظام إدارة دفة المركب في بحر هائج. والنتيجة قد  تكون إما ثورة دراماتيكية تقلب كل الموازين، وغير محسوبة العواقب. أو قد تكون إصلاحيا حقيقيا ينبع من حكمة النظام السياسي – إذا كانت له حكمة – ويعمل على اصلاح جذري لمكوناته الصلبة مما يمكن البلاد من تحولات عميقة، إنها معركة إرادات وإبداع وحكمة قد تفرز معادلة جديدة، تحولٌ المغرب دون عواصف وزلازل وبراكين، بما يسمح له بالتجدد واستيعاب روح جيل لم يعد ينتظر المستقبل، بل يريد أن يساهم في صنعه بلغة العصر، وبلغته هو.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!