قراءة مغربية في كتاب نظام التفاهة

عبد الرحمان الغندور
منذ قراءتي الأولى لكتاب “نظام التفاهة” للفيلسوف الكندي ألان دونو، وأنا استعير مفاهيمه لاستيعاب وفهم التحولات التي يعرفها المغرب، لا سيما في ما سمي بـ”العهد الجديد” مع بداية هذا القرن. وقد سبق لي أن نشرت تقديما لهذا الكتاب على صفحتي بالفيسبوك، ودعوت القراء لقراءته ولا سيما المنخرطين في شبكة القراءة التي لي شرف المساهمة في تدبير شؤونها.
وها نحن بعد ما يقرب من ربع قرن، نرى الزمن الجديد وقد انمحت فيه الخطوط الفاصلة بين الجوهر والمظهر، بين العمق والسطح، بما يكشفه الواقع من تشريح دقيق لآلية عمل النظام السياسي والاجتماعي المعقّد الذي استطاع أن يهيمن على مفاصل حياتنا جميعاً، نظامٌ لا يكافئ الجودة والتميز، بل يكافئ الرداءة والتفاهة، ويُعلي من شأن التافهين حتى أصبحوا يتحكمون بمصائر المغاربة سواء من وراء كواليس متشابكة. أو بشكل واضح وفاضح من باب “على عينيك يا بن عدي “.
إننا نعيش في نظام يعرف تحولا عميقا في مفهوم السياسة وأساليب التدبير. ذلك التحوّل الذي نقل المغاربة عموما من مفهوم “التطوع” سياسيا واجتماعيا، والذي يجسد الشغف والإتقان والخلق ونكران الذات، إلى مفهوم “الاحتراف” المجرد الذي لا يعدو كونه وسيلة لكسب الرزق. لقد تحوّل الإنسان المغربي عموما من متطوع شغوف ومبدع إلى اسطوانة في آلة ضخمة، لا همَّ له سوى الحفاظ على دوران هذه الآلة التي تخدم في النهاية مصالح رأسمالية متوحشة. وهذا التحول لم يقتصر على المجال الاقتصادي فحسب، بل امتدّ ليُغيّر نظرتنا إلى العالم بأسره، حتى صار المال، الذي كان وسيطاً للتبادل، غاية في حد ذاته، يلهث وراءه البشر بكل السبل، متناسين قيمتهم الإنسانية وجوهر وجودهم.
ولعل أقسى ما في هذا النظام أنه استطاع اختراق أقوى الحصون التي كانت صامدة إلى وقت قريب في وجه هذه التفاهة، إنه اختراق الجامعات والمعاقل الأكاديمية التي يفترض أن تكون منارات للفكر النقدي والتنوير. لقد تحوّلت هذه المؤسسات من منتجة للمثقفين المفكّرين إلى مصانع لـ”الخبراء” و”أشباه الخبراء” الذين يُسخّرون معرفتهم لخدمة النخب الاقتصادية المهيمنة، فيعمّقون من شرعيتها ويُبيضون صفحة تجاوزاتها. وها نحن أمام ” مثقفين ” يشكّكون في كل ما هو جاد وجدي وجيد، وينكرون كل الأضرار التي تخلقها السياسات المتبعة. ويبررون كل الاختلالات التي تعرفها الأولويات. وهكذا تخرج جامعاتنا سنوياً أفواجاً من “الأميّين المثقفين الجدد”، وهم أشخاص قد يكونون متمكنين تقنياً، لكنهم فارغون فكرياً وقيميا وأخلاقيا، وعاجزون عن الخوض في الأعماق الفلسفية للإشكاليات الكبرى التي تواجه المجتمع المغربي في حاضره ومستقبله.
ولا يتوقف الأمر عند تخلي الجامعات عن دورها النقدي، بل يمتد إلى تبنيها لمنطق الأوليغارشية بكل تفاصيله، معتمدين على كمّ الأوراش التي لا تعود بعائد يذكر على الأغلبية من المجتمع المغربي من حيث التنمية البشرية والتوزيع العادل للثروة، يساندهم في ذلك الحضور الإعلامي والشراكات مع القطاع الخاص، والذباب الاليكتروني وتعدد القنوات المأجورة في وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت وقحة في ترويج جودة الاختيارات. بل إن بعض الجامعات، في خضوعها التام لهذا المنطق، تحوّلت إلى كيانات تابعة للرأسمال المتوحش، منخرطة في مشاريع تتعارض مع القيم الإنسانية والأكاديمية التي من المفترض أن تدافع عنها ، حتى تخالهم مجرد آلات تكدّ لصالح طبقة تافهة من الناس تستحوذ على الثروات، وعلى مناحي الحياة كافة، وهدفها هو تحقيق هيمنة اقتصادية متسارعة، دون حملها أي قيمة إنسانية أو فكرية أو كفاءة تمنحها أن تكون بهذا الموقع سوى امتلاكها المال. كل ذلك سبَّبَ وجود إنسان يتصف بأن همَّهُ الأول هو لقمة العيش، لديه معارف عملية وتقنية، ويمكنه التسويق لها أو لنفسه بوصفه سلعة أيضًا، فهو عاجز عن التفكير بحرية دون توجيهات الأوليغارشية، يفتقر إلى التأمل، وبلا توجه قيمي أو فكري حقيقي. وكل مَن يفكر يُدفع له من الطبقة التافهة ليفكر بطريقة معينة؛ لذلك تجده يتجنب أي وسيلة تدفعه لأن يخوض في إشكال يتسم بكثافة وعمق المعنى.
والسيء في كل هذا، أن المؤسسات التي يفترض أن تكون رادعاً لسلطة الرأسمال، مثل النقابات والأحزاب اليسارية، والجمعيات المدنية، قد تم تهميشها أو تدجينها واستيعابها في النظام الأوليغارشي، حتى أصبح الكثير من قادتها من المستثمرين وحملة أسهم، تاركين وراءهم مبادئ العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة التي كانوا ينادون بها.
أما الأسوأ فهو ما نراه في الفن والثقافة، اللذان يُفترض أن يكونا منطلقاً للتحرر والجمال، فهما بدورهما لم ينجوا من براثن هذا النظام. فبسبب هيمنة منطق الاستبداد والتبخيس والتتفيه، تحوّلت الصناعات الثقافية إلى أدوات لتمرير وترسيخ الرسائل التي تخدم استدامة النظام الرأسمالي المتوحش، بينما أصبحت الأعمال الفنية الرصينة نادرة، وحلّت محلها منتجات تافهة تلبّي أذواقاً هابطة، وذلك لأن وسائل الإعلام والتواصل وسوق الإعلانات التي تغزو شاشات الحواسيب والهواتف الذكية، أغلبها محتكرة من قبل المتحكمين في لعبة زواج المال بالسياسة الذين يوجّهونها لخدمة مصالحهم.
إننا لا نعيش في ظل ديمقراطية حقيقية مهما كان شكلها، بل تحت حكم أوليغارشية بلوتوقراطية، حيث تتحكم الأقلية الثرية بمصادر الثروة والسلطة، مستخدمة مصطلحات فضفاضة مثل “الحوكمة” والتنمية البشرية، والعدالة المجالية، لنهب الموارد والثروات، والاستفادة من الصفقات، وإفراغ سلطات الحكومات المنتخبة من مضمونها.
أما الخلاص من هذا النظام، فهو لا يمكن أن يكون فردياً، بل لابد من “قطيعة جمعية وجماعية” عبر جبهة واسعة وعريضة لكل الفاعلين النظيفين، البريئين من كل شبهة، قطيعة تقطع مع قواعد المؤسسات التي تضرّ بمستقبل البلاد والعباد، وتفتح الطريق أمام أنماط تفكير إبداعية متوافقة على حد أدنى من الإصلاحات، بعيدا عن التخندق الأيديولوجي والعقائدي، تضع الإنسان المغربي وقيمته في مركز التصور والتفكير. إنها دعوة للتمرد على الرداءة والتفاهة، واستعادة الجوهر الإنساني الذي أضاعته الطبقة البلوتوقراطية في زحفّها الصامت والفاضح والصاخب والمدمر.
البلوتوقراطية ploutocratie هي أحد أشكال الحكم تكون فيها الطبقة الحاكمة مميزة بالثراء. والبلوتوقراطيون هم مجموعة صغيرة من الأثرياء داخل مجتمع أكبر، يحكمون أو يمارسون سيطرتهم أحيانًا بشكل غير مباشر أو سرّي باستخدام أموالهم واحيانا بشكل فاضح كما هو حال المغرب.