قصة قصيرة: الشَّــبـَــح (2)

قصة قصيرة: الشَّــبـَــح (2)

لحسن أوزين

           مخجل أيها الكريم أن تكون لغتك سخية الى هذا الحد، في الانفراد بالكلام وإقصائي من دائرة تحمل مشاق السرد. لا عليك هكذا فعل أجدادك أيها الفحل، في سترنا وحجبنا ومنعنا من حق التعبير والظهور. وها أنت ياعزيزي الطيب تكرر ذلك تحت غطاء المظلومية  والخير العميم. مسخرة هذه الحياة عندما نفكر بعواطفنا الكاذبة. لو اقتربت مني كل هذه السنوات من العمر الهارب، كما لو أننا في حالة طوارئ قصوى، لعرفت سر الخوف الكامن في جوف النساء. ترغموننا على الاعتراف بالحب والفضل كما تفعل سلطتكم القمعية بالمعتقلين. سذاجة مقرفة هذه الذكورة المنتفخة التي يعميها قصر النظر القلبي الدفين.

لا أكذبك في كل ما أتيت عليه من كرم ونبل وتضحيات. ولكن عليك أن لا تجعلني يتيمة مكسورة، منبوذة الى هذه الدرجة. وتحشرني في خانة القتلة عن سبق الإصرار والتعمد. ما هكذا ياعمري وحبيبي تكتب الدراما ولا تنتج المأساة. لست لا حيا ولا ميتا، نحن معا في وحل الحياة نقاتل من أجل أن تشرق شموس القلب، وحتى لا يبتلعنا ظلام الضغينة، لا أقل ولا أكثر.

تحت وقع الصدمة الرهيبة تتحرك الزوجة يمينا ويسارا في الغرفة. ترفض التنازل لسطوة الذاكرة في أن تمطرها بعشرات الصور القادمة من الماضي البعيد. تعرف زوجها وتحبه كثيرا لكنها تعلمت الصمت، أو بالأحرى علموها الصمت القاهر للعقل والنفس والجسد. فهي ولدت لتسمع وتطيع، وتظل خائفة في يومها وعلى غدها المجهول. فالتهمة جاهزة عند أي سلوك أو رفض وتمرد للتعاليم السماوية والأرضية.

والغريب في الأمر وما كنت أظن أن لك راويا ساديا وقبيحا للغاية، لا يشبهك في الاخلاق والمبادئ. ظل يسحبك بذكاء أبوي نحو صناعة المأساة واختزال وجودنا الحميم في العلاقة بين الضحية والجلاد. واستسلمت له ببساطة لأنه عزف على الوتر الحساس الذي يفضله رجال الدين الأشاوس، في القهر والترهيب. لولا وجوهك المشرقة التي تعلمت منها الكثير، لراودني الشك أنك تبحث عن ذريعة للهروب تحت غطاء المظلومية.

لا أخجل من القول إنني تعلمت منك الحرص، و بعد النظر. والخوف من المستقبل هو واحد من الأدوات التي نرسم بها خطط المستقبل. لست لا ميتا ولاحيا.  ماهذا التعبير السخيف. فما فكرت فيه بعد الموت الذي يترصدنا جميعا، هو نابع من تفكيرك في أخذ الحياة في أقدارها الجميلة والمأساوية. وأنت أراك يوميا كيف تخطط لكل المصاريف. وكيف تدخر القليل للصدف الجميلة المفعمة بالأفراح في السفر في اللباس…، دون أن تنسى المفاجآت المؤلمة في المرض، أو الوقوف مع أحد أفراد العائلة والأصدقاء، بما نستطيع من مساهمات مادية.

صراحتي فيها الكثير من القسوة في الكلام والتعبير. ولكن الحقيقة مرة ولا ينبغي أن نجمل الواقع ياحبيبي. مشكلتك أن الكثير من الإرث الأبوي لا يزال عالقا في دواخلك. مهما امتلكت من الوعي وآليات النظر والتفكير، فإن الأجداد في لحظات الأزمات وسوء الفهم والتفاهم يتسللون من الشقوق.

ظل الرجل مطرقا ينصت باهتمام لما تقوله زوجته. تقاسيم وجهه تغيرت بشكل شامل. ربما هذا ما ساعده على النهوض من الأريكة قاصدا النافذة المفتوحة. جرح ما في داخله بدأ يلتئم. نوع من التطهير النفسي العميق شمله كليا. وعيناه اتسعتا بشكل بارز ومثير للتساؤل، حول قوة الكلمات التي جعلته يرى الوجوه التي غيبها عنه الراوي المتسلط سليل الاستبداد البطريركي، كما قالت زوجته. صحيح كما قال بعظمة لسانه، وكما تشهد الآن زوجته على أنه حارب طويلا، كل ما يتصل بالنظام الأبوي الذكوري. لكنه كما اعتراف مرارا أن التخلص النهائي من الوسخ البطريركي صعب جدا. نظر الى نفسه وجال ببصره في الغرفة. متأملا كلام زوجته التي كانت تتحرك بهدوء أحيانا. وفي لحظات أخرى ترفع صوتها بانفعال، كما لو أنها تزيح عن صدرها صخرة ملعونة كبرت معها منذ الولادة. لم يعد يخيفها جسدها حين يخرج عن صوابه الأبوي في الحياء الكاذب، والتقوقع المهين لكرامة الإنسان. فجأة تدخل الزوج.

لكن رغم ذلك يجب أن نعترف بأن هذا النوع من التفكير، المشحون بالخوف الى حد يجعلنا يلغي الواحد منا الآخر سيئ جدا. لأنه كما قلت قبل قليل لا يمكن أن يساعد على تخطي علاقة الضحية والجلاد، والتفكير بعيون مفتوحة وقلوب نابضة بالحب، في الارتقاء والسمو بحبنا الى علاقة إنسان /إنسان. فالكلام الجارح فيه عنف وقسوة، وهدم لجسور الواصل الإنساني ، والحوار الهادئ الهادف و البناء.

والجميل فيما قلته سابقا،  في التعبير عن المشاعر المؤلمة التي احتوتني وورطتني في الحزن المجاني، وإصدار أحكام القيمة التافهة. هو أنني سعيت الى بسط يدي لأضمك ولا لأقتلك. فقلت كل ما آلمني دون كبته، حتى لا أترك للضغينة لوثة يمكن أن تفسدني…

لكن يا صديقي وزوجي  حاصرتني في الزاوية المغلقة، وأطلقت العنان للعنف الرمزي يفتك بي. والأبشع أنك سمحت لذلك الراوي الملعون القادم من بقايا قصور الأمويين والعباسيين، بأن ينكل بجسدي وروحي المقدسين. دون أن يرف لك جفن الحب والنبل والعظمة التي جاءت على لسانك، دون أن تتجذر في قلبك الطيب الكريم.

شعر الرجل ببعض الألم في منطقة مجهولة في أعماقه.  نظر إليها بحنان واعتذار صادق على أنه كان ضيق التفكير. وهش العاطفة والوجدان في النظر والتحليل لواقعة الموت، التي لا يمكن لأي واحد أن يفر منها أبدا. بدأ في المشي البطيء تجاه زوجته مبتسما وحزينا في الوقت نفسه. فهم بأنه بعيد عن التخلص من جلده الأبوي القديم المقرف. وأدرك أن عملية التغيير تبدأ من معركة الذات. وكما قال فيلسوف كبير: من لا ينتصر على نفسه لا يمكن أن ينتصر على أي شيء آخر.

وجدت الزوجة نفسها في الموقف الصعب الذي لم تستطع التغلب عليه. لم تعتذر على قسوتها في التعبير، كما لم تعترف يوما أنها يمكن أن تكون مخطئة. فهي على صواب وكلامها هو الصحيح. لكن عيونها تشي بالكثير من الكلام الجاف الذي امتنع عن الخروج لأسباب تجهلها، وليس تقديرا للجو المكهرب الخانق في غرفة الجلوس…

شارك هذا الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!