كابوس في بلاط اللجنة المنسية

كابوس في بلاط اللجنة المنسية

عبد الرحيم التوراني

            التقوا، أو بالأحرى، تجمهروا أمام الباب الحديدي الداكن لمقر اللجنة. رائحة عفن أزليّ تلوّح بالزمن الماضي، تتسرب من شقوق الحائط كأنها همسات متوترة. كلهم أتوا من تلك البجعة المنسية.. المدينة الغول، الاسم الوحيد الذي حفظته ذاكرة الكتيبات السياحية الصفراء. تضاحكوا ضحكة جوفاء، ليست ابتهاجًا بل تشنجًا، وهم يصافحون بعضهم بهدوء مُبالغ فيه.

لنهنئ أنفسنا أولاً على الالتزام…

 نطق كبيرهم، ذو العينين اللتين تتبعان الذباب غير المرئي. كان يظن نفسه الأذكى حيلة، يحفظ جيدا المثل العامي: “اللي فاتك بحيلة.. فاتك بليلة”، لكن حيلته كان قد كشفها للمراقبين.

أما الذي بجانبه فكان يتشيطن بعينيه، لا بعقله.

استقبلهم رئيس الجهاز عند العتبة، ملاحظًا بانزعاج بسيط أن هؤلاء الغيلان كلهم يتشابهون في ذلك اللمعان الوبائي في أعينهم، إنه وباء التغول، خوف دائم من اليقظة صباحًا  ليجد أحدهم نفسه قد انكمش إلى فأر أو ذبابة.. في أحسن الأحوال إلى قرد هزيل يُعرض في ساحة “جامع لفنا” لتسلية السياح ولإلهاء المواطنين...

 في القاعة المظلمة، التي لم يروا لها سقفًا، كانت بينهم غولة واحدة فقط، إضافة “أنثوية” ساخرة لعملية لا تعرف سوى البَتْر.. غازلها أحدهم بهمس مصطنع:

– عينيك… عينيك يطيحو الزرزو من فوق السور…

نطق الذي كان لا يتوقف عن التدخين والبصبصة، مركزا نظرته على عيني التي قبالته:

– إش إش!…

ضحك نصف ضحكة مبتسرة، وزمَّ شفيتية مصدرا صوت: “إممم.. إمممم… إممم…”…

 كانت هذه هي كلمة السر.

ما إن سُمعت “إش إش” حتى استلت الأيادي أدواتها التقليدية: السكاكين، المناشير المسننة، السواطير… لم يهاجموا أحدًا، بل انقضوا على جسد عملاق، جسد لم تعد فيه قطرة دم، لكنهم استمروا يطعنون ويقطعون، يمزقون العدم بحماس مُفزع…

 فجأة، بدلاً من الدم المتخثر الجاف، بدأت الدماء تسيل من الجدران نفسها، أغرقت الغرفة. غاصوا فيها حتى رقابهم، سائل لزج بارد، بينما كانت ضحكتهم السابقة تتحول إلى صراخ يائس يطلب النجدة من “الذي علمهم السحر“...

 وسط الذعر، سألوا زميلهم الذي وعد بتجفيف الأرض، فأخبرهم بأنه سيخبر عرابه بالتفاصيل “عندما يلتقي به في السر”، فضحكوا ضحكة هستيرية، لكنها كانت صادقة هذه المرة:

– عرابك شاهد كل شيء عبر الكاميرا الخفية! الكاميرا التي وضعناها نحن للتواصل مع سين.. لكن محتواها وصل للأعداء...

 غرق الجميع. انزلقوا تحت السطح اللزج، ولما ارتفع السائل ليغطي الغرفة تمامًا، ثم انحسر فجأة، لم يعد هناك غيلان. لم يكن على الأرض سوى مجموعة من الفئران والصراصير والحشرات المؤذية، تتدافع في محاولة يائسة للتشبث بأطراف الطاولة المقلوبة. كانت تلك هي الحقيقة الأولى التي نشأوا عليها..

التغول كان مجرد رداء بالٍ سقط في الوحل.

 تتمة المشهد

انتشر الفيديو السري كالنار في الهشيم، تحول إلى وسم عاصف على الشاشات الباردة. شاهده الآلاف، بل الملايين.. لم يروا منه سوى مقتطفات، لكنها كانت كافية لإشعال فتيل الغضب العام. علت المطالبات بالبث الكامل لمضمون “الفيديو الكامل”، واتسعت دائرة الشجب والتنديد والاحتجاج كأنها موجة طوفانية تجتاح اليابسة.

طالب الناس بعرض أعضاء اللجنة على القضاء، لكن لم يكن هناك قضاء تقليدي يكفي لوزن ثقل هذا الفعل.

تكلم الذي كان يراقب في صمت حزين:

– لقد صدر الحكم بالفعل… يا أيها الناس.. لقد تم الحكم من أعلى محكمة يمكن لهم تصورها…

 كانت تلك المحكمة هي الرأي العام المطلق، والفيديو لم يكن مجرد دليل، بل كان له مفعول المُبيدات القوية التي تقضي على الآفة في مكمنها…

لقد تولى الفيديو المهمة وقضي الأمر الذي فيه تستفتون…

لم تعد هناك حاجة إلى محاكمات علنية، فالغيلان قد تحوّلوا إلى حشرات، والجمهور شاهد لحظة تحولهم الأخيرة...

 حوار ما بعد السقوط

لما عُرضت هذه القصة على جورج أورويل، أصيب بالذهول،

صاح:

– لم يكن خيالي قد وصل إلى هذا الحد حين كتبت روايتي (1984)…

 ثم تساءل:

– هل وصلنا إلى هذا العام المشؤوم 1984؟

تنهد المراقب الحزين تنهيدة أطول من السنين الأربعين التي تفصل سنة 1984 عن عام 2025، وراح يرمق أورويل بعينين نصف مغمضتين، وكأنه يرى شخصيةً في إحدى رواياته لا الكاتب نفسه.

يا جورج… أو يا جلال… أو يا أيها المجهول الذي كتب عن المراقبة وهو الآن يُراقَب بسخرية القدر.. في زمننا هذا، الألقاب والأسماء باتت مجرد طبقات من الرمل…

 ناديتك “جلال” لأن هذا هو اللقب الذي يُمنح لمن يملك سلطة رؤية الحقيقة المطلقة، أو لمن يُجَرِّئ الناس على رؤيتها…

لم يعد مهمًا ما سمّتك به أمك.. بل ما يراك به الأخ الأكبر… أو الكاميرا الخفية

رفع جورج أورويل رأسه متسائلاً:

 – فُتناها بأربعين حرامي وواحد، من يكون هذا الواحد؟ ثم لماذا تخطئون في اسمي.. أنا جورج ولست جلال؟

واحد وأربعون عامًا.. أما الواحد، يا سيد أورويل، فهو اللغز الأخير الذي لم يستطع الأربعون بتغولهم وسواطيرهم أن يتوقعوه… إنه لغم الحقيقة… إنه المشاهد الأخير الذي ضغط زرّ البث. هو الفأر الذي لم يتحول إلى غول قط، لكنه ابتلع الكاميرا في الظلام… هو أنتَ… وأنا… وكل من شاهد ولم يغرق

صمت أورويل، وقد أدرك أن كابوسه لم يكن سنة، بل كان مسارًا محتومًا، وأن الواحد هذا كان الخيال الذي نسي أن يكتبه في روايته. كان النور الذي يشتعل بعد أربعين سنة من الظلام.

______________________________________________________________

* من مجموعة قصصية ستظهر للكاتب قريبا بنفس العنوان

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!