كارل ماركس: برونو باور والإشكالية اليهودية (2-3)

ترجمة: سعيد بوخليط
يشكِّل حتما التحرُّر السياسي، تقدُّما كبيرا. صحيح، ليس بآخِرِ صيغة للتحرُّر الإنساني، لكنه يعتبر كذلك حسب نظام العالم الحالي. أقصد جيدا: التحرُّر الواقعيّ والفعليّ.
يتحرَّر الإنسان سياسيا من الدين، باستبعاده من قانون عام إلى حقٍّ شخصيٍّ. لم يعد قط فكرا للدولة أو الإنسان، مع أنَّه يسلك وفق كيفية خاصة ومحدودة وضمن دائرة شخصية، مسلك كائن مشترك، بكيفية جماعية مع بشر آخرين؛ لقد أضحى فكرا للمجتمع البورجوازي، مجالا للأنانية، ثم حرب الجميع ضدَّ الجميع. انتقل تماما من ماهية للجماعة، إلى أخرى تقوم على التَّمييز. هكذا، استعاد وضعه الأصلي؛ بحيث يجسِّد ابتعاد الإنسان عن الجماعة، وذاته وكذا باقي الأفراد.صار فقط تأكيدا مجرَّدا للعبث الشَّخصي، ونزوة فردية، ثم الاعتباطي.
مثلا التَّفتيت اللانهائي للدين في أمريكا الشمالية، أضفى عليه سلفا صيغة خارجية بخصوص مسألة شخصية كليّا. اخْتُزِلَ إلى دائرة الاهتمامات الشخصية واسْتُبْعِد عن الجماعة، وأخذ طبيعة ماهيته. لكن، لا ينبغي الانخداع فيما يتعلق بمستوى حدود التحرُّر السياسي. انقسام الإنسان بين العمومي والخاص، تحوُّل الدين بانتقاله من الدولة إلى المجتمع البورجوازي، مختلف ذلك ليس مرحلة، لكنه فعلا بمثابة استكمال لتحرّر سياسيٍّ، لم يلغ بتاتا التديُّن الفعلي للإنسان أو حاول ذلك.
ليس تقسيم الإنسان إلى يهودي ومواطن، بروتستاني ومواطن، إنسان متديِّن ومواطن، كذبا على النظام السياسي ولامحاولة تتوخى التملُّص من التحرُّر السياسي؛ بل هو التحرّر السياسي نفسه، الطريقة السياسية للتحرّر من الدين.
طبعا، خلال حقب انبثاق الدولة السياسية بقوَّة من المجتمع البورجوازي، وتطلُّع الانعتاق الفردي الإنساني كي يتحقَّق وفق صيغة انعتاق شخصي سياسي، بوسع الدولة ويلزمها العمل على إلغاء الدين، غاية اندثاره، لكن في إطار أقصى سعيها، التخلُّص من المِلْكية الفردية، بالمصادرة، من خلال الضريبة التصاعدية، ثم إلغاء الحياة عن طريق المقصلة.
إبَّان لحظات وعي الدولة بذاتها، ترنو الحياة السياسية صوب كبح شروطها الأوَّلية، المجتمع البورجوازي وعناصره، كي ترتقي نحو حياة عامة للإنسان حقيقية ومطلقة. غير أنها، لا يمكنها بلوغ هذا الهدف سوى إذا وضعت نفسها في تناقض عنيف مع شروط وجودها الخاصة، بإعلان الثورة على الدولة الدائمة؛ أيضا هل تنتهي بالضرورة المأساة السياسية من خلال ترميم الدين، المِلْكية الفردية، ومختلف عناصر المجتمع البورجوازي، مثلما تنتهي الحرب بالسَّلام.
أكثر من ذلك، ليست الدولة المسيحية النموذجية، أو المفترض بأنَّها مسيحية من تقرُّ بالمسيحية أساسا لها، وديانة للدولة،وتتَّخذ بالتالي موقفا استثنائيا حيال الديانات الأخرى؛ لكنها بالأحرى الدولة الملحدة، الديمقراطية، التي تلحق الدين بباقي عناصر المجتمع البورجوازي. الدولة التي مازالت لاهوتية، وتجاهر دائما رسميا بالعقيدة المسيحية، ولم تجرؤ بعد كي تعلن على نفسها وفق نموذج علماني وإنساني، في خضمِّ حقيقتها كدولة، الأساس الإنساني حيث المسيحية بمثابة تعبيره المتعالي. الدولة المسمَّاة مسيحية، ببساطة دولة غير موجودة؛ بالتالي، ليس المسيحية كديانة، بل تحديدا الخلفية الإنسانية للدين المسيحي الذي بوسعه التبلور في إطار إبداعات إنسانية حقا.
تعتبر الدولة المسمَّاة مسيحية، إلغاء مسيحيا للدولة، وليست قط تنفيذا سياسيا للمسيحية. الدولة، التي لازالت تعتنق المسيحية في صيغة دينية، لم تعد تجاهر بذلك من خلال إطار الدولة، مادامت تحتفظ للدين بوضع ديني. بعبارات أخرى، دولة من هذا القبيل ليست تجسيدا حقيقيا عن الخلفية الإنسانية للدين، لأنَّها موصولة دائما بالوهمي، وكذا الشكل المتخيَّل لهذه النواة الإنسانية.
الدولة المفترضة مسيحية، دولة غير كاملة، والديانة المسيحية بالنسبة إليها مجرَّد تكملة وكذا تقديس لهذا القصور. حتما يصير الدين وسيلة؛ إنَّها دولة النَّفاق. هناك فرق كبير بين الواقعتين: إما تؤخذ الدولة المثالية بعين الاعتبار، نتيجة غياب ضمني لماهية الدولة العامة، فالدين ضمن شروطها؛ أو تعلن الدولة غير النموذجية، الدين كأساس لها، نتيجة خلل ملازم لوجودها، بمعنى دولة غير سويَّة. بناء على هاته الحالة الأخيرة، يتحوَّل الدين إلى سياسة معيبة. فيما يتعلق بالحالة الأولى، يتجلَّى من خلال الدين قصور السياسة المثالية. تحتاج الدولة التي يفترض كونها مسيحية إلى الديانة المسيحية، حتى يتحقَّق اكتمالها كدولة.
الدولة الديمقراطية، الحقَّة، في غير حاجة إلى الدين قصد إظهار اكتمالها السياسي. يمكنها، عكس ذلك، تجاهل الدين، فبالنسبة إليها يتجلَّى المنحى الإنساني للدين بكيفية دنيوية. مقابل ذلك تماما، تستند الدولة التي تصف نفسها بالمسيحية، على موقف سياسي من الدين، ثم موقف ديني من السياسة. إذا انحدرت بالأشكال السياسية إلى واجهة فقط، فإنَّها تفعل نفس الأمر مع الدين.
قصد جعل هذا التباين أكثر فهما، أستحضر الهيكل الذي وضعه برونو باور للدولة المسيحية، كحصيلة لدراسته حيثيات الدولة الجرمانية-المسيحية. يقول:
“قصد البرهنة على استحالة أو عدم وجود دولة مسيحية، أعدتُ التذكير منذ فترة قريبة خلال مناسبات عديدة بأقوال الإنجيل والتي وفقها فالدولة الحالية، لا تنصاع بل ولا يمكنها الانصياع، فقط إذا توخت التفكُّك تماما”.
-” لكن الجواب النهائي أقل يسرا. ما الذي تلتمسه الأقوال الإنجيلية؟”.
الامتثال لما هو فوق الطبيعة، الاذعان لسلطة الوحي، إبعاد الدولة، إلغاء الشروط الدنيوية. تنادي الدولة المسيحية بمختلف ذلك وتحقِّقه. لقد استوعبت فكر الإنجيل؛ وإذا لم تقدِّمه حسب الحروف ذاتها التي يستخدمها تعبير الإنجيل، هذا يتأتَّى ببساطة مما يبرزه هذا الفكر وفق أشكال سياسية، بمعنى أشكال مستعارة فعلا من النظام السياسي لهذا العالم، لكن مع النهضة الدينية التي أُرْغِمَت على تقبُّلها، فقد اختُزِلت إلى مظاهر بسيطة. حدث الابتعاد عن الدولة، واستخدم هذا الابتعاد الأشكال السياسية، قصد تحقيق أشكال الدولة”(ص 55).
يواصل برانو بوير عرضه: لا يعتبر شعب الدولة المسيحية شعبا، ويفتقد لإرادة خاصة؛ بل يمتلك وجوده الحقيقي عبر القائد الذي يسيطر عليه؛ لكن هذا القائد نفسه غريب نتيجة أصله وطبيعته، فقد فرضه الله دون أن يكون وجوده الشخصي هنا بهدف شيء ما؛ لا تنتمي إليه قوانين هذا الشعب كنتاج له بل إيحاءات يقينية؛ ويحتاج قائدها، في إطار علاقاتها مع الشعب الحقيقي، والجماهير، ثم وسطاء مُمَيَّزين، وتتحلَّل هذه الجماهير نفسها إلى حشد من المجموعات المستقلة، التي تشكَّلت وتحدَّدت صدفة، وتتباين مصالحها، رغباتها المعيَّنة وكذا أحكامها المسبقة الخاصة، والتي بَدَلَ الامتياز، تحظى بجواز الانعزال عن بعضها البعض، إلخ”(ص 56).
يضيف برانو بوير: ”إذا اقتضى الأمر من السياسة أن تكون فقط دينية، فليست في حاجة كي تغدو سياسة، ولا تزيد عن كونها تنظيف أواني، ثم حين تصنيفها كفعل ديني، فلا ينبغي النظر إليها باعتبارها قضية أعمال منزلية”(ص 108).
الدين داخل الدولة الجرمانية-المسيحية، ”قضية اقتصادية”، مثلما تعتبر كل ”قضية اقتصادية” دينا. أيضا، سلطة الدين هي دين السلطة.
يشكِّل فصل ”فكر الإنجيل”عن”رسالة الإنجيل” فعلا غير ديني. الدولة التي تجعل الإنجيل يتكلَّم من خلال رسائل السياسة، رسائل أخرى غير الفكر المقدَّس، تقترف تدنيسا، إن لم يكن أمام عيون الأفراد، فعلى الأقلِّ، ما يتعلق بأنظارها الدينية الخالصة.
يلزم على الدولة التي تقدِّم الكتاب المقدّس ميثاقا والمسيحية قانونا ساميا لها، الاعتراض على أقوال الكتابة المقدسة؛ لأنَّ الكتابة مقدَّسة غاية أقوالها. تجد هذه الدولة نفسها، فضلا عن ”القمامات الإنسانية” التي شُيِّدَت عليها، متورِّطة في تناقض مؤلم، عصيٍّ، من وجهة نظر الوعي الديني، عند إحالتها على: ”لا تتوافق معها هذه العبارات الإنجيلية ولا يمكنهما التوافق، ماعدا رغبة التحلُّل منها تماما”. لكن ماسبب غياب دافع تقويضها كليا؟ تمثِّل الدولة المسيحية الرسمية ”واجبا”، بالنسبة لوعيها الشخصي، حيث استحالة تحقُّقها؛ فلا يمكنها ملاحظة حقيقة وجودها سوى بتضليل نفسها؛ أيضا هل تستمر دائما موضوع شكٍّ أمام أنظارها، وغامض ثم إشكاليٍّ.
حتما، فالنقد صائب عندما يجبر الدولة، المستندة على الكتاب المقدَّس، في خضمِّ ارتباك مطلق للوعي، بحيث يقف نفسه عاجزا عن التمييز بين الوهم والحقيقة، ثم تدخل دناءة أهدافها الدنيوية، المتوارية خلف غطاء الدين، في نزاع معقَّد مع نزاهة وعيها الديني، الذي يبدو له الدين غاية للعالم. يستحيل على هذه الدولة التخلُّص من اضطراباتها الباطنية سوى في إطار سِجِلِّ الكنيسة الكاثوليكية. تبدو الدولة ضعيفة، في مواجهة الكنيسة، التي تؤكِّد سيادتها التامة على السلطة اللائكية، رغم ادِّعاء الأخيرة هيمنتها على الفكر الديني.
لاتهتمّ الدولة المسمَّاة مسيحية، بالإنسان، بل الاستلاب. يعدُّ الملِكُ الشخص الوحيد المحوري، يختلف نوعيا عن باقي الأفراد، ثم أيضا،هو كائن ديني مرتبط دائما بالسماء، والله. لازالت العلاقات الكامنة هنا مرتكزة على الإيمان. لم يدرك بعد الفكر الديني فعليا إضفاء الطابع العلماني.
لن يصبح الفكر الديني علمانيا بكيفية فعلية. بالتالي، ما الشكل العلماني غير الدنيوي بخصوص تطوُّر الفكر الإنساني؟ لا يمكن للفكر الديني التحقُّق سوى إذا تجلَّى مستوى تطوُّر وتشكَّل الفكر الإنساني الذي يعبِّر عنه، حسب صيغته الدنيوية. وضع تختبره الدولة الديمقراطية المستندة على المبدأ الإنساني للمسيحية، وليس المسيحية. يظلُّ الدين لدى معتنقيه وعيا مثاليا، غير دنيوي، لأنَّه الشكل المثالي لدرجة التطوُّر الإنساني المتبلور في إطاره.
تَدَيُّن عناصر الدولة السياسية من خلال ثنائية الحياة الفردية والعامة، حياة المجتمع البورجوازي ثم الحياة السياسية؛ الدينية، انطلاقا من تصوُّر الإنسان لمكمن حياته الحقيقية على المستوى السياسي عند مركز أبعد من فردانيته الخاصة؛ أيضا يرتبط هذا المعطى الديني بدلالة أنَّ الدين هنا بمثابة فكر للمجتمع البورجوازي، وتجلٍّ لما يبعد ويفصل الإنسان عن كونه إنسانا.
أما عن الدولة السياسية المسيحية، فإنَّها الديمقراطية السياسية التي تعتبر الإنسان، جميع البشر، داخلها كائنا مثاليا، صاحب سيادة، بينما الإنسان غير المتعلِّمِ ولا الاجتماعي، ضمن وجوده العارِض، الإنسان وفق هذه الشاكلة، يعتبره مجمل تنظيم مجتمعنا، منحرفا، ضلَّ طريق ذاته، مُسْتَلَبا، يعيش تحت كنف ظروف وعناصر غير إنسانية، باختصار، لم يَبْلغ بعد مرتبة كائن نوعي. الإبداع الخيالي، الحلم، مسلَّمة المسيحية، سيادة الإنسان، لكن الإنسان الفعلي، يصبح مختلف ذلك في إطار الديمقراطية وكذا الحقيقة الملموسة والقائمة، مبدأ دنيويا أساسيا.
ينكشف الوعي الديني واللاهوتي جليّا أمام نفسه، مهما بلغت مستويات ذلك، مع الوعي الديمقراطي المثالي، دون دلالة سياسية، أو هدف أرضي، كقضية في قَلْبِ معاداة العالم، والتعبير عن طبيعة الذهن المحدودة، نتاج الاعتباطية والنزوة، وحياة ماورائية حقيقية. لقد بلغت المسيحية هنا التعبير العملي بخصوص ممارسة مضمونها الديني الشامل، مادامت مفاهيم العالم الأكثر تنوُّعا قد أمكنها الالتئام ضمن إطار المسيحية، خاصة أنَّ الأخيرة لاتستدعي اعتناقها، بل فقط التديُّن وممارسة شعائر ديانة ما (برانو بوير). يستمتع الوعي الديني، بثراء التناقض الديني وتنوُّعه.
لقد أوضحتُ استمرار الدين، في خضمِّ سياق تحرُّرِنا منه، وإن لم يكن دينا يحظى بامتياز خاص. يعكس التناقض الذي يعيشه معتنق دين معيَّن، نحو وضعه كمواطن، جانبا فقط من التناقض العام بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي. استكمال الدولة المسيحية، موصول بإقرار الدولة بوجودها كدولة ثم تجاهل الدين وعناصره. تحرير الدولة من الدين، ليس تحريرا لإنسان الدين الفعلي.
إذن، لا أخاطب اليهود مع برانو بوير، بما يلي: لا يمكنكم التحرُّر سياسيا، بغير التحرُّر جذريا من اليهودية، بل سأقول لهم: بما أنَّه يمكنكم التحرّر سياسيا، دون التخلُّص تماما وكليا من اليهودية، فلا يعدُّ ذلك تحرُّرا إنسانيا. بالتالي، إذا تطلعتم نحو تحرُّر سياسي دون الإنساني، فلن يعبِّر ذلك فقط عن عجزكم وتناقضكم، بل أكثر من ذلك ماهية و نوع التحرُّر السياسي. إذا اقتنعتم بهذا الصِّنف، فلتقتسموا الحماية العامة. إذا تصرَّفت الدولة الإنجيلية، رغم كونها دولة، مسيحيا، نحو اليهود، فاليهودي يمارس السياسة باعتباره يهوديا، ثم يلتمس حقوقا مدنية.
هل بوسع الشخص، رغم كونه يهوديا، خلال لحظة تمكُّنه من التحرُّر سياسيا والتمتُّع بحقوقه المدنية، المطالبة بما نسميه حقوقا إنسانية؟ أجاب برانو بوير بالإنكار:
“يتعلَّق الأمر بمعرفة مدى استعداد اليهوديِّ في ذاته، بمعنى اليهوديِّ الذي يقرُّ بنفسه تقيَّده بماهيته الحقيقية حتى يعيش أبديا منفصلا عن الآخرين، كي ينال حقوق الإنسان العامة ويمنحها للآخر”.
”لم يكتشف العالم المسيحي، فكرة حقوق الإنسان، سوى فترة القرن الأخير. ليست فطرية لدى الإنسان؛ بل على العكس، تُكتسب في إطار الصراع ضدَّ التقاليد التاريخية التي تربَّى الإنسان بين طياتها غاية تلك اللحظة. بالتالي، فحقوق الإنسان ليست عطاء للطبيعة، أو التاريخ المنقضي، لكنها ثمرة نضال ضدَّ صدفة الولادة وكذا المزايا التي بثَّها التاريخ غاية الآن عبر الأجيال. إنَّها حصيلة ثقافية؛ والوحيد الذي بوسعه امتلاكها من اكتسبها واستحقَّها ”.
بالتالي، هل بوسع اليهودي امتلاكها فعليا؟ طالما هو يهودي، ستأخذه حتما الماهية المقيَّدة التي تجعل منه يهوديا فوق ماهيته الإنسانية التي تلزمه كإنسان، إعادة ارتباطه ثانية بباقي البشر؛ وتفصله عن ماليس يهوديا. يؤكِّد، من خلال هذا الانفصال، بأنَّ الماهية الخاصة التي جعلته يهوديا تجسِّد هويته المثالية الخالصة، والتي تجبره كي يمحو هويته كإنسان. أيضا، فالمسيحي مثلما هو يبقى عاجزا عن منح حقوق الإنسان”(ص 19- 20).
ينبغي على الإنسان، حسب برانو بوير، التضحية بـ”ميزة الإيمان”، كي يستطيع نيل حقوق الإنسان العامة. لنتناول لحظة ما يسمى بحقوق الإنسان، في صيغتها الأصيلة، مثلما حظيت بها لدى مبدعيها، أقصد أمريكيي الشمال وكذا الفرنسيين! هذه الحقوق الإنسانية في جانب منها، حقوق سياسية، لا يمكن ممارستها سوى حين الانتماء إلى جماعة. يشير مضمونها إلى المشاركة في الماهية العامة، وكذا الحياة السياسية المشتركة ثم حياة الدولة. تندرج ضمن صنف الحرية السياسية، والحقوق المدنية، والتي لا تفترض قط، مثلما رأينا، إلغاء مطلقا وتأكيديا للدين، ولا اليهودية فيما بعد. تبقى مسألة اعتبار الجزء الآخر، بمعنى ”حقوق الإنسان”، وماتختلف بخصوصه عن حقوق المواطن.
“لا يمكن لأيِّ أحد الخشية من التعبير عن آرائه بما فيها الدينية” (إعلان حقوق الإنسان والمواطن، 1791، المادة 10) إنَّها مكفولة بموجب دستور 1791، كحقٍّ إنساني: ”حرية كل إنسان في ممارسة الشعيرة الدينية التي ارتضاها لنفسه”.
أدرج إعلان حقوق الإنسان الصادر عام 1793، ضمن بنوده المادة 7: ”الممارسة الحرَّة للشعائر” وبشكل واضح، فقد أكَّد بخصوص تعبير الشخص عن آرائه، والتجمُّع، وممارسة شعيرته، عن ما يلي: ”تفترض ضرورة التعبير عن حقوقه سواء حضور أو ذكرى حديثة عن الاستبداد” (دستور 1975، المادة 345 ).
“امتلك جميع البشر طبيعيا حقّا غير قابل للتَّنازل بخصوص عبادة الله حسب إيحاءات الوعي، ولا يحقُّ لأيِّ أحد قانونيا إرغامه ضدّ إرادته الحرَّة على اتِّباع أو تبنِّي شعيرة أو مؤسَّسة دينية. فلا يمكن بتاتا لأيِّ سلطة إنسانية، التدخُّل بخصوص أسئلة الضمير والتحكُّم في سلطات الروح” (دستور بنسلفانيا المادة 9).
”جوهر بعض الحقوق الطبيعية، يجعلها غير قابلة للإلغاء، ولا يمكن مماثلتها. ضمن ذلك حقوق الوعي” (دستور نيو-هامبشير، المادة 5 و6) (بومونت ص 213- 214).
عدم التوافق إلى حدّ ما، بين الدين وحقوق الإنسان، يعكسه مفهوم حقوق الإنسان، مثل حقِّ أن تكون متديِّنا، حسب إرادتكَ، وتمارس شعيرة دينكَ الخاص، وقد اعتمدتها أيضا بوضوح منظومة حقوق الإنسان. امتياز الإيمان حقّ إنساني عام.
يتمُّ التمييز بين ”حقوق الإنسان” و”حقوق المواطن”. من هذا ”الإنسان” المختلف عن المواطن؟ لا شخصا آخر غير عضو المجتمع البورجوازي. لماذا سُمِّي عضو المجتمع البورجوازي بـ”إنسان”، بكل بساطة، ولماذا سُمِّيت هذه الحقوق بحقوق الإنسان؟ ماالذي يفسِّر هذه الواقعة؟ من خلال العلاقة بين الدولة السياسية والمجتمع البورجوازي، وكذا ماهية التحرُّر السياسي.
يلاحَظُ قبل كل شيء أنَّ مسألة التمييز بين ”حقوق الإنسان” و”حقوق المواطن”، ليست شيئا ثانيا غير حقوق عضو المجتمع البورجوازي، أي الإنسان الأنانيِّ، المنفصل عن الإنسان وكذا الجماعة. أقرَّ فعلا دستور سنة 1973، الأكثر جذرية، ما يلي: إعلان حقوق الإنسان والمواطن: ”هذه الحقوق (الحقوق الطبيعية غير القابلة للتّنازل) هي: المساواة، الحرية، الأمن، المِلْكية الفردية” (المادة 2) .
ما الذي ترتكز عليه ”الحرية”؟ تجيب المادة: 6 ”الحرية سلطة يمتلكها الإنسان تتيح له إمكانية القيام بكلِّ ما لايزعج حقوق الآخر” أو كذلك، حسب إعلان حقوق الإنسان لسنة 1791: ”ترتكز الحرية على القيام بكلِّ ما من شأنه عدم الإساءة للآخر”.
إذن، تعني الحرية تصرُّفا لا يتأذَّى منه الآخر. يضع القانون الحدود التي يمكن في إطارها لكل واحد التحرُّك دون الإساءة للآخر، أيضا يضبط حدّ المجالين. يتعلق الأمر بحرِّية الإنسان الذي ينظر إليه كجوهر فردي (موناد) منعزل، ومنطوي على ذاته.
لماذا اليهودي، حسب برانو بوير، غير مؤهَّلٍ كي ينال حقوق الإنسان؟ ”طالما سيكون يهوديا، ستأخذه بالضرورة هذه الماهية فوق الهوية الإنسانية التي تلزمه باعتباره إنسانا، إعادة ارتباطه بباقي البشر؛ وقد انفصل عن كل ماليس يهوديا”. غير أنَّ حقّ الإنسان، الحرية، لا تستند على علاقات الإنسان مع الإنسان بل حقّ الابتعاد، حقّ اقتصار الفرد على ذاته.
يفضي التطبيق العملي لقانون الحرية، على قانون المِلْكِية الفردية. لكن أيّ مرتكز لهذا القانون الأخير؟
“ينتمي حقّ المِلْكِية إلى كل مواطن يستمتع حسب رغبته بثروته، وإيراداته، وكذا ثمرة عمله و صناعته”. إذن، يكمن حقّ المِلْكِية الفردية في استمتاع الشخص بثروته والتصرُّف فيها بـ”محض إرادته”، دون الاكتراث بباقي البشر، وبشكل مستقلٍّ عن المجتمع؛ إنَّه حقّ الأنانية.تشكِّل هذه الحرية الفردية، مع تطبيقها،أساس المجتمع البورجوازي. تجعل كلّ إنسان، يرى في إنسان ثان، ليس تحقيقا لحرِّيته بل بالأحرى تقييدا لها. حرية تتطلَّع قبل أيِّ شيء ثان صوب حقِّ: ”التمتُّع حسب رغبته، بممتلكاته، ثروته، وإيراداته، وكذا ثمرة عمله و صناعته”.
تبقى حقوق الإنسان الأخرى، المساواة والأمن.
لا تنطوي هنا كلمة ”المساواة” على دلالة سياسية؛ بل مساواة وفق الحرية مثلما تَحَدَّدَ أعلاه: يُنظر إلى كل إنسان باعتباره وحدة جوهرية مرتكز على ذاته. لقد حدَّد دستور 1795 دلالة هذه المساواة: ”تقوم المساواة على أنَّ القانون ذاته بالنسبة للجميع، سواء حماية أو عقابا” (المادة 5).
فماذا عن الأمن؟ تقول المادة 8 في دستور : 1793”يرتكز الأمن على الحماية التي يوفِّرها المجتمع لكل أفراده من خلال الحفاظ على شخصه، حقوقه وكذا ممتلكاته”.
يعتبر الأمن، المفهوم الاجتماعي الأكثر رِفْعة داخل المجتمع البورجوازي، مفهوم الشرطة: ”هدف الوجود المجتمعي برمَّته أن يضمن لكل واحد من أفراده صيانة شخصيته، وحقوقه وممتلكاته. ضمن هذا السياق وصف هيغل المجتمع البورجوازي بـ”دولة الشدائد والتَّفاهم”.
أيضا، لا يكفي مفهوم الأمن قصد الارتقاء بالمجتمع البورجوازي فوق أنانيته. الأمن بالأحرى تأمين للأنانية.
لا واحدة من حقوق الإنسان المفترضة تتجاوز أنانية الإنسان، كفرد داخل المجتمع البورجوازي، بمعنى فرد منفصل عن الجماعة، منكفئ على ذاته، منشغل فقط بمصلحته الخاصة ويستكين إلى اعتباطية مجاله الخاص. بعيدا عن اعتبار الإنسان كائنا عموميا؛ بل على العكس من ذلك تماما، تبدو الحياة العامة نفسها وكذا المجتمع، بالنسبة للفرد مثل إطار خارجي، وتقييد لاستقلاله الأصيل. قوام العلاقة الوحيدة الجامعة بينهما، الضَّرورة الطبيعية،الحاجة وكذا المنفعة الشخصية، ثم الحفاظ على ممتلكاته وشخصيته الأنانية.
يبقى غامضا جدا بأنّ شعبا،قد انخرط للتَّوِّ في عملية التحرُّر،وإسقاط مختلف الحواجز بين مكوِّناته،وتأسيس جماعة سياسية،لكنه يجهر رسميا بحقِّ إنسان أناني(1791)،منفصل عن نظيره وكذا الجماعة،بل ويستأنف هذا الإعلان خلال لحظة يمكن معها إنقاذ الأمة فقط بالتَّفاني الأكثر بطولة،ثم يكتشف نفسه مدَّعيا بلهجة متعالية،ضمن سياق لحظة تهيئ فرصة التَّضحية بكل مصالح المجتمع البورجوازي وضرورة معاقبة الأنانية مثلما الشأن مع جريمة(1793).
أيضا، يزداد المعطى غموضا عندما نلاحظ بأنَّ التحرُّر السياسي يجعل الجماعة السياسية، المدنية، مجرد وسيلة يتمّ توظيفها قصد الحفاظ على ما يفترض بأنَّها حقوق إنسانية، والمواطن بمثابة خادم لـ”الإنسان”الأناني، حيث المجال الذي يتصرَّف داخله الإنسان ككائن عام، قد ابتلعه أسفل المجال، وبالتالي يعمل هذا الإنسان جزئيا، وأخيرا باعتباره بورجوازيا، وليس الإنسان المواطن، الحقيقي والأصيل.
”غاية” كل ”هيئة سياسية”،”الحفاظ على حقوق الإنسان الطبيعية التي لا تقبل التَّنازل” (إعلان 1791، المادة 2) “يضمن تشكيل الحكومة للإنسان التمتُّع بحقوقه الطبيعية الأساسية” (إعلان 1791، المادة 1). إذن، حتى إبَّان فترات حيوية الحياة السياسية وانتعاش تفتُّحها وبلوغها أقصى مستوى نتيجة قوَّة الظروف نفسها، ستكتفي بالإعلان عن هوية كونها مجرَّد أداة، للحفاظ على حياة المجتمع البورجوازي.
صحيح، يكمن تناقض صارخ بين المعطيات النظرية مقابل ممارستها الثورية. مثلا، الإقرار بالأمن ضمن قائمة حقوق الإنسان، مع استمرار انتهاك سرِّ المراسلات. بينما دافع (إعلان 1793، المادة 122) عن ”الحرية اللانهائية للصحافة”، بجانب حقوق الحرِّية الشخصية، فإنَّها ستلغى تماما، مادامت: ”حرية الصحافة غير مسموح بها، عندما تهدّد الحرِّية العامة”(روبسبير، التاريخ البرلماني للثورة الفرنسية، بوشيز وروكس، ص 159) مما يفضي إلى القول: يتوقّف حقّ الحرِّية على أن يكون حقّا، بمجرد منازعته الحياة السياسية، بينما، نظريا، فالحياة السياسية مجرّد تحصين لحقوق الإنسان الفردية ويلزم بالتالي تعليقها، ما إن يظهر تعارض هذه الحقوق مع هدفها. غير أنَّ الممارسة استثناء، والنظرية هي القاعدة.
عموما، أريد اعتبار الممارسة الثورية مثل وضع صحيح للعلاقة، ويستمر دائما مطلب حلّ هذا اللغز: لماذا، انقلبت هذه العلاقة داخل فكر دعاة التَّحرير السياسي، بحيث يبدو الهدف مثل أداة، والأخيرة كهدف؟ سيظلُّ باستمرار انخداع منظور وعيهم، نفس اللُّغز لكن وفق طبيعة نفسية ونظرية.
تسوية هذه القضية بسيطة. فالتحرُّر السياسي، تقويض في نفس الوقت للمجتمع القديم، الذي تقوم عليه الدولة، بحيث لم يكن الشعب يؤدِّي أيّ دور، بمعنى سلطة السيادة. الثورة السياسية، ثورة للمجتمع البورجوازي. ما هي خاصِّية المجتمع القديم؟ كلمة واحدة تحدِّد هويته: النظام الإقطاعي.
سرعان، ما امتلك المجتمع البورجوازي العتيق طابعا سياسيا، أي عناصر الحياة البورجوازية، على سبيل المثال المِلْكية الفردية، العائلة، نمط العمل، بحيث اشتغلت ضمن إطار سيادة الطبقية والتعاونية، ثم أضحت عناصر لحياة الدولة. تُؤَسِّس،في خضم هذا النموذج، علاقة الفرد المنعزل عن مجموع الدولة، بمعنى الوضعية السياسية، التي استُبعد وانفصل في إطارها عن باقي مكوِّنات المجتمع.
إذن، لم يعمل هذا التنظيم للحياة الشعبية على الارتقاء بالمِلْكِية، وكذا العمل على أهمية العناصر المجتمعية؛ بل أكمل بالأحرى فصلها عن جسم الدولة وجعل منها مجتمعات خاصة داخل المجتمع. بناء على أفق، إبقاء الوظائف الحيويّة والشروط الضرورية للمجتمع البورجوازي من الناحية السياسية ضمن وجهة إقطاعية؛ بمعنى ثان، تفصل الفرد عن جهاز الدولة؛والعلاقة الخاصة القائمة بين تعاونيته والدولة، وتحويلها إلى صلة عامة بين الفرد والحياة الشعبية، بل وتجعل من نشاطه ووضعيته البورجوازية المصمَّمَة، نشاطا ووضعية عامة. نتيجة لهذا الإطار التنظيمي، ستظهر أيضا وحدة الدولة، الوعي، إرادة وفاعلية وحدة الدولة، السلطة السياسية العامة، مثل قضية نوعية لسيادة، منفصلة عن الشعب وكذا خادميه.
تطيح الثورة السياسية بسلطة هذه السيادة، وتجعل من شؤون الدولة قضايا الشعب، وتأسيس الدولة السياسية في إطار كونها قضية عامة، بمعنى دولة فعلية، تقطع بالضرورة مع مختلف نماذج دول التعاونيات، المحلَّفين، امتيازات، التي يشير سياق استخدامها إلى انفصال الشعب عن الجماعة. هكذا، تلغي الثورة السياسية الطابع السياسي للمجتمع البورجوازي. تفكِّك المجتمع البورجوازي إلى عناصره الأولى، الأفراد من جهة، والعناصر المادية والروحية من جهة ثانية التي شكِّلت مضمون الحياة والوضعية البورجوازية لأفرادها. تطلق العنان للفكر السياسي، الذي كان بطريقة ما متدهوِرا، مُفَتَّتا، تائها خلف مآزق المجتمع الإقطاعي؛ ثم تلتئم أجزاؤه المتناثرة، بتحريرها من خليطها مع الحياة البورجوازية، وبلورة مجال الجماعة، والشأن العام للشعب، المستقلِّ نظريا عن المكنات المرتبطة بالحياة البورجوازية. يتجاوز نشاط الحياة من خلال وضعية محدَّدة مستوى الأهميَّة الشخصيَّة ولم تعد تندرج ضمن العلاقة العامة بين الفرد وجهاز الدولة. هكذا، يصبح بالأحرى الشأن العام، شأنا لكلِّ فرد، والوظيفة السياسية وظيفة عامة.
بيد أنَّ اكتمال مثالية الدولة، بمثابة اكتمال في نفس الوقت لمادية المجتمع البورجوازي، جرَّاء تخلخل الاستعباد السياسي، وعرقلة الفكر الأناني للمجتمع البورجوازي. يمثِّل التحرُّر السياسي، خلال الآن ذاته، تحرير السياسية من المجتمع البورجوازي، بل ومحتوى مظهر أخذ طابعا عاما.
تتحلَّل خلفية المجتمع الإقطاعي، ومعه جوهر الإنسان الأناني. إنسان المجتمع البورجوازي، ومرتكز وضعية الدولة السياسية، التي اعترفت به وفق هويته تلك كعنوان لحقوق الإنسان. لكن حرية الإنسان الأناني والإقرار بها، بمثابة اعتراف بحركة جامحة بخصوص العناصر الروحية والمادية، التي تشكِّل حياته.
إذن، لم يتحرَّر الإنسان من الدين؛ بل نال الحرِّية الدينية. لم يتحرَّر من المِلْكِية الفردية؛ لكنه حظي بحرِّية المِلْكِية. لم يتحرّر من أنانية الصناعة؛ بل حاز حرِّية ذلك.
يكتمل بنفس الفعل، تأسيس الدولة السياسية وتفكيك المجتمع البورجوازي إلى أفراد مستقلِّين، محكومة علاقاتهم بالقانون، مثلما سادت داخل التعاونيات علاقات الامتياز مع المحلّفين.
حتما، يتبدَّى إنسان المجتمع البورجوازي، الإنسان اللاسياسي، مثل إنسان طبيعي. تأخذ ”حقوق الإنسان” مظهر “حقوق طبيعية”، لأنَّ النشاط الواعي يركِّز على الفعل السياسي. الإنسان الأناني خلاصة سلبية، مجرَّد معطى لمجتمع متحلِّلٍ، موضوع يقين فوري، بالتالي طبيعي.
تقوِّض الثورة السياسية الحياة البورجوازية إلى عناصرها، دون تثوير هذه العناصر نفسها وإخضاعها للنقد. تقدِّم للمجتمع البورجوازي، عالم الحاجات، العمل، المصالح الخاصة، القانون الخاص، كأساس لوجوده، وكذا فرضية ليست في حاجة كي تتأسَّس، كما لو أنَّها قاعدته الطبيعية.
أخيرا، اعتُبر إنسان المجتمع البورجوازي، مثلما هو، كإنسان بالمعنى الخالص للكلمة، في تعارض مع المواطن، لأنَّه إنسان ضمن وجوده المباشر، الحِسِّي والفردي، بينما يجسِّد الإنسان السياسي إنسانا مجرَّدا، مصطنَعا، الإنسان باعتباره شخصا مجازيا، معنويا. لا ندرك الإنسان الحقيقي، سوى في صيغة الفرد الأنانيِّ، والإنسان الفعليِّ عبر مواطن مجرَّد.
هذا التجريد للإنسان السياسي، رصده جان جاك روسو بكيفية جيِّدة، حينما كتب في العقد الاجتماعي:
” الذي تجرَّأ على القيام بإنشاء شعب يلزمه الإحساس بكونه بصدد تغييرالطبيعة الإنسانية،إذا جاز التعبير،وتحويل كلِّ فرد،يشكِّل في ذاته كلاّ مثاليا و متَّحدا جزئيا مع كلٍّ أكبر،يستمدُّ منه هذا الفرد،بطريقة ما،حياته ووجوده،ويستبدل وجودا جزئيا ومعنويا بوجود فيزيائيٍّ ومستقلٍّ.ينبغي له أن ينزع عن الإنسان قواه الخاصة كي يمنحها له مهما كانت غريبة عنه ثم لايمكنه استخدامها دون نجدة الآخر”.
كل تحرُّر، هو تقويم للعالم الإنساني، والعلاقات، بل والإنسان ذاته. التحرُّر السياسيُّ، تقليص من جهة لإنسان المجتمع البورجوازي، والفرد الأنانيِّ والمنفصل، ومن جهة ثانية المواطن، إلى شخصية معنوية.
لا يتحقق التحرُّر السياسيُّ، سوى إذا اكتشف الإنسان قدراته الشخصية ثم نظَّمها كقوى اجتماعية وعدم انفصاله قط عن القوَّة المجتمعية ضمن إطار القوَّة السياسية. _________________________________
مصدر المقالة:
Karl Marx (1843).La Question juive.Traduction par jean Michel Palmier.pp : 16-26.