كرة القدم نص مفتوح على احتمالات متعددة
محمد الداهي
أسدل الستار عن بطولة كأس العرب (مونديال العرب المعتمد من لدن الاتحاد الدولي لكرة القدم) بعد شهر تقريبا (من 25-11 إلى غاية 18-12-2025) من التنافس بين الفرق الوطنية العربية تطلعا إلى الظفر بالتتويج. وقد تميزت الدورة الحالية الإحدى عشرة التي أقيمت في الدوحة للمرة الثانية على التوالي بحسن التنظيم، والإقبال الجماهيري الذي فاق مليوني متفرجا، وتطور الأداء الفني والتقني للاعبين والمدربين العرب. ما يلفت النظر أكثر هو أن الدوحة حققت الإجماع العربي بمشاركة الفرق الوطنية العربية وتمثلينها، وبتوافد الجماهير العربية من كل حدب وصوب لتشجيع فريقها المفضل، وبتبادل مشاعر المحبة والأخوة وإن تتخللها بين الفينة والأخرى عبارات الهمز واللمز من باب الدعابة والحماسة التي تقتضيهما الروح الرياضية غالبا. وهكذا اجتمع العرب على كلمة سواء وتبادلوا الرأي في مختلف القضايا التي تهمهم بطريقة يطبعها الوئام والدعة والحبور، وهو ما عجزت عن تحقيقه القمم العربية منذ عقود من الزمن.
كل من مافتئ يتابع المباريات الرياضية من جيلي يشعر بهول المفارقة بين الأمس واليوم. كان من قبل يحرم من مشاهدة حتى المباريات التي تخص الفريق الوطني خاصة عندما كان يلعب خارج أرض الوطن. لكن تتوافر لديه اليوم كل الإمكانات والخدمات لمشاهدة أي مباراة في العالم قد تستأثر باهتمامه اعتمادا على الهاتف الذكي أو المذياع أو القنوات التلفزية. أيا كان مستواه الثقافي وموقعه الجغرافي ومستواه المعيشي يظفر كغيره بمتعة كرة القدم، ويشاهد المباريات ويتتبع نتائجها عن كثب بفضل التطبيقات المتوفرة، وتطور النقل التلفزي، وهيمنة الشركات والمقاولات العملاقة- وفي مقدمته “بي إن سبورتس” (beIN SPORTS)- على المشهد الكروي العالمي، وقدرتها على توفير الخدمات للمتفرج بالجودة العالية، والمهنية الفائقة، والاستجابة لمواصفات الراحة المرفقة بتعليقات الطاقم المهني وتحليلاته التقنية المفيدة من جهة، وبالثرثرة الرياضية (Bavardage sportif) التي تفرض-بحسب وجهة نظر أمبرتو إيكوUmberto Eco-على العامة التحدث باسم اللغة الموجودة سلفا عوض تطويعها للفهم والاكتشاف، من جهة ثانية
تراهن الشركات العملاقة على المردودية بتسويق منتجاتها وخدماتها، وبحفز المشهرين على دعم مشاريعها ومواكباتها، وبالمراهنة على اشتراك المنخرطين لتعزيز ميزانيتها وانتظام برامجها. لا تخلو هذه المساعي- في نظر جول دو روزناي Joël de Rosnay– من مشاكل بسبب الصراع المحتدم بين رأسماليي المعرفة (Infocapitalistes) والبرونيتاريا (مستعملي “النت” بمهارةPronétaires) لتضارب مصالحهم واختلاف مشاربهم. يراهن الطرف الأول على تطوير الصناعة الثقافية والرياضية، وتجويد المُنتْجات والخدمات سعيا إلى استقطاب مزيد من الزبناء والمشتركين، وحماية حقوق الملكية الفكرية. في حين يراهن الطرف الثاني على مجانية الثقافة والخدمات المتاحة للاستفادة من مكاسب الثورة التكنولوجية ولو باستخدام القرصنة التي غالبا ما تكبد الشركات الإعلامية الكبرى خسائر فادحة.
تتيح كرة القدم للناس كافة إمكانات التحدث عنها وباسمها حتى لو كانت شريحة كبيرة منهم لم تمارس كرة القدم. وتوجد بالمقابل شريحة أخرى تعشق كرة القدم إلى حد الهوس والهيام، وتنتظم في شكل مجموعات متلاحمة (ألتراس Ultras) لتشجيع فرقها المفضلة، وحفزها على هزم الفرق المنافسة مرددة الشعارات والهتافات المتناغمة، ومستخدمة الدعامات البصرية (الشماريخ، والتيفوهات Tifos، والأعلام، واللافتات، واللوحات الفنية)، ومعتمد على خبراتها في التنظيم والتمويل الذاتييْن.
استطاعت فرق (مثل “البارصا” و “الريال” و”تشيلسي” وا”لبارين” و”باريس سان جيرمان”) أن تجلب المناصرين والمردين أكثر من الجماعات الوسيطة (الأحزاب والنقابات والجمعيات)، وتتحول إلى أحزاب افتراضية عابرة للقارات، تضاهي العلامات التجارية المعروفة من كثرة تردادها، والإعجاب بها، والإشادة بأدائها.
من الأعمال الروائية التي استثمرت موضوع كرة القدم أذكر على سبيل المثال رواية “الفريق” لعبد الله العروي؛ وهو يقصد الفريق الصديقي- الذي تحول- بفضل أولاد البلد العائدين إلى بلدتهم الصديقيَّة- إلى أداة لإحياء النعرات القبلية، ونشر الأفكار الاتكالية والتقلديانية Traditionnalistes (اختلاء المدرب بالغار لكتابة حرز وتعويذة للفريق، أو بترداد اللاعبين عبارة “الله حي الله حي” طوال الليل وهم يدكون الأرض دكا بأرجلهم إلى أن يتفرقوا فجرا بالقرب من زاوية الشيخ العوني بعد تقديم التحية له). لكن الفريق خانته البركة في وقت الحسم بانهزامه، وباحتجاج الجمهور عليه، وبتدخل السلطة لمنعه وحظره، واعتقاد عقله المدبر (شعيب). بينما كان سرحان -الذي عاد من أمريكا لدعم الفريق لعله يسعفه على تنظيم مهرجان العيطة- يشاهد مباراة في كرة القدم بين ألمانيا وإيطاليا تساءل مع نفسه : “أ مستقبلنا طلياني أم ألماني؟. ننظر إلى الحياة بجد وشعور عميق بالمأساة أم بسخرية واستهزاء بما يجري في الدنيا؟
الحياة حرب لا هوادة فيها أم مهزلة ذات فصول؟
نحاكم الآلهة أم نلاطفهم؟
العالم القديم إيطالي، والعالم الجديد جرماني
الجرمان أجلاف والأجلاف أصحاب جد وصرامة
الطليان متحضرون والمتحضرون أصحاب سخرية وخفة روح
الموسيقى ألمانية والطرب إيطالي
الموسيقى تألق والطرب تأنق
الرياضة الألمانية جهد وجهاد والرياضة الإيطالية لهو واستلذاذ
نحن العرب لم نكن أجلافا حتى في جاهليتنا… نفهم الآي حسب هوانا، ونقول دنيانا لعب ولهو، ونقول لا خوف علينا. نحن هنا باقون ما بقيت الأرض. طليان أكثر من الطليان! ” (الفريق. ص.225).
لا يناسب أسلوب الآلة الألمانية الذهنية العربية لصرامته ودقته وإجهاده النفس والجسد. في حين يوافقها الأسلوب الإيطالي لميله إلى اللهو والخفة والطرب. وهي أكثر من الطليان لغلوها في ذلك. من تابع مباريات بطولة كأس العرب عاين ميل معظم الفرق العربية إلى الأسلوب الإيطالي الواقعي الذي كان حكرا على الفرق التونسية من قبل. تغيرت طريقة الفريق الوطني المغربي الحائز على الكأس نفسها مرتين بالتخلي عن الأسلوب الفرجوي البرازيلي واعتماد الأسلوب الذي يراهن على النتيجة بالانضباط في الدفاع وشن الهجمات المضادة لاستغلال الفرص المتاحة؛ ومع ذلك ما فتئ اللاعبون المغاربة يميلون إلى الفرجة الفنية التي تعد سمة متأصلة في طبعهم وإن أدت أحيانا إلى نتائج عكسية.
انتهت الدورة الحالية مخلفة صدى طيبا في نفوس الجماهير والمهنيين والتقنيين لمستواها الفني والتقني والتنظيمي الذي يضاهي كبريات البطولات العالمية والقارية. وأيا كانت النتائج فقد عاينا الإجماع العربي بمراعاة الضوابط المهنية (حكام نزهاء، الاستعانة بتقنية “الفار” في الحالات الملتبسة والمثيرة للجدل، الأداء الفني والتقني المتميز)، وتكريس الذهنية العربية (الدعابة، والطرب، وخفة الروح). وتبقى الكرة -في آخر المطاف- نصا منفوخا ومفتوحا على احتمالات متعددة يصعب التكهن بمآلها لما تحمله من أسرار ومفاجآت غير متوقعة، ولمكرها وغدرها أحيانا.
