كلام عن قسوة اغتراب المثقفين في مغرب اليوم

كلام عن قسوة اغتراب المثقفين في مغرب اليوم

عبد الرحمان الغندور

وجهة نظر خاصة جدا وتعني ناسا خاصين أيضا

           هناك صوت متألم يتردد في أعماق كل من لا زال يستبطن ويمتلك وعيا شقيا، صوتٌ يأتي من عمق ما نعاينه من انهيارات قاسية. ويقاوم حتى لا يصيبه هذا التشويه والمسخ اللذان يهاجماننا بقسوة وعنف، صوت ينادي بأننا خُلقنا لأفضل من هذا.

لكن أكثرنا، ممن فقدوا وعيهم الشقي من “مثقفين” ومن يتشبهون بهم، يستيقظون كل صباح ليلبسوا ذواتهم كما تلبس الثياب، ويخرجون إلى العالم حيث تبدأ عملية المسخ اليومية. وهم راضون بها، وهي ليست مسخاً جسدياً، بل مسخ للروح، وللقيمة، وللجوهر الذي يجعل من الانسان إنسانا. إنهم يتنازلون طواعية، بل وببراعة أحياناً، عن أعمق قناعاتهم في سوق المبادلات الكبرى، يبادلون إنسانيتهم بقبول نوع من الارتقاء الاجتماعي، أو براتب شهري، أو بمنفعة عابرة أو بمكانة وهمية. فتصبح حياتهم سلسلة من التنازلات المتتالية، كل تنازل يقربهم خطوة من الإفلاس الذاتي ويدخلهم سجنا صنعوه بافتقادهم لوعيهم الشقي وهم يحلمون بالعرضي بدل الجوهر. فيسكنون بهذا الفقدان في حالة من الاغتراب المر.

الاغتراب هنا ليس مجرد شعور عابر، إنه شرط وجودي في عالم يفرض علينا أن نكون غرباء عن ذواتنا قبل أن نكون غرباء عن الآخرين وعن أي مكان آخر. إنه تلك الهوة السحيقة التي تنفتح بين ما تؤمن به هذه الشريحة المتنامية في صمت الخذلان، وما تفعله تحت وطأة المجاعة. فيجدون أنفسهم يضحكون عندما لا يريدون الضحك، ويصمتون عندما تحثهم ضمائرهم على الصراخ، ويوافقون عندما تكون موافقتهم خيانة للحقيقة. والأكثر إيلاماً أنهم يفعلون كل هذا وهم يدركون أنهم يفعلونه، يراقبون ذواتهم وهي تذوب في قوالب المسخ، وكأنهم يشاهدون مسرحية مأساوية هم أبطالها، لكنهم عاجزون عن إيقافها. وهذا ما يجعلهم أقل ذواتهم الحقيقية أو المفترضة، بما يمارسونه من رقابة ذاتية على أفكارهم ومشاعرهم وهي القيد الحقيقي، الذي يكبلهم أكثر من أي رقابة خارجية، لأن السجان هنا يعيش في داخلهم.

وتتكاثف الشروط المحيطة بهذه الفئة البشرية، رغم امتلاكها لحد مقبول من المعرفة، لتجعل من هذا الاغتراب قدراً لا مفر منه. فالقوانين غير الأخلاقية التي تنتجها الأنظمة لا تكتفي بأن تحكم سلوكنا الظاهري، بل تتسلل إلى أعماقنا لتشكل وعينا نفسه. فتصبح المعايير المشوهة والممسوخة هي المقياس، واللاأخلاقية هي العقلانية الجديدة، والانتهازية هي الذكاء. في هذه الدائرة المتحورة، يتحول الإنسان من كائن مفكر ناقد إلى مسمار في آلة ضخمة لا تعرف الرحمة ولا الأخلاق. الآلة التي تطحن الأحلام وتُنتج الخوف، وتقدم في النهاية رفاهية مزيفة نسميها حياة، بينما هي في الحقيقة مجرد محافظة على البقاء.

لكن في قلب هذه العتمة، يولد الوعي الشقي المقاوم. إنه ذلك النور العنيد الذي يرفض الانطفاء، والذي يوقظنا في منتصف الليل ليواجهنا بصورتنا الحقيقية، بكل ما تنازلنا عنه وكل ما خناه. هذا الوعي اختيار عنيد ومعاند لأنه ضرورة وجودية، وفعل مقاومة يومي ضد عملية المسخ المنظمة. مقاومة لا تحتاج بالضرورة إلى شعارات ثورية أو انقلابات دراماتيكية، بل تبدأ من اللحظة التي نرفض فيها أن نضحك على نكتة “بايخة”، أو نتجاهل ظلماً، أو نبرر فساداً. تبدأ عندما نختار أن نكون مخلصين لذواتنا في أصغر التفاصيل.

هذه المقاومة هي التي تحول الاغتراب من حالة سلبية محبطة إلى موقف وجودي خلاق. فعندما نعترف بأننا غرباء، عندما نرفض الانتماء إلى هذا الواقع المشوه والممسوخ، نكون قد بدأنا في استعادة إنسانيتنا.

فالغريب والمغترب هنا ليس من لا وطن له، بل من لا ينتمي إلى ذاته، من يخون ما يؤمن به في معبد المصالح والغنائم. لذلك فإن عملية الاستعادة هذه هي رحلة عودة إلى الذات، إلى ذلك الصوت الخافت الذي ما زال ينادي من الأعماق.

إن الاغتراب هنا ليس مجرد صراع بين الأنا والآخرين، بل هو معركة داخلية بين ما نحن عليه وما نتمنى ونرضى أن نكونه. بين الإنسان الذي صنعته الظروف والإنسان الذي يقاوم تلك الظروف. قد لا نستطيع تغيير كل القوانين غير الأخلاقية، وقد لا نستطيع إسقاط كل الأنظمة الفاسدة، لكننا نستطيع أن نرفض مشاركتها في تشويه ومسخ إنسانيتنا. نستطيع أن نبقى أوفياء وأمناء لذواتنا في عالم يدفعنا باستمرار إلى التنكر والخيانة. هذه الأمانة، وهذا الوفاء هما فعل التمرد الحقيقي، وهما المقاومة التي تبدأ من الداخل لتصنع عالمها الخاص، عالمٌ نستحق أن نعيش فيه كبشر.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!