كلام عن مزبلة السياسة: المغرب يستعد لمهزلة انتخابية جديدة

كلام عن مزبلة السياسة: المغرب يستعد لمهزلة انتخابية جديدة

عبد الرحمان الغندور

            المغرب مقبل سنة 2026، على سادس انتخابات  في عهد الملك محمد السادس. وتلوح منذ الآن كطقس عبثي يُعيد إنتاج ذات الدورة الفاسدة. إنها ليست محطة ديمقراطية بقدر ما هي تشريع لهيمنة منظومة متجذرة اختزلت الإرادة الشعبية في أرقام مزيفة ودممٍ تُشترى. فآلية التزوير، بوجوهها الخفية والمعلنة، حوّلت صناديق الاقتراع إلى مسرح للهزل، حيث ينهار معنى الاختيار الواعي تحت وطأة المال والضغط والوعود الكاذبة.

ولو آمنت النخب السياسية – أحزاباً ونقاباتٍ – حقاً بمبدأ المواطنة، لسعت بدل التحضير التقني، إلى تشريع يحمي جوهر العملية الديموقراطية، بدلاً من الانكفاء على حساباتها الضيقة. وجوهر المعضلة هو بناء المواطنة، ذلك الكائن الغائب في خطاباتهم، وفي سياساتهم. إنه الصوت الأكثر جهراً بالرفض، والأكثر إهمالاً في دهاليز القرار.والذي يعبر عن حضوره في ما تسميه  سرديتهم   ب”العزوف” الذي ينبغي معالجته، وهو في عمقه رسالة سياسية تستدعي الاصغاء.

لقد قررت الآلة السياسية، بإجماع خفي بين أطرافها الظاهرة والخفية، أن يكون موسم 2026 موعداً لا مفر منه. وكما يُقرر موعد السوق الكبير، انطلقت عجلات التحضير. حيث بدأ “المحترفون” في حرفة التداول السياسي، وتجار “التسخين” و”التبريد”، في رفع سقف المزايدات، كلٌ يلوح بما في جعبته أو يعد بما ليس له، سعياً وراء أكبر حصة من الغنيمة المتوقعة. المشهد يعجّ بالحركة المألوفة، حركةً تكرر نفسها بلا ملل وكأنها طقسٌ مقدس بلا روح. ها هم “أصحاب الشكارة” يحزمون وعودهم، و”الشناقة” يشدون أحزمتهم للمساومة، و”السبايبية” ينسجون شباك العلاقات، و”البراحة” يوزعون البشاشات، و”الحياحة” يرفعون أصواتهم في ساحات لم تعد تصدق الصدى. الجميع في حلبة السباق، أو قل في حلبة المزايدة.

لكن قوانين هذه “السوق” العجيبة لا تُكتب على اللوحات، بل تُفرض بقوة الواقع الفاسد. فبطاقة الدخول إلى حلبة المنافسة، تلك التي تخولك أن تكون “متسوقاً” للحصص والنفوذ، لا تُمنح لمن هبّ ودبّ وشروطها صارمة من استعداد مالي يضمن التزكية والترويج، وامكانيات كلامية تبرر الوجود ولو بالخطاب الفارغ، وحدٌ معقول – أو غير معقول – من السلطة والجاه يفتح الأبواب الموصدة. حملة هذه البطاقات المميزة يدخلون السوق محملين بكل الرموز والشرعية الزائفة: مصابيح الإرشاد المزعوم، وجرارات الوعود الفارغة، وحمائم السلام الواهي، وموازين العدالة المختلة، وسنابل التنمية العقيمة، وورود الأمل الذابلة، وكتب البرامج التي لا تُقرأ، وأفراس القوة المتغولة، وأسود الزعامة المستوردة. وبينهم من يتسلل من الأطراف، يطمعون في فتات السقف، في حصةٍ مهما صغرت أو تلطخت.

ها نحن نعاين بداية ارتفاع حرارة “السوق”، واشتعال المزايدات الكلامية بين أصحاب المال والكلام والسلطة والجاه، في مشهدٍ من الفورة المصطنعة. قد يظن المراقب السطحي أن النار قد تلتهم السوق بكاملها، لكن “العارفين” بخبايا اللعبة وأسرار دهاليزها يدركون جيداً أن كل هذا الضجيج والتصعيد، وكل هذا “التسخين” والوعود الطائشة، هو جزء من لعبة “التبريد” الأكبر. فالاحتمال الأقوى، بل اليقين عندهم، هو أن الاتفاق بين كبار “تجار” السوق السياسية على توزيع الحصص أمرٌ محسومٌ سلفاً، واردٌ بل حتمي. والمزايدات مجرد ديكور للفرجة، وسخونة الخطاب مجرد بخار يرتفع ليتلاشى. بل إن الرواية الأكثر عبثية تؤكد أن “مهندسي” هذه التجارة و”خبراءها” قد حَسَموا الأمر فعلاً: حددوا الحصص، ورسموا خريطة توزيع الغنائم، بل واتفقوا حتى على سيناريو “إغلاق أبواب السوق” بعد الفرجة.

وفي خضم هذه المهزلة الكبرى، يرفع جميع “المتسوقين”، صغاراً وكباراً، بمنتهى الجدية المصطنعة، شعاراً واحداً مكروراً كالببغاء: “خدمة أرباب السوق”! فيتسابقون في التعبير عن استعدادهم الأكيد ليصبحوا “أكثر الخدام مخدومية” لـ “مالكي السوق” الحقيقيين. هنا يطفو السؤال المصيري، السؤال الذي يُختزل فيه جوهر العبث كله: مَنْ هم، حقاً، “أرباب السوق” و”مالكوها”؟ من هم أصحاب القرار الحقيقيون الذين يديرون هذه الفرجة الضخمة من خلف الستار، ويوزعون الأدوار والحصص، ويحددون من يدخل ومن يخرج، ومن يفوز ومن يُضحى به؟ الجواب على هذا السؤال هو مفتاح فهم اللعبة كلها. فمن عرفه، ومن أدرك حقيقة من يقف خلف ديكتاتورية المشهد ويدير دفة هذه السفينة العبثية، لن ينخدع بالضجيج، ولن يُغرّر ببريق الوعود الكاذبة، ولن يكون – بكل تأكيد – مجرد ضحية راضية في يوم “النحر والذبح والسلخ” المحدد سلفاً، الذي يُختتم فيه موسم الفرجة، وتوزع فيه الغنائم على من سكتوا على القواعد وشاركوا في اللعبة، بينما يُقدم الشعب كله كقربان على مذبح الديمقراطية الوهمية.

العبث يبلغ ذروته حين تتحول السياسة إلى سوق للمزايدة. فشراء الذمم ليس شذوذاً، بل آلية عمل في منظومةٍ رسّخها الفساد بالريع والانتهازية. والمرشحون، خاصة في الأحزاب المهيمنة، يصعدون على أكتاف الناخبين لا لخدمتهم، بل لتحقيق مكاسب شخصية أو حزبية ضيقة. الفساد هنا ليس مجرد رشاوي انتخابية، بل هو فساد في الجوهر حين تتحول الممارسة السياسية من فعل نبيل إلى تجارةٍ رخيصة. وتصبح الدولة، في هذه المعادلة المقلوبة، تتحول إلى غاية تُخدم على حساب الشعب، لا أداة لخدمته.

هذا العبث المُمنهج يغذي حلقة مفرغة فالتزوير وشراء الذمم يُعمقان العزوف، والعزوف يُسهّل هيمنة الفاسدين، وهيمنة الفاسدين تُنتج المزيد من الرفض. والنتيجة؟ انفجار الغضب في قنوات أخرى قد تأتي بالتعصب أو التطرف، وتعمق انفصام العلاقة بين الدولة والمواطن. وكل انتخابات غير نزيهة ليست مجرد خيانة للحظة ديمقراطية، بل هي حفر أعمق لهوّة قد تبتلع الاستقرار نفسه.

إن أي أمل في كسر هذه الدائرة يبدأ بالاعتراف بأن المواطنة تعبير متعدد الأوجه. ولا بد من تشريعات تحمي هذا التعدد بكافة تعبيراته، سواء تعلق الأمر بالمشاركة الإيجابية، أو المقاطعة الواعية، أو الأصوات الملغاة الاحتجاجية. وشرعنة هذه التعبيرات عبر عتبات ملزمة، ليست حلماً رومانسياً، بل شرطاً للخروج من النفق. فبدون احترام إرادة الأغلبية الصامتة، وبدون محاسبة من يحوّلون السياسة إلى سوق سوداء، ستظل الانتخابات طقساً فارغاً. طقساً يُعيد إنتاج نفس الوجوه تحت أقنعة ديمقراطية واهية، بينما العاصفة تتراكم في صمت خارج قاعات الاقتراع.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!