“كَرْكَرَة” الأحزاب و”تدجينِ اليسارِ” في “اصطبل الموالاة”

“كَرْكَرَة” الأحزاب و”تدجينِ اليسارِ” في “اصطبل الموالاة”

عبد الرحيم التوراني

              ما القاسم المشترك بين ما يسمى بـ”الطائفة الكركرية” التي أصبحنا نسمع عنها كثيرا وعن شطحاتها وألوان ملابس أتباعها التهريجية، وسعيها لابتزاز المال ونشر التضليل في أوساط الناس من المواطنين البسطاء..

ما القاسم المشترك بين  هذه الطائفة “الصوفية” والمنظومة الحزبية في المغرب، التي رغم تعدد ألوانها ورموزها الانتخابية، تكاد واحدة، بأهدافها التضليلية وسعي زعمائها إلى الخلود في القيادة وفي خدمة الوضع القائم وامتصاص النقمة الشعبية…

فقد صارت صور الشيخ زعيم “الطائفة الكركرية” تُنقل عبر الإنترنت كأنها لقطات من كابوس ساخر. يظهر الرجل بلحية كثيفة وثياب صوفية مُرَقَّعة، تصرخ بالتواضع والزهد. لكن خلفه، لا نجد كوخاً أو خلوة، بل يختاً فخماً يتهادى على زرقة البحر المتوسط.

لم يكن طبق طعامه خبزاً جافاً، بل كانت أمامه سلال من أفخر الفواكه، موسمية وغير موسمية، تلمع ببركة النعيم.

هذا الشيخ، الذي يستقبل تبرعات البسطاء والمضللين الباحثين عن “القُرب الروحي”، يعيش القُرب وحده. رسالته الصامتة إلى الأتباع واضحة كالشمس: أعطني إيمانك ومالك، وأنا سأعيش حياة القُرب والرفاهية على الشواطئ نيابةً عنك…

 لكننا سنكتشف العجب، عندما نلتفت إلى المشهد الحزبي وتحولاته في مغربنا الحبيب، الذي هو “وطننا روحي فداه.. ومن يدس حقوقه يذق رداه….”، كما حفظوا جيلنا قديما في درس الأناشيد.. سنجد أن من يتزعمون الأحزاب اليوم، وطبعا بينهم أولئك الذين يحملون شعارات إسلامية، مثل حزب العدالة والتنمية، تحولوا إلى نُسخٍ مستنسخة من الشيخ الكركري. حيث ترفع لافتة “السياسة” بدلاً من لافتة “الدين”، لتتم المتاجرة بنفس العملة، أي “الأمل”.

هكذا أصبح المشهد واحداً: كلاهما يتاجر بأغلى ما يملكه المواطن، صوته وإيمانه.

بينما ينعم الشيخ الكركري، بثرائه الذي يأتي من تبرعات الفقراء، على يخته الهادئ، ينعم الزعيم الحزبي بفخامة المنصب، براتب كبير من الدعم الحكومي، وسيارة فارهة تليق بالوزراء، وتقاعد مريح ضمن به نهاية سعيدة.

وفي الأسفل، تبقى الجماهير غارقة في مستنقع مشكلات التعليم والصحة والبطالة، وغلاء أسعار المواد الغذائية الأساسية…

فإذا كان الشيخ يعدهم بـ “رؤية النور”، بينما الناس يقبعون في الجهل المُطبق. فإن الزعيم يعد بـ “الإصلاح الجذري” ومحاربة الفساد، لكن “الوضع القائم”، الذي هو مصدر سلطته واستمراره،  يبقى ثابتاً، مُحصَّناً كقلعة قديمة.

 الحكاية الأكثر مرارة، هي ما جرى للأحزاب اليسارية القديمة.. تلك الأحزاب التي ولدت بهدف التغيير الراديكالي وتحقيق العدالة؟!!

لقد تم اختراقها عمودياً وأفقياً، وجرى استقطاب قادتها من الصف الأول إلى الأخير.. طولا وعرضا، وتم إفراغها من كل مبادئها الحقيقية الأصيلة..

في حين بقيت اللافتات القديمة على أبواب المقرات، ملوحة كخرق بالية لتزييف وجود التعددية، لكن المحتوى النضالي نُزِعَ منها بالكامل.

تحوَّل “الزعيم” من رمز للنضال، إلى شخص يتنافس على “ثني عموده الفقري للركوع أمام أولي الأمر”.. والحمد لله أن جل هؤلاء “الزعماء” صاروا مصابين بأعراض التقوس وأصبحوا متعايشين مع انحناء وتحدب العمود الفقري.. بفضل دخلوهم طواعية “اصطبل الموالاة”، وانتقالهم إلى “الولاء المطلق”.

هكذا، تكتمل الحلقة، أصبح زعيم الحزب نسخة طبق الأصل من شيخ الزاوية الكركري. يتلذذ بريع المناصب والميزانيات (المال الذي جمعه الشيخ من الفقراء)، ويضمن خلوده في القيادة عبر “البيعة السياسية”، بينما يضحي بآمال قواعده النضالية التي تحولت إلى مجرد “أتباع” في زاوية فقدت روحها.

في النهاية، لم تنجح الأحزاب في أن تصبح مؤسسات ديمقراطية حديثة، بل عادت لتكون زوايا سياسية جديدة، ينتقل فيها الولاء من البركة الروحية الغائبة إلى بركة المنصب والامتيازات المادية، وإغراءات نيل التزكية بالترشح في البلديات والبرلمان والمجالس الاستشارية… وغيرها..

الزعيم السياسي هو الشيخ الجديد، واليخت هو العرش الذي يتربع عليه المُستنسخون جميعا، بينما يبقى البحر هو الفاصل الأبدي بين الحاكم والمحكوم.

صارت الأحزابُ التاريخيةُ نُسَخا مُستنسخة لا تُقَدِّمُ أيَّ خيار حقيقي للمواطنِ، بلْ تُعَمِّق الشعور بالعُزلة وخَيْبَة الأمل، مُؤَكِّدَة أنَّ “النسقَ الثقافيّ للسلطةِ” لا يزالُ أقوى منْ الأُطُر الديمقراطيةِ الحديثة.

هامش:

في تعريف و معنى “كركر” في معجم المعاني الجامع، نقرأ في مادة: (كَركَرَ ) ما يلي:

 فعل كركرَ يُكركر ، كَرْكَرَةً ، فهو مُكركِر، والمفعول مُكركَر- للمتعدِّي

كَرْكَرَ الرَّجُلُ: اِسْتَغْرَقَ فِي الضَّحِكِ، قَهْقَهَ إِلَى حَدِّ الإِغْرَابِ.

كَرْكرَ بالدجاجة: صَاحَ بها

كَرْكرَ فلانًا عن الشيء: دفعه وردَّه

كَرْكرَ الشيءَ: أَعاده مرة بعد أُخرى

كَرْكرَ الشيءَ: جمعه

كَرْكرَ الرحى: أَدارها

كَرْكرَ الحَبَّ: طحنه

وكركرت النَّارَجيلةُ: اضطرب ماؤها فكان لها صَوت يُشبه الكركرة.

لا شك أننا أصبحنا ضحايا لهذه النخب المستنسخة التي تكركر علينا كركرة ما بعدها كركرة، تصيح فينا وكاننا من الدجاج، وتدفعنا وتردنا إلى الخلف، وتجمعنا بـ”نص” حتى السقوط، وتطحننا طحن الرحى للشعير مع القمح الصلب، حتى يضطرب ماء أوصالنا ويجف ونصاب بشلل نهائي.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحيم التوراني

صحفي وكاتب مغربي، رئيس تحرير موقع السؤال الآن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!