كُنْتُ اتحاديًّا وانْتَهَى الْكَلَامْ

كُنْتُ اتحاديًّا وانْتَهَى الْكَلَامْ

عبد الرحمان الغندور

          هذا آخر الكلام، وقد قررت عدم الخوض مرة أخرى، في قضايا حزب كبير سمي على قيد حياته، الاتحاد الاشتراكي، لسبب بسيط وقاسي، وهو أنه حزب انتهى، وصليت عليه صلاة الجنازة بعد ما سمي بمؤتمر التمديد لولاية رابعة “للزعيم الأوحد “. كان الحديث يروق عن كائن حي مصاب بالأمراض والأعطاب، ويراد المساهمة في شفائه، أما وقد فارق الحياة، فلا حديث يفيد، ولا كلام يجدي، فالدواء ينفع الكائن الحي، ولا يجدي للجثة الهامدة.

 إنه الموت المتشعّب،  الذي لا يقتصر على ذلك الانزياح الجسدي الذي ينهي وجود الكائن فحسب، بل يتجاوزه إلى عوالم أخرى أشد قسوة واغتراباً، يصير الموت ظلاً يلاحق الكيانات كما يلاحق الأفراد. إنه الموت الذي ينزلق بهدوء ليصيب الروح قبل الجسد، والمبادئ قبل الأشخاص، والقيم قبل الممارسات. وفي هذه المساحة الرمادية، حيث تتداخل الأنواع وتتشابك، ينشأ ذلك المشهد المأساوي لانهيار كيان سياسي كان يمثل يوماً رمزاً للأمل والتغيير. حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في المغرب يقدم لوحة متكاملة لهذا الانهيار المتعدد الأبعاد، حيث يلتقي الموت الجسدي بالمعنوي بالرمزي في رقصة جنائزية لا تفتأ تذكرنا بأن الموت قد يأتي بأشكال لا تُعد ولا تُحصى.

لقد بدأ الموت الجسدي تنظيميا للحزب ليس كحدث مفاجئ، بل كعملية بطيئة من التآكل الداخلي، حيث اغتيلت القيم الديمقراطية التي كانت تشكل قلب الحزب النابض. فالديمقراطية الداخلية التي كانت تميزه تحولت إلى طقوس شكلية جوفاء، مجرد ذاكرة باهتة لحوارات كانت يوماً ثرية وحية. استبدلت بآلات تكرس السلطة الرأسية وتقدس الزعامات، فأصبحت المؤتمرات مجرد مسارح لتتويج الخيارات المسبقة، وتحول الترشيح للمسؤوليات من معيار الكفاءة إلى مزاد للولاءات. هذا التحول لم يقتل البنية الديمقراطية فحسب، بل قتل معها روح المبادرة والاختلاف التي كانت تدفع بالحزب إلى الأمام. لقد مات الجسد التنظيمي ببطء، مفضلاً الأوهام على مواجهة الحقائق، والتبعية على الاستقلالية، والاستسلام على المقاومة.

لكن الموت الجسدي لم يكن سوى البداية، فالموت المعنوي فكريا وأخلاقيا كان الضربة الأعمق التي أصابت الحزب في الصميم. لقد شهد الحزب انهياراً مريعاً للقيم الأخلاقية التي كانت تشكل أساس وجوده. كيف لحزب تأسس على قيم الدفاع عن الفقراء والمهمشين وترسيخ العدالة الاجتماعية أن يتحول إلى جزء من المنظومة التي كان ينتقدها؟ لقد أصبح شريكاً في إعادة إنتاج نفس الممارسات التي حاربها طويلاً: المحاباة، الوساطة، تركيز الامتيازات، والتماهي مع الفساد. هذا التناقض الصارخ بين الخطاب والممارسة شكل ضربة قاضية لمصداقيته الأخلاقية، وجعل المناضلين الذين ظلوا متشبثين بهذه القيم، يشعرون بأنهم غرباء في بيتهم، غرباء في ذلك الكيان الذي بنوه بدمائهم وتضحياتهم. لقد طغى منطق المصالح الشخصية على المصلحة الجماعية، وتحول الانتماء من تعبير عن قناعة أيديولوجية، وممارسة أخلاقية، إلى وسيلة للترقي الاجتماعي وكسب الامتيازات. ماتت روح التضحية والعطاء، وحل محلها طمع صارخ في تحقيق المكاسب، حتى أصبح الموالون لزعيمه اليوم ليسوا سوى حراس لمصالح مكتسبة أو طامعين في مصالح مرتقبة.

وفي هذه الدائرة المفرغة من الموت الجسدي تنظيميا، والمعنوي فكريا وأخلاقيا، اكتملت الصورة بالموت الرمزي، حيث فقد اشتعال دلالته الأصلية وتحول إلى مجرد رماد. لقد كان الاتحاد الاشتراكي رمزاً للتغيير والدمقراطية، قوة اقتراح لا يستهان بها، صوتاً للفئات المهمشة. لكنه تحول إلى مجرد تابع في المعادلة السياسية، ورقم في الحسابات الحزبية، عاجز عن التأثير أو التغيير. لقد تحول زعيم الحزب من قائد إلى صنم يقدم له الولاء دون مساءلة، وأصبح الحزب نفسه مجرد رديف لنمط الحكم في أحسن الأحوال، و عاجزاً عن التأثير في الأحداث بكل المعاني أسوئها. هذا التحول قتل الرمزية الثورية للحزب وحوله إلى جزء من المنظومة القائمة، منسجماً مع منطقها، متقبلاً لشروطها، مستسلماً لمعادلاتها.

كيف حدث هذا التحول الكبير؟ إنه السؤال الذي يلح على نفسه بإلحاح. لعل الإجابة تكمن في تلك التناقضات الداخلية التي رافقت المشروع الإصلاحي للحزب. فمحاولة التوفيق بين المشاركة في السلطة والالتزام بمرجعية التغيير أوجدت ازدواجية في المواقف أضعفت مصداقيته بشكل تدريجي. كما أن تغييب القواعد الحزبية وإقصاء المناضلين أدى إلى فقدان الثقة بين القيادة والقاعدة،

فخلق شرخاً عميقاً في جسد الحزب جعله عاجزاً عن مواجهة التحديات. ولم يكن الصراع بعيداً عن هذا الانهيار، فقد طغت الصراعات الشخصية على الخلافات الفكرية، وتحولت المعارك السياسية إلى مجرد صراعات على النفوذ والمكاسب، مما أفقد الحزب جوهره النضالي وحوله إلى ساحة لتصفية الحسابات الشخصية.

  ونحن نشهد هذا المشهد الجنائزي المتعدد الأبعاد، يبقى السؤال الأهم: نؤمن أن الموت ليس قدراً محتوماً في المجال السياسي، فكما يموت الكائن السياسي يمكن أن يبعث من جديد. لكن البعث الحقيقي يتطلب شجاعة الاعتراف بالأخطاء، وهو الأمر المنعدم حاليا، ويتطلب الجرأة على مراجعة المسار، وهو الأمر المستحيل، والإرادة الصادقة لاستعادة القيم المؤسسة، وهو ما يفكر فيه من يجرون وراء مصالحهم.

يحتاج المغرب اليوم إلى ثورة فكرية وثقافية وأخلاقية تعيد للتقدمية واليسار روحهما المفقودة، ثورة تحرر العقل السياسي التقدمي واليساري والديموقراطي من أسر المصالح الضيقة. إن تحديات المرحلة الراهنة تتطلب قوى سياسية حية قادرة على تمثيل طموحات المغاربة في التغيير والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وإعادة بناء الروح الوطنية المواطنة، من أجل استعادة الروح المفقودة، في واقع يولد فيه مغرب جديد، بثروة بشرية شابة جديدة، رغم هذا الركام المتعدد من الموت والتمويت.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!