لا شيء تقريبا.. المقاومة مرة أخرى

لا شيء تقريبا.. المقاومة مرة أخرى

لحسن أوزين

           مفجوعا ينظر ولا يرى. يبدو أن الأمر لا يتعلق فقط بالصدمة، بل أيضا بالرضة والزلزلة التي أخرجت كما هائلا من الأثقال. عشرات الأسلة كانت تتوارد إلى ذهنه، وتنبعث من مناطق مجهول من ذاته وتاريخه، وكل ما يشكل انتماءه وهويته الفردية والجماعية والمجتمعية. لم يكن عاريا، بالمعنى الأخلاقي المألوف، لكن عريا ما فوق اجتماعي وأخلاقي تلبسه روحا وجسدا. عري في الكينونة والوجود والفاعلية البشرية الإنسانية، جعله مجرد أعجاز نخل خاوية. الصدمة والرضة والزلزلة كانت عنيفة وفجائية في وعيه و معرفته وحساباته، وفي تفكيره المنطقي العقلاني.

 لكنه يدرك الآن تبعا لقوة همجية الحدث أنه كان خارج وعي اللحظة التاريخية، والمرحلة الحضارية التي وصل إليها تطور الشرط الاجتماعي التاريخي الإنساني.

 وجد نفسه في المكان نفسه، والعقل ذاته، والوعي المعرفي عينه، لشيوخ الأزهر في لقائهم البارد بصدمة نابليون وأسئلته الخبيثة الماكرة. عاريا في الغرفة، مسكونا بشعور حارق ينفث لهيبا قاتلا، كما لو أنه بركان انفجر دون سابق إنذار. عشرات وآلاف الأسئلة في صورة حمم رهيبة لا ترحم ضعفه وهشاشته أمام مكر التاريخ وشر الإنسان في التخريب والقتل والاستغلال والتطهير، والإبادة…

لا يعرف كيف انطلت الخدعة ومكرها الخبيث على الجميع من المحيط الى الخليج، جيلا وراء جيل. مرحلة من العمر، من التاريخ، من سيرورة المجتمعات، من الأجيال…، اغتصبت.

 واكتشفنا أننا لم نكن في أي مكان. لا في الجغرافيا، لا في التاريخ، لا في السياسة، لا في الفكر والثقافة.. لاشيء.. مرعب هذا اللاشيء الرهيب، الذي ساد في تربيتنا وتنشئتنا الاجتماعية والثقافية. وكرسته المناهج والمقررات الدراسية من التعليم الأولي إلى الجامعة، و البحوث “العلمية” الجامعية. طرق وأساليب ومناهج، وسياسات في التعليم والاقتصاد والصحة…، لا شيء.. لم نكن في أي مكان، كنا خارج التاريخ البشري الإنساني. لا أسئلة رواد النهضة كانت في النهضة، ولا أحفاد الرواد فكوا الشفرة وكانوا في الميعاد.

لا النضال كان نضالا.. لا الاستقلال كان استقلالا.. لا الحرية والتحرر.. لا التنمية.. لا يمين، لا يسار، لا إسلامويين، ولا علمانيين…، تلاشى كل شيء دفعة واحدة. وسقطت أغلب الأحزاب والإيديولوجيات، و الرؤى والأفكار والمعاني والدلالات…

كم كنا تافهين نرتل الآيات وننفخ في الأفكار دون أن ندرك أننا نموت ببطء داخل خزان الأجداد، أو في صندوق الاستعمار الغاشم.

في الغرفة وحيدا عاجزا غاضبا ساخطا. أمام مكتبته أطال النظر المشوب برغبة التدمير لهذا الرعب الهائل الواقف أمامه بتحد مشحون بالسطوة والقهر. نظر الى مجموعة من الكتاب والمفكرين بقلق وعصبية لا تخلو من وقاحة العتب. كاد يصرخ من صمتهم المريب على رفوف مكتبته التي كان يعتز بها، وبالتضحيات الكبيرة التي بذلها في سبيل إنشاء هذه المكتبة التي جعلها في متناول الأصدقاء مجانا. كان يعتقد أن الجابري، طرابيشي، أركون، حنفي، مروة، مهدي، هابرماس، جيجيك، أرندت، فوكو، سبيلا، جعيط، نيتشه…، يؤسسون لفكر نقدي وتراكم معرفي متحرر من شوكة وتغلب الكولونيالية، بمختلف صورها وأزمنتها.

نظر بحسرة وألم عميق، مشوب بالاحترام والتقدير إلى فانون وجماعته الافريقية، وإلى إدوارد سعيد وأحفاده. وانسحب يجر الخيبة، يكتوي بنارها الحارقة.

لكن الآن يتملكه شعور فظيع بحجم الغباء والبلادة التي جعلته يعتقد بأن نخب الوطن العريض من المحيط الى الخليج، الفكرية والثقافية كانت تقتحم بإرادة مستقلة، ومعرفة متحررة من هيمنة الاستعمار، عوالم الديكولونيالية الحرة.

لم يكن يعرف بأن الإبادة والاستعمار والقهر والاستبداد، هي الوجوه الأخرى للحداثة والديمقراطية. إنها الأشلاء والدماء والمجازر والإبادات التي يقف فوقها الصرح الديمقراطي الحداثي الأوروأمريكي. غلطته نخبته الفكرية، دون قصد منها. هي نفسها كانت تظن أنها تقتحم عالم الحرية. وإذا بها مع همجية  الإبادة التي يمارسها الاستعمار الاستيطاني الصهيوني الإسرائيلي والأوروأمريكي، مجرد نسخ باهتة مشوهة لمعاودة الإنتاج الكولونيالي.

مرعب وصادم هذا الخواء والفراغ الأشبه بالهاوية التي لا يمكن لسردية الاستقلالات، ومشاريع التنمية، وما بعد الكولونيالية… تخطيها وردمها. عندما أعلنت إسرائيل البدء في الإبادة، باركها مفكرو وفلاسفة الحداثة والديمقراطية الغربية. كما دعمتها أنظمتها إعلاميا وعسكريا واقتصاديا وسياسيا، وعبر المؤسسات الدولية عززتها، وأفسحت المجال أمام الصهيونية لتقتل شعبا أعزل، ليس من وراء قناع الحداثة والديمقراطية، بل من خلال وجهها الصريح الكولونيالي الامبريالي، الذي ظل مقنعا بغطاء دول الاستقلال الاستبدادية، التي كانت منبطحة تلعب لعبتها الخبيثة تحت الطاولة والأسرّة.

يتساءل، يسائل نفسه. يفكر ويطيل التفكير في أن خياره الوحيد أن يقاوم. لذلك عليه أن ينزل الركام الهائل من الكتب الذي تحول تحت وقع الضربات الموجعة المفجعة، للكرامة والحرية والتحرر…، الى مجرد أنقاض. لهذا عليه أن ينزل هذه الأنقاض من رفوف مكتبته، ضاحكا ساخرا من نفسه، كيف تورط في فخ البلادة وصرف مالا وعمرا في سبيل “العلم”، والجد والمثابرة…

أية جرأة متهورة، وقلة حياء، في أن يكتب ويصدر كتبا جوفاء، ويصرخ في الناس: “هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ”

«كنا أغبياء وجبناء وكانوا أذكياء وجبابرة. تنازلنا عن حقوقنا طواعية وكانوا أذكياء في أن يضعوا أيديهم على أي شيء ليس له مالك، وهكذا أصبحنا في وضع غير متكافئ، ليس من حيث الملكية، وإنما من حيث معرفة ما لنا وما لهم، والجهل هو دائما الوجه الأخر للعبودية، ولذلك انتهينا إلى الوضع الذي وصلنا إليه!» عبد الرحمن منيف

شارك هذا الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!