لبنان: فرصة لاستعادة سيادة مفقودة

لبنان: فرصة لاستعادة سيادة مفقودة

أحمد مطر

              منذ فترة نهاية الستينات لم تعرف الدَّولة اللبنانيَّة قراراتٍ سياديّة بأهميَّةِ القرارين اللذين اتَّخذتهما الحكومةُ في جلستين منفصلتين، عقدت الأولى في الخامس من أغسطس-آب، تقرَر فيها حصريةِ السلاح في القِوى العسكريةِ والأمنية الرسمية. أما الثانيَة جاءت بعد شهر بالتمام والكمال وضعت قيها القرار موضع التنفيذ، وفق الخطَّة التي أعدتها قيادة الجيش، وعليه أضحى القرار من المُسلَّمات الوطنيَّة إيمانًا من المسؤولين بأن السلاح بحوزة القوى النظامية هو وحده السلاح الذي يحظى بالمَشروعية، لكونه سلاحاً منضبطاً يُستخدمُ وفق النُّصوص الدستوريِة والقانونيِة، وهو الذي يصون الوطن ويحميه من أيِة مَخاطر خارِجية أو داخلية.

أخذ البعض على هذين القرارين كونهما اتخِذا بعد انسحاب الوزراء الممثلين للثنائي الشيعي من كلتا الجلستين، في الواقع إن كان هناك ما يَعيب هذين القرارين، فهو التَّأخير والتَّردد في اتِّخاذهما لسنين طوال وأن الأول لم يأتِ بمُبادرةٍ لبنانيَّة خالصةٍ حرَةٍ ومُستقلَّة، إنما تحت تأثير ضُغوطاتٍ خارجيَّةٍ أميركيَّةِ مباشرة وأخرى إسرائيليَّة غير مباشِرة، بحيث جاء بعد حرب ضروس ما بين العدو الإسرائيلي وحزب لله، هذا الحزب الذي أنشأه النِّظام الثوري الإيراني وعمل على تدريب عناصره وتزويدهم بمُختلف احتياجاتهم العسكريَّة واللوجستيَّة والماليَّة، وقد عمل النظام الإيراني بالتَّنسيقِ مع النِّظام البعثي في سوريا على حصر أعمال مُقاومَةِ الإحتِلالِ الإسرائيلي بحزب لله بشراكة متواضِعة من حركةِ أمل وبعضِ الأحزابِ المحسوبةِ على الِّنظامُ السوري، بعد أن تولَّت القوات السورية العاملة في لبنان وجهاز مُخابراتها مهمَّة تَجريدَ باقي الأحزاب اللبنانيَّةِ من قُدراتِها العَسكريَّةِ وتَصفِيَةِ مًعظَم قادتها.

انتهت المُواجَهَةُ العَسكريَّةُ الأخيرة بنتائجَ عَسكريَّةٍ كارِثيَّةٍ على الحزب، الذي دخل الحرب كجبهة إسناد لحماس، ولكن خسائرها لم تقتصر على شاكلة خسائر المنازلات السابقة أي استِشهادِ بعض المُقاتلين وتدمير بِضعَةِ مواقِعَ عَسكريَّةٍ وتعطيل عدة مرابض مدفعيَّة ومنصات صواريخ، إنما تمكن العدو الإسرائيلي هذه المرة من تَصفيةِ مُعظَمِ القِياداتِ العقائديَّة والعسكريّة الهامَّةِ في الحزب وعطبِ مُعظم مِنصاتِ إطلاق الصواريخِ والقضاء على قادتها وقصف غالبيةِ مَخازنِ الأسلِحَةِ على امتدادِ الجُغرافيا اللبنانية. ورغم إقرار اتفاق لوقفٍ إطلاق النار ما بين لبنان والعدو الإسرائيلي برعايَةٍ أميركيَّةٍ ، فرنسيَّة، إلَّا أن العدو لم يلتزم به فاقتصر الإلتزام على الجانب اللبناني.

إن وسع المراقب من دائرة التطلّعات يجد أن قضية السلاح وتسليمه للدولة في لبنان دخل في بازار الواقع الإقليمي، وإن زيارات المسؤولين الأميركيين على رأسهم المبعوث الخاص للرئيس الأميركي، توم باراك ومساعدته للشؤون اللبنانية مورغان أورتاغوس، قد حسمت موقفها في شأن تسليم السلاح، وذهبت بعيداً في هذا الحسم على اعتبار أن لا ضمانات للبنان من حرب إسرائيل جديدة إن لم يسلّم الحزب السلاح. وأكثر من هذا حمل وزير الحرب الإسرائيلي بتسرائيل كاتس الدولة اللبنانية فشل تنفيذ بنود القرار رقم 1701، هذا يعني أن الحرب المقبلة لن توفر فيها إسرائيل المقرات والمؤسسات والمرافق الحيوية للبنان.

الموقف المتشدّد لواشنطن، يقابله موقفاً خليجياً وعربياً أكثر ليونة ولكنه يطالب أيضاً بتسليم السلاح على اعتبار أن نهوض الدولة لن يكون في ضوء وجود السلاح غير الشرعي. لهذا بات الحزب وبيئته الحاضنة على دراية أن إعادة الإعمار باتت مسألة معقّدة وتحتاج إلى وقت طويل للتنفيذ لو إن هناك دوائر قريبة من الحزب سربت خطته للاعمار على اعتبار إن الحزب رصد لها ميزانية فاقت المليار دولار، لكن هذا يبقى حبر على ورق ما لم يدخل إلى آلية التنفيذ.

من جهة تواجهه الحكومة اللبنانية ضغطاً أميركياً وتمنيات عربية لدرجة الإصرار للوضع جدول زمني لسحب السلاح، مقابل الإفراج عن المساعدات الغربية والعربية التي تصب في خانة بناء الدولة وشطب ديونها الخارجية. لكن الحكومة أيضاً تواجه ضغطاً داخلياً متمثل بالتلويح المستمر من قبل الحزب بسحب وزرائه من الحكومة، وأفقادها الميثاقية، مع الاستعراضات الشبه يومية التي يقودها الحزب تحت عنوان موتوسيكلات الشيعة التي تجوب شوارع الضاحية وبعض المناطق اللبنانية منذرة بإحداث نزاع مسلح قد يفتح من جديد الحرب الأهلية.

لم تكن الزيارة التي قام بها أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي لاريجاني، منتصف آب الماضي إلى بيروت، دبلوماسية رغم أنها التقى فيها المسؤولين الثلاثة في الدولة اللبنانية، ورغم إنه سمع من رئيسي الجمهورية والحكومة تأكيداً لبنانياً على رفض التدخّل في الشأن الداخلي. لكنّ لاريجاني أتى حاملاً ضمانات ليس للدولة، ولا للثنائي الشيعي، بل للحزب تحديداً على إن إيران مستمرة في تأمين الدعم المالي واللوجيستي له في هذه المرحلة كي لا تنقلب البيئة الحاضنة عليه، هي التي أنهكتها الحرب، لدرجة أنك بت تسمع رفضهم لتكرارها. فلاريجاني قبل الزيارة إلى بيروت كان أيضاً في بغداد يحادث الحكومة هناك على ضرورة الابتعاد عن سحب سلاح في هذه المرحلة بحجة العدو الإسرائيلي وأطماعه، لكن أهداف الزيارة كانت واضحة من خلال إعادة بناء الدوائر الدفاعية في المنطقة لديه، لأن ترجيح حرب ثانية مع إسرائيل ارتفعت حظوظها وهذه المرة مصرة إيران على ان لا تخوضها وحيدة بعدما فشلت في ضم كل من روسيا والصين إلى معسكرها في حرب الـ12 يوما مع العدو في يونيو – حزيران الماضي.

نبالغ إن توقفنا عند الخطة التي قدّمها قائد الجيش، رودولف هيكل، والتي وافقت عليها الحكومة مجتمعة بعد انسحاب وزراء الشيعة بأنّها سحب فتيل الحرب رغم أنها حاكت هواجس الحزب من خلال عدم تحديد المدة الزمنية، ونالت رضا أميركياً تمثل في اتخاذ قرار لأول منذ أكثر من 35 عاماً لم تأخذه أي حكومة في لبنان. فالخطة أعطت مساحة إضافية من الوقت بدل عن الضائع، فالحرب حتمية ولكنها مؤجلة بعض الشيء على الأقل إلى ما بعد حرب غزة والنتائج المنتظرة من عربات جدعون 2.   

بعيداً عن لعبة التعقيدات الداخلية والضغوط الخارجية، يدخل سحب السلاح في دائرة الحملات الانتخابية، إذ يتحضر لبنان إلى جولة جديدة من الاستحقاق النيابي، حيث من المفترض أن يحمل ماي – أيار 2026 انتخابات نيابية مصيرية، لإعادة بناء الكتل والتكتلات النيابية داخل أروقة المجلس. فالتصعيد في الموقف يساعد في التعبئة الجماهيرية لكلا الطرفين، إذ يحتاج الحزب إلى تعبئة جماهيرية لبيئته الحاضنة، لهذا يجد في رفع مستوى الخطاب السياسي يغذّي غريزة الوجود والتمسك أكثر بالسلاح الذي عليه أن يواجه به الخطر من الجبهة الجنوبية والشرقية على الحدود مع سوريا.

في الوقت الذي يدفع الحزب مناصريه بعد كل جلسة وزارية إلى الشارع لرفع المعنويات، تجد الأحزاب المسيحية على رأسها حزب القوات اللبنانية والكتائب ترفع مستوى الهجوم على سلاح الحزب لتعزيز الاستثمار في البيئة المسيحية كما السنية في ظل غياب جديّ للزعامة السنية .

تسليم السلاح، خرج من الجدلية الداخلية، ليحمل أبعاداً مختلفة لعناوين هي أبعد من حماية لبنان، إذ يحتاج الحزب إلى اللعب في الوقت بدل عن الضائع في ظل تغييرات أممية حسب قراته بدأت تشهدها الساحة الدولية،.

ختامًا لا يجد الإيراني وخلفه حزب الله أنه في مرحلة عليه تقديم التنازلات رغم النكسات التي لحقت بالمحور بعد السابع من أكتوبر – تشرين الأول عام 2023. لهذا هو يناور الحكومة اللبنانية على أمل أن تتجلّى الصورة لما بعد حرب غزة فوسط حالة الانتظار الذي يعيشه المحور، لن يقدم الحزب على سحب وزرائه من الحكومة، ولن ينجر إلى توتير للساحة الداخلية، بل سينتظر ويرى ما ستؤول إليه التطورات، ولكن هل سيؤمّن الداخل والخارج هذا الوقت.

شارك هذا الموضوع

أحمد مطر

صحفي وكاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!