لحظة الحقيقة: ما لا يريد أن يراه مناصرو التطبيع ووعّاظ الاتفاقات الإبراهيمية!

د. محمد الشرقاوي
أصدق القول ما يأتي لحظة الانفعال، وينطلق من سريرة المرء بكامله وعيه وإرادة عقله. وعلى مرّ الأشهر الإثنين والثلاثين الماضية، ظل رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو يلقي تصريحات من تصميم عقلانيته الباردة، ويتحدى بها أصوات العالم من الشرق والغرب بالتوقف عن قتل الأبرياء وتدمير الشجر والحجر في قطاع غزة.
لكن مستجدات يونيو الساخن وإصابة الرشقات الإيرانية العمق الإسرائيلي، في تل أبيب وحيفا، وضعت نتنياهو في “خانة اليكّ” في أكبر تهديد مباشر للأمن القومي لإسرائيل منذ قيامها على حساب نكبة الفلسطينيين عام 1948.
يجد نتنياهو نفسه اليوم بين المطرقة والسندان، بين استمرار الصواريخ الإيرانية متصاعدة القوة والمفعول وتهافت عدد من الإسرائيليين على المغادرة بطريق البحر أو الجو وأي طريقة أخرى تكلّفهم آلاف الدولارات. والأنكى أنه حتى بداية الشهر الجاري كان يعتقد أنه قضى على حماس وحزب الله وبقية المقاومة في سوريا والعراق، ولم يتبق له إلا الحوثيون في اليمن. واستسهل الأجواء الإيرانية بتكتيكات تفجير بعض المنشئات النووية واغتيال القادة العسكريين وأبرز علماء الفيزياء النووية في طهران.
انقلبت الآية، وأصبحت سماء بعض مدن إسرائيل لا تفرقها أضواء مفرقعات الصواريخ البالستية لليوم السادس على التوالي. وللمرة الأولى، يرتبك نتنياهو في صياغة خطاب عقلاني بنفس التركيبة السابقة.
فيعود إلى تذكير الإسرائيليين بما يعتقد أنه سجل إنجازاته منذ أربعة عشر عاما: وهو خلق الشنآن بين الدول العربية واستفراد إسرائيل بعدد من العواصم بذريعة الاتفاقات الإبراهيمية.
لا يطاول أحد على المغزى الواضح من هذا التصريح لنتنياهو خلال مقابلة تلفزيونية، إذ قال: “عندما أُقيمت دولة إسرائيل، واجهنا عالمًا عربيا موحّدا، لكننا تمكّنا تدريجيا من تفكيك وحدته وتقسيم الصف العربي. ولم أتمكن عام 2011 من دفع الجيش والموساد لشن حرب على إيران. أما هذه المرة، نضم الجميع… حتى الولايات المتحدة.”
قبل أن يهب مناصرو التطبيع إلى نسج تأويلات هلامية لتقليص مدى الحرج عن أنفسهم عند محاولة ترويجهم لسلعة سياسية فاسدة من أصلها، ينبغي التأمل مليّا في هذه العبارة الدامغة: “تمكّنا تدريجيا من تفكيك وحدته..”، وأن فرض الشلل على الحكومات العربية كان تحصيل حاصل، والآن يعتزم إغلاق الدائرة على إيران.
تعالوا نتأمل الجغرافيا السياسية من الخليج إلى المحيط:
1- علاقات إماراتية قطرية لم ولن تعود إلى سابق عهدها وتوافقاتها الخليجية الخليجية؛
2- علاقات سعودية إماراتية تحلّلت من الحلف الأخوي بين بن سلمان وبن زايد؛
3- علاقات مصرية إماراتية كانت متصدعة لوقت طويل، فيما لايزال السيسي يحاول ترميم ما تشقق منها؛
4- علاقات إماراتية جزائرية وصلت دركًا أسفل وتحاملا متبادلا بين الدولتين؛
5 علاقات ليبية جزائرية متدهورة بفعل قلق تبّون من طموحات خليفة حفتر وعدم الاطمئنان لما يطرأ قرب الحدود الليبية الجزائرية جعلت تبّون يعلن قانون “التعبئة الوطنية”؛
6- علاقات جزائرية مغربية تجاوزت ما صنع الحداد بعد القطيعة الدبلوماسية التي فرضتها الجزائر منذ أغسطس 2022، ناهيك عن إغلاق الحدود منذ 31 عاما.
لا نحتاج للاقتباس من نظرية المؤامرة قبل أن يندفع تيار التهجمات والاتهام بالتلوبح بأن هذا النص يختلق أمورًا مخيلة فقط، دعونا نسأل:
* ما الذي شجع الإمارات والسعودية والبحرين ومصر على حصار قطر عام 2017؟
* ما الذي شجع خليفة حفتر على تحدي شتى المبادرات الدولية لنجاح الحوار الليبي وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية؟
* ما الذي أوصل الشرخ السحيق في العلاقات الجزائرية المغربية بما يتجاوز أي أزمة سابقة منذ عام 1962؟
بعض أمثلة على الصراعات العربية العربية دون فطنة واضحة لما يمسك خيوط اللعبة خلف الكواليس.
أتنصتين يأبوظبي.. وهل تسمعين أيتها المنامة.. وهل يصلك الصوت أيتها الخرطوم.. أم أن الرباط مرهفة السمع والفهم معا بما يكفي حتى لا يحتاج أن يرفع صوته عاليا؟
هل تحتاجين أيتها الرياض وأيتها الجارات الخليجيات صوت نتنياهو بالعبري الفصيح ، وبالعربي الفصيح إذا استشرفت أنك ستكونين مرغمة على ركوب القطار الإبراهيمي ذي السرعة الفائقة في المحطات اللاحقة؟!
صدقت.، يا راعي العرب، ومقسّم العرب.. والواقف بحذائه على لحيّ العرب!