لغز ابن خلدون: أنوار مجيد

لغز ابن خلدون: أنوار مجيد

 ترجمة عن الإنجليزية: ابتسام جدير

           راهب متعبد هو المؤرخ والمترجم والمفكر عبد السلام الشدادي، قضى في محراب فكر الفقيه والقاضي وفيلسوف التاريخ، وعالم العمران أربعة عقود لا أبى لك يسأم.

وكذلك قضى الروائي والمفكر أنوار مجيد يفكر في الغرب، والإسلام، والشرق والعرب، والمغرب أربعة عقود أيضا. وها هو مجيد يقرأ كتاب الشدادي الأخير.    

يعدّ العلامة المسلم ابن خلدون (1332-1406) اسما مألوفا في المغرب والعالم الإسلامي، وغالبًا ما يُنسب إليه الفضل في اختراع ما نسميه اليوم “العلوم الاجتماعية”. ومثل العديد من المعالم والأسماء المتناثرة عبر التاريخ الإسلامي، يتم استدعاء ابن خلدون لانتزاع لحظات مجد لشعب يدرك أفراده تمام الإدراك أنهم أصبحوا الآن مجرد مستهلكين للمعرفة والأساليب الغربية. وقد تعرض كتاب “العبر” لابن خلدون للإهمال (مع مقدمته الشهيرة المعروفة باسم “المقدمة”)، الذي كتب على امتداد ربع قرن، ولم يُكتشف إلا في القرنين الماضيين، ومنذ ذلك الحين ولّد مكتبة حقيقية من الأبحاث، ولكن لا أحد يجرؤ ويقترب من تكريس حياته بأكملها لهذا الفقيه الغريب الأطوار والقاضي الجريء فكريًا مثل العالم المغربي عبد السلام الشدادي.

يُتوّج كتاب الشدادي الصادر حديثًا تحت عنوان “العالم حتى عام 1400  وفقًا لابن خلدون: تاريخ عالمي للبشرية” ، كما يذكر في إهدائه، “أكثر من أربعين عامًا من البحث”، هو نوع أدبي بحد ذاته، يجمع بين نظرة عامة دقيقة على عمل ابن خلدون ومحاولة نظرية لإنقاذ موضوعه من النقاط العمياء للتاريخ الغربي.

إن ظهور أوروبا على المسرح العالمي في القرن السادس عشر، وسعيها الدؤوب للسيطرة على بقية العالم، ولّد مجموعة من القيم جعلت من المستحيل على المؤرخين الغربيين قراءة العالم المتنوع ثقافياً الذي سبق وجود عالم أوروبا هذه (العصر المجزأ، بكل أممه المختلفة، أو “الوحدات المكانية والزمنية ذات الصلة”، بحسب العبارات التي يوظفها الشدادي، وهو العصر الذي يمتد من العصر الحجري الحديث إلى القرن السادس عشر أو العصر العالمي). وبسبب تأثرهم بالمواقف المهيمنة لدولهم، لم يتمكن كتاب الغرب من الوصول إلى روح العصر المجزأ، حتى عندما ادعوا كتابة تواريخ عالمية، ناهيك عن استيعاب عالم ابن خلدون، الذي كان موطنه المعروف بدار الإسلام المترامية الأطراف.

 وبصفته فقيهًا متدينًا يولي اهتمامًا وثيقًا بالأقطاب المختلفة للعالم الإسلامي، سلّط ابن خلدون نظره على أعمال الأمم، وليس على حياة القادة والسلالات، وهو نهج قد يكوّن الجزء الأكثر أصالة في عمله كما يخبرنا الشدادي بذلك.

 ومن خلال اتخاذ الأمة كوحدة رئيسية للدراسة، تمكن ابن خلدون من الجمع بين ما قد نسميه اليوم الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، مع إيلاء اهتمام جد وثيق لعلاقات القوة، وذلك لأن القوة لا غنى عنها للحفاظ على الحياة المتحضرة في المدن وكذلك للسيطرة على المناطق الريفية المحيطة بها، حيث تتم العناية بالزراعة عادة. وعلاوة على ذلك، لا يضفي ابن خلدون طابعا رومانسيا على الطبيعة البشرية: وباعتبار البشر كائنات اجتماعية، هم، بحسب التعريفات المتداولة، كائنات سياسية.

 يستعير ابن خلدون بعض المضامين من روايات الخلق في كل من التوراة والقرآن لصياغة تاريخه. فآدم هو أول إنسان، وبحكم التعريف، لا بد من القول إنه كان مزارعًا، إذ لا يمكن أن يقوم للإنسانية وجود بدون زراعة. كان آدم وذريته تجربة فاشلة في تاريخ الإنسانية، وبالتالي غرقت الذرية في غياهب النسيان. أما نوح فقد نجا وأنقذ ما استطاع على متن فلكه الخشبي ومنح البشرية بداية جديدة بأن جعل أبناءه الثلاثة ينشئون أممًا (أعراقًا) جديدة في أركان العالم الأربعة المعروفة (لم يكن الصينيون، ناهيك عن الأمريكيين، ضمن خطة الله). وقد اعتمد أو اعتنق ابن خلدون شكلاً من الحتمية الجغرافية وقسم العالم إلى سبع مناطق مناخية، وكان مقتنعاً بأن الحضارة سمة من سمات المناطق المعتدلة، مع اعتبار العراق وسوريا موقعين رئيسيين ضمن المواقع الحضارية. ولذلك فإن الأشخاص الذين يتم إبعادهم من هذه المناطق، مثل الأفارقة من جنوب الصحراء الكبرى، هم “أقرب إلى الحيوانات الصامتة أو الصماء من الكائنات العاقلة” و”لا يمكن اعتبارهم بشرًا”. ومما يدين هؤلاء الأشخاص التعساء بنفس القدر أنهم “لم يعرفوا ديناً منزَّلاً”. ومع ذلك، كان ابن خلدون أكثر لطفا بعض الشيء تجاه المجوس، الذين لم يكن لديهم “كتاب منزل” وكانوا يشكلون “غالبية سكان العالم”، لكنهم تمكنوا مع ذلك من أن التمتع بمظهر من مظاهر الحياة المتحضرة. ويعتبر ابن خلدون عالم الغيب أمرا مسلّما به، على الرغم من أن الشدادي يخبرنا أنه كان “محرجا ومترددا للغاية في هذه المسألة”. تُقدم النبوة لـ “عدد محدود من الرجال الذين يختارهم الله ولا يوجد هؤلاء إلا بين بعض الشعوب فقط”.

لا يستطيع ابن خلدون أن يتصور الحضارة بدون ملك أو رجل قوي، على الرغم من أنه يحذر من تدخل الدولة في الاقتصاد ومن الآثار المدمرة التي تحدثها الضرائب المفروضة المبالغ فيها. وإذا كانت ثقافة الرفاهية أو الترف إحدى سمات الحضارة، فإن مثل هذه الإجراءات القمعية لا مفر منها للحفاظ على نمط الحياة هذا، والتي تنذر بدورها، على نحو متناقض، بتدهور أوضاع الدولة ونهاية وجودها لأنها تثبط نشاط التجارة الخاصة وتقلص قاعدة الضرائب المشروعة.

إن فرض الضرائب على المزارعين الكادحين والتجار الذين يخوضون المغامرة والحرفيين يحرم البلد من الأموال اللازمة للحفاظ على سيادة الحاكم/الملك ونخبه، بما في ذلك البيروقراطيين الذين يشتغلون مقابل رواتب (“أصحاب أو ذوو الريش”) في السلطة. إن أفضل طريقة لتأخير (وليس تجنب) ما لا مفر منه أو ما هو حتمي هي اتباع سياسة اللطف والعدل، في ارتباطها الوثيق بالفضيلة.

عندما تنهار حضارة ما، ينهار معها صرحها الثقافي، حيث يتم تمويل التعليم والبحث العلمي، وتنمية الفنون في المناطق الحضرية.  وفي هذا الصدد، يذكر ابن خلدون القراء بأن معظم أوائل علماء الإسلام المبكر كانوا من غير العرب، حيث لم يكن البدو العرب، بتقاليدهم أو تراثهم الشفهي، يتمتعون بإمكانية الوصول إلى هذه الفنون. وربما هي إشارة من ابن خلدون إلى أن المسلمين في حالة تدهور أو انحطاط، إذ يشير إلى أن العلوم تزدهر مرة أخرى في بلاد الفرنجة ومنطقة روما. وعلى أي حال، يرى ابن خلدون أن المغرب هو الجزء الأضعف من مناطق العالم الإسلامي من حيث الحضارات الراسخة؛ بينما توجد إسبانيا ومصر والشرق الأوسط في وضع أقوى.

يُذكّرنا الكاتب مرارًا وتكرارًا بأن رواية ابن خلدون تقوم على مركزية عرقية لا مفر منها، حيث اعتمد، كما فعل، على ما يعرفه عن الإسلام وأممه. ونلاحظ أيضًا كيف أعمته عقيدته/إيمانه بصيرته بشكل مريح، فحكم على الأفارقة بأن وضعهم دون وضع البشر وتجاهل الأمم الكبرى التي كانت تجاور وتحيط بدار الإسلام. ولكن كيف يمكنه أن يتجاهل الصين، خاصة عند الحديث عن استخدام الورق في صناعة الكتب؟ والورق اختراع صيني انتقل إلى العالم الإسلامي بعد غزو أو فتح آسيا الوسطى. وينطبق الشيء نفسه على إيمانه الراسخ بحقيقة الإسلام المطلقة. كان هناك العديد من المفكرين الأحرار خلال العصر العباسي، والذين عرفوا بالزنادقة (الملحدين)، ومن بينهم الطبيب الشهير الرازي، الذي شكّك في الوحي والنبوة. إن تجاهل أو تحريف الأمم خارج أفق المرء الطبيعي هو شكل مفهوم من أشكال المركزية العرقية، لكن التغاضي عن جوانب من تاريخ المرء هو تحيز أيديولوجي، وهو تحيز لا يليق بالعلماء، كما سيشهد ابن خلدون نفسه.

إن التوليف أو التركيب النقدي الذي قدمه الشدادي لعمل ابن خلدون في سياق التاريخ العالمي يتضمن الكثير مما لا يمكن التقاطه أو اختصاره في مراجعة موجزة مثل هذه.

(هذه مراجعة لكتاب العالم حتى عام 1400 وفقًا لابن خلدون) وليست مراجعة لعمل ابن خلدون الضخم). وتسمح له تحليلات الشدادي الدقيقة لأعمال هذا العالم تسمح له بمناقشة الافتراضات السائدة لدى المؤرخين المعاصرين، بمن فيهم أولئك الذين يدَّعُون أنهم يكتبون التاريخ العالمي. لكن الشدادي لا ييأس من هذا بذل الجهد النظري الذي يستحق الثناء.  قد يكون الانخراط في مثل هذا التاريخ ضروريًا، الآن بعد أن تحللت وحدات التعليم العالي والبحث العلمي إلى مجتمع عالمي غير متبلور وغامض مرتبط ببعضه البعض بسلاسل أو قيود الرأسمالية، بشرط أن نفترض أن الإنسان هو “بناء” وأن مثل هذا التاريخ يأخذ في الاعتبار ألوان “الاستمرار والانقطاعات” في التاريخ.

شارك هذا الموضوع

ابتسام جدير

مترجمة وأديبة مغربية- طنجة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!