لماذا تحوّلت الصداقة الطويلة بين إيران وإسرائيل إلى عداء شرس يهدد بحرب كبرى؟

لماذا تحوّلت الصداقة الطويلة بين إيران وإسرائيل إلى عداء شرس يهدد بحرب كبرى؟

د. زياد منصور

         من الصداقة إلى العداء: لمحة تاريخية

قبل الثورة الإسلامية عام 1979، كانت إيران تحت حكم الشاه من أقرب حلفاء إسرائيل في المنطقة. كان هناك تبادل اقتصادي مزدهر، ثم تعاون استخباراتي عبر “الموساد” و”السافاك”، إضافة إلى تنسيق سري في مجالات النفط والسلاح، ورغم أن الدولتين لم تعلنا علاقات دبلوماسية رسمية، فإن العلاقة كانت استراتيجية من الطراز الأول.

فعليًّا انهار كل شيء مع وصول آية الله الخميني إلى السلطة، الذي وصف إسرائيل منذ اليوم الأول بأنها “شيطان صغير” إلى جانب “الشيطان الأكبر” (الولايات المتحدة). منذ ذلك الحين، أصبحت فلسطين قضية محورية في الخطاب الإيراني، وتحولت إسرائيل إلى العدو العقائدي الأول.

ما وراء العداء: لماذا تصاعد حتى أصبح وجوديًا؟

هناك جملة من الأسباب من بينها التنافس الإقليمي، فإيران تسعى لفرض نفسها كقوة كبرى في الشرق الأوسط بعد 2003، عبر تحالفات تمتد من طهران إلى بيروت (ما يُعرف بمحور المقاومة). من جهتها ترى إسرائيل في ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، خصوصًا عبر حزب الله في لبنان، و”الجهاد الإسلامي” و”حماس” في غزة، المدعومين من طهران، والحوثي في اليمن وبعض الفصائل في العراق.

هناك أيضًا الملف النووي الإيراني، فإسرائيل تعتبر امتلاك إيران للسلاح النووي خطًا أحمر وجوديًا، بينما تؤكد طهران أنها لا تسعى إلى قنبلة نووية، لكنها تحتفظ بـ”القدرة” عليها كورقة ضغط.

على هذا الأساس كان هناك هجمات متبادلة في الظل، ثم تطورت بأن شنَّت إسرائيل غارات على مواقع إيرانية في سوريا، متهمة طهران بتدبير هجمات سيبرانية (واختراقات عبر وكلاء)، بينما إيران تتهم إسرائيل باغتيال علمائها النوويين، وأبرزهم محسن فخري زاده. 

ولا شك أن العامل المؤثر في كل ذلك، هو التحالفات الجديدة في المنطقة بعد “اتفاقيات أبراهام”، والتي أدت إلى تقارب إسرائيل مع دول خليجية مثل الإمارات والبحرين، ما زاد من عزل إيران إقليميًا، فطهران تعتبر هذه التحالفات هي عبارة عن محور يتشكَّل لتطويقها. 

الوجهة القادمة: حرب إقليمية؟

مع تزايد التصعيد، من خلال التهديدات المباشرة من إيران بالرد على أي هجوم جديد، والمناورات الإسرائيلية على سيناريوهات ضرب منشآت نووية، وتصاعد التوتر في غزة ولبنان وسوريا والعراق واليمن (حيث تعمل وكلاء إيران)،كل هذه العوامل تجعل المواجهة الشاملة الثانية بين إيران وإسرائيل أكثر احتمالًا من أي وقت مضى — سواء بشكل مباشر أو عبر وكلاء.

من الصداقة إلى “حرب وجود”

هكذا تحوّلت العلاقة من تحالف استراتيجي خلال حقبة الشاه، إلى عداء عقائدي وعسكري يهدد بإشعال حرب شاملة في الشرق الأوسط. في هذه المعادلة المعقدة، يختلط الدين بالسياسة، والأمن بالعقيدة، والدم بالنفوذ. فهل يبقى “عدو عدوي صديقي” قاعدة قائمة؟ أم أنها مجرد حكمة لحظوية تنهار مع تغيّر المصالح؟

ولكن أصبح الصدام الواسع بين إسرائيل وإيران واقعًا فعليًا.

 لكن هناك بعض القضايا التي لا بد من التوقف عندها. فعلى الرغم من أن النظام الإسلامي في إيران أعلن الدولة اليهودية عدوًا وجوديًا منذ أواخر السبعينيات، فقد تمكّنت الدولتان من تجنّب الصراع المباشر لفترة طويلة. 

لكن تاريخ العلاقات الإيرانية الإسرائيلية لا يقتصر على العداء في العقود الأخيرة: فاليهود سكنوا أراضي إيران المعاصرة منذ عهد قورش الكبير، ملك الإمبراطورية الأخمينية.

وعلى الرغم من تراجع عدد السكان اليهود مع مرور الزمن، إلا أن دولة الشاهنشاه الإيرانية في سبعينيات القرن العشرين كانت تُعد من أقرب حلفاء إسرائيل.

المفارقة أن قادة إسرائيل بعد الثورة الإسلامية وصفوا النظام الجديد في طهران في بادئ الأمر بأنه “أفضل صديق لهم”. فما الذي جعل إيران وإسرائيل تتعاونان بشكل وثيق في الماضي؟ وكيف نفّذت الدولتان مشاريع اقتصادية وعسكرية مشتركة؟ ولماذا تحوّل هذا التعاون في لحظة إلى عداوة شرسة؟

بين النازيين والصهاينة: صعود أسرة بهلوي في إيران

كان وصول أسرة بهلوي إلى الحكم في فارس (إيران) عام 1925 بداية فترة من التحسّن النسبي في معاملة الطائفة اليهودية. ففي ظل الحكم الجديد، أُلغيت نهائيًا القوانين التمييزية ضد اليهود، وجرى دمج المدارس اليهودية في النظام التعليمي الرسمي للدولة.

لكن في الوقت ذاته، كانت الأيديولوجيا الصهيونية – أي فكرة إحياء الدولة اليهودية في فلسطين – تُقابل من قبل السلطات الفارسية بعداء، كما كان الحال مع الشيوعية أيضًا. فالسلطة كانت تنظر إلى الحركتين كتهديدات أيديولوجية محتملة لأمن البلاد واستقرارها.

ومن أبرز الشخصيات اليهودية في تلك الفترة كان شموئيل حاييم، أحد قادة الصهيونية في إيران، وزعيم الطائفة اليهودية، وعضوًا في مجلس الشورى (المجلس النيابي الإيراني). إلا أن شموئيل حاييم اعتُقل لاحقًا بتهمة التجسس لصالح بريطانيا، وتم إعدامه رميًا بالرصاص.

ويعود هذا الموقف المتقلّب تجاه اليهود جزئيًا إلى تعاون إيران الشاهنشاهية مع ألمانيا النازية خلال ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. فقد اعتنق بعض المثقفين الإيرانيين أفكار النازية حول تفوّق العِرق الآري، وهو ما استخدموه لتبرير نظرتهم الدونية لليهود والعرب على حدّ سواء. وهكذا، كانت العلاقة مع اليهود في إيران محكومة بمزيج من الليبرالية الشكلية، والخوف السياسي، والتأثر الأيديولوجي بالتيارات الأوروبية العنصرية في تلك الحقبة.

“شندلر الإيراني”: بين ماضٍ متناقض وإنسانية مشرقة

رغم التناقضات السياسية خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، لم يشارك الإيرانيون في جرائم الهولوكوست. على العكس، خلال الحرب العالمية الثانية، ساهم بعض الدبلوماسيين الإيرانيين في إنقاذ يهود من أوروبا النازية. وكان من أبرز هؤلاء عبد الحسين سرداري، القنصل الإيراني في باريس، الذي يُلقّب أحيانًا بـ”شندلر الإيراني”.

نجح سرداري في إنقاذ قرابة ألفي يهودي، بينهم العديد من غير المواطنين الإيرانيين، من الترحيل والموت المحتوم.

وصرح سرداري، بأن “إنقاذ جميع الإيرانيين، بمن فيهم اليهود، كان واجبي.”

قيام دولة إسرائيل

بعد الحرب، شاركت إيران في لجنة الأمم المتحدة لتقييم الوضع في فلسطين، وكانت من قلّة من الدول التي عارضت خطة التقسيم إلى دولتين، وصوّتت لصالح خطة الفيدرالية بدلًا من ذلك. وعليه، أدانت إيران إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948، ورفضت انضمامها إلى الأمم المتحدة.

خلال حرب الاستقلال الإسرائيلية (1947–1949)، وقفت إيران في الصف المعادي لإسرائيل، لكنها قدّمت دعمًا ماديًا فقط للدول العربية. كما لم تعرقل السلطات الإيرانية سفر المتطوعين المسلمين للقتال، ممن جرى تجنيدهم بدعوة من المرجع الشيعي آية الله أبو القاسم الكاشاني، وهو مرجع ديني شيعي وسياسي إيراني بارز، يُعدّ أحد الشخصيات المؤثرة في تاريخ إيران الحديث، وخاصة في النصف الأول من القرن العشرين. جمع بين النشاط الديني والسياسي، ولعب دورًا بارزًا في الحركة الوطنية ضد النفوذ البريطاني، ثم في السياسة الإيرانية بعد الحرب العالمية الثانية. كان من أبرز الداعمين لحركة تأميم النفط الإيراني بقيادة الدكتور محمد مصدق في أوائل الخمسينيات. كما لعب دورًا مركزيًا في تعبئة الجماهير ضد شركة النفط البريطانية’، وشغل منصب رئيس البرلمان الإيراني (مجلس الشورى) لفترة قصيرة، وكان له تأثير مباشر على الحياة السياسية.

تصاعد العداء وخروج اليهود

أدّت الفوضى وأعمال العنف التي شهدتها الدول العربية إثر قيام إسرائيل وانتصارها العسكري إلى تصاعد المشاعر المعادية لليهود داخل إيران. ونتيجة لذلك، اضطر كثيرون من أبناء الطائفة اليهودية إلى مغادرة البلاد. وفي عام 1948، كان يعيش في إيران نحو 150 ألف يهودي فارسي.

بدء الاتصالات السرية

مع تحوّل إسرائيل إلى أمر واقع، بدأت السلطات الإيرانية تفكر في إقامة علاقات معها، خاصة عبر الولايات المتحدة ومن خلال قنوات الأمم المتحدة. وكان الاعتراف الرسمي لإسرائيل من قبل تركيا، الدولة المسلمة الأولى التي قامت بذلك، دافعًا مشجّعًا لإيران على اتخاذ خطوات مماثلة دون القلق من تداعيات على مكانتها في العالم الإسلامي.

ففي شهر آذار من عام 1950، اعترفت إيران بإسرائيل اعترافًا فعليًا (de facto)، أي دون إعلان رسمي كامل. وقد تم ذلك في فترة عطلة رأس السنة الإيرانية (عيد النوروز)، لتجنّب الجدل السياسي في البرلمان. ومن الجدير بالذكر أن هناك روايات غير مؤكدة تفيد بأن الاعتراف تمّ بعد دفع رشاوى ضخمة لمسؤولين إيرانيين، وصلت قيمتها إلى 400 ألف دولار أمريكي.

لماذا أصبح إيران وإسرائيل حليفين؟ العدو المشترك – القومية العربية:

بعد الانقلاب في مصر عام 1952 ووصول جمال عبد الناصر إلى السلطة، انتشرت فكرة الوحدة العربية والتحولات الاشتراكية في الشرق الأوسط، وكانت هذه الأفكار معادية لكل من إسرائيل وإيران الشاهنشاهية. وقد تبنى البعثيون في سوريا والعراق نهجًا عدائيًا تجاه الملكيات التقليدية والدولة اليهودية على حد سواء.

الخوف من الاتحاد السوفيتي:

رأت كل من إيران (في عهد الشاه محمد رضا بهلوي) وإسرائيل أن تنامي النفوذ السوفيتي في المنطقة يشكل تهديدًا مباشرًا. لهذا السبب، تقاربت الدولتان مع المعسكر الغربي، وانضمت إيران إلى حلف بغداد الذي تأسس عام 1955 بمبادرة من بريطانيا والولايات المتحدة وتركيا، واستمر حتى عام 1979.

على هذا الساس نشأ تعاون عسكري خلال الحروب العربية الإسرائيلية. فأثناء حرب الأيام الستة عام 1967، واصلت إيران تزويد إسرائيل بالنفط رغم احتجاجات الدول العربية. ووفي حرب يوم الغفران عام 1973، زوّدت إيران جيش الدفاع الإسرائيلي بـ 25 طائرة من طراز “فانتوم”، في موقف غير مسبوق من دولة ذات أغلبية مسلمة.

العداء المشترك للنظام البعثي في العراق:

عدو مشترك آخر جمع بين إيران وإسرائيل هو نظام صدام حسين، حيث تعاون الطرفان لدعم الانفصاليين الأكراد وإنشاء جهاز استخبارات خاص بهم لمواجهة السلطة المركزية في بغداد. كما نسج البلدان علاقات اقتصادية متينة، إذ طورت إيران وإسرائيل علاقات تجارية متينة ومربحة للطرفين، فكانت إيران تصدر المنتجات الزراعية والنفط إلى إسرائيل. في المقابل، حصلت على منتجات صناعية، ومعدات طبية، ومساعدات تقنية من الجانب الإسرائيلي، وأصبح ميناء إيلات الإسرائيلي نقطة عبور رئيسية لصادرات إيران من النفط إلى أوروبا.

وكان من أبرز المشاريع المشتركة: إنشاء مركز إسرائيلي للإنجازات الطبية والصيدلانية قرب طهران؛ مدّ أنبوب النفط إيلات – أشكلون على الأراضي الإسرائيلية كبديل عن قناة السويس؛ وقيام شركة Rassco الإسرائيلية ببناء أكثر من 12 ألف منشأة سكنية وبنى تحتية في موانئ إيرانية مثل بندر عباس وبوشهر.

قبل سقوط الشاه: علاقة إسرائيل بإيران في أوجها

عشية الإطاحة بالشاه محمد رضا بهلوي، تجاوز حجم الصادرات الإسرائيلية إلى إيران 100 مليون دولار — أي أكثر مما كانت تصدّره إسرائيل إلى تركيا واليابان. والمفارقة أن إسرائيل كانت مدينة للحكومة الإيرانية بمبلغ قدره مليار دولار.

العصر الذهبي ليهود إيران

كان هذا العصر أيضًا الأكثر ازدهارًا للجالية اليهودية في إيران. ورغم أن اليهود لم يشكّلوا سوى نسبة ضئيلة من سكان البلاد، إلا أنه في عام 1979: كان اثنان من أصل 18 عضوًا في الأكاديمية الإيرانية للعلوم من اليهود، و80 من بين 4000 أستاذ جامعي، و600 من أصل 10 آلاف طبيب في البلاد يهودًا.

علاقات استخباراتية… سرية للغاية

ما هو أكثر إثارة للاهتمام هو التعاون الأمني بين البلدين. فإيران قامت بتمويل تطوير عدة نظم تسليحية إسرائيلية، بما في ذلك مشروع المقاتلة “آريه” (لاحقًا: لافي). كما تم تنفيذ مشروع Flower بشكل مشترك لتطوير صواريخ مضادة للسفن.

وبحسب بعض المصادر، ساعدت إسرائيل بشكل نشط النظام الملكي الإيراني في تطوير برنامجه النووي، الذي كان موجّهًا بالأساس ضد الأنظمة العربية.

كما نشأت علاقات وثيقة بين أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية وجهاز “السافاك” الإيراني (جهاز أمن الدولة)، المعروف بسجله السيء لدى الشعب الإيراني. 

“علاقة حب دون عقد زواج”

ورغم هذا التعاون الواسع، فقد بقيت العلاقات بين البلدين غير رسمية. فالشاه لم يرغب بإفساد علاقاته مع الدول العربية، بل سعى لتقديم نفسه كزعيم إقليمي. كما أنه كان يعلم أن غالبية الإيرانيين ينظرون إلى اليهود نظرة سلبية.

ولتجنّب الفضيحة، كان المسؤولون الإيرانيون يزورون إسرائيل عبر تركيا، دون ختم جوازات سفرهم. وسُجِّل موظفو البعثة الإيرانية في إسرائيل على أنهم في سويسرا. بل إن إيران لم تدعُ إسرائيل لحضور احتفالات الذكرى الـ2500 لتأسيس الإمبراطورية الفارسية عام 1971، خوفًا من مقاطعة الدول العربية.

هذا النمط من العلاقة، الذي وُصف حينها بأنه “حب دون عقد زواج”، كان يزعج إسرائيل. ومع ذلك، كانت تل أبيب تدرك أن الشاه، برغم الانتقادات العلنية، أفضل بكثير من القوى المعارضة له.

وكان الشاه يضطر أحيانًا إلى إدانة أفعال إسرائيل في فلسطين أمام الإعلام العربي، أو يلمّح إلى قرب حدوث تغيير في سياسته تجاهها. “ربما نحن مسرورون لأن إسرائيل تُوقف العرب عند حدهم، لكننا أدنّا مرارًا احتلالها للأراضي العربية”  يُنسب هذا القول إلى الشاه محمد رضا بهلوي.

“كل المصائب من إسرائيل”؟

“كل مصائبنا من إسرائيل”– الثورة الإيرانية والعداء الرسمي.. حتى في عهد الشاه، كان الخطاب المعادي لإسرائيل حاضرًا بقوة في الأوساط الدينية الشيعية. فقد تحدث زعيمهم، آية الله الخميني، عن محاولات إسرائيل السيطرة على اقتصاد إيران ونهب ثرواتها، وكان يُحمّل عملاءها «الشيطانيين» مسؤولية كل مشاكل البلاد. “إن جميع مصائبنا الحالية تنبع من إسرائيل” وفق ما أعلن عنه روح الله الموسوي الخميني المرجع الديني الأعلى وقائد الثورة الإسلامية 1979 في إيران

قطع العلاقات مع إسرائيل

بعد الثورة الإسلامية عام 1979، أصبحت هذه الخطابات السياسة الرسمية للنظام الجديد، وأدت إلى إجراءات عملية، ومنها: قطع جميع العلاقات الرسمية مع إسرائيل؛ إلغاء التعاون في المشاريع المشتركة. تمَّ تدمير مبنى الممثلية الإسرائيلية في طهران، والذي سُلم لاحقًا إلى منظمة التحرير الفلسطينية. وجرت عملية اضطهاد للجالية اليهودية في إيران، إذ أُعدم بعض قادتهم بتهم التعاون مع إسرائيل، أو «مولاة أعداء الله»، أو “شنّ حرب ضد الله”. تمت مصادرة ممتلكات يهودية تُقدّر اليوم بحوالي مليار دولار، وفقد اليهود تمثيلهم في البرلمان (المجلس)، وتقلّص عددهم من حوالي 100 ألف إلى 30 ألف فقط خلال سنوات قليلة.

تقارب براغماتي… رغم العداء

رغم هذه القطيعة الظاهرية، لم تُبادر الجمهورية الإسلامية في بداياتها إلى مواجهة إسرائيل دوليًا أو التدخل في الصراع الفلسطيني. فعلى سبيل المثال: في حرب لبنان 1982، منع الخميني شخصيًا إرسال عشرات الآلاف من المتطوعين. من جانبها، إسرائيل أيضًا لم تغلق الباب تمامًا: في عام 1979، اعترفت إسرائيل بالنظام الإيراني الجديد.، واستمرت الاتصالات بين الطرفين بشأن هجرة اليهود من إيران.

 وكانت القيادة الإسرائيلية تعتبر الإسلاميين أهون شرًا من الأنظمة العربية، ولذلك استمر رئيس الوزراء إسحاق رابين في اعتبار إيران “أفضل أصدقاء إسرائيل”. 

العدو المشترك يوحّد من جديد: حرب الخليج الأولى

وسرعان ما وحّد البلدين عدو مشترك جديد: نظام صدام حسين في العراق. فخلال الحرب الإيرانية-العراقية (1980–1988)، قُدّرت قيمة الأسلحة التي زوّدت بها إسرائيل إيران بنحو 3 مليارات دولار. وتمت الصفقات عبر وسطاء كما في الماضي.

شاركت المخابرات الإسرائيلية في تزويد إيران بأسلحة أمريكية، رغم الحظر الأمريكي المفروض حينها.، وصرح إسحاق رابين رئيس وزراء إسرائيل في حينه: “علينا محاولة بناء قنوات تواصل حتى مع أعدائنا”

بداية المواجهة المباشرة: من التسعينات إلى اليوم

في التسعينيات، أصبح العداء الإيراني لإسرائيل أكثر حدة، مع تنامي دعم طهران لحزب الله في لبنان. خلال حرب لبنان الثانية عام 2006، قدم الحرس الثوري الإيراني دعمًا مباشرًا له. في الوقت عينه، بدأت إيران تقوية علاقاتها مع حركة حماس السنيّة في فلسطين.

مشروع نووي وصواريخ “شهاب”

في هذا السياق، أدّت عدة تطورات إلى قلب العلاقات تمامًا نحو العداء التام، وذلك مع بدء إيران تطوير أسلحة نووية، وتجربة صاروخ “شهاب-3” الباليستي القادر على ضرب الأراضي الإسرائيلية. بهذا أصبحت “إيران أصبحت العدو رقم واحد لإسرائيل”.

في المقابل، أطلق المرشد الأعلى علي خامنئي تصريحات أكثر تطرفًا، إذ وصف إسرائيل بأنها «ورم سرطاني في جسد الشرق الأوسط» يجب استئصاله بـ الجهاد. وأصبحت المصطلحات مثل «الكيان الصهيوني» و«النظام الصهيوني» هي المستخدمة رسميًا. وتردّدت في الفعاليات العامة شعارات مثل “الموت لإسرائيل” بشكل دائم.

“مركز إنكار الهولوكوست”: تصعيد جديد في العداء

أدى وصول الرئيس الإيراني المحافظ محمود أحمدي نجاد إلى السلطة عام 2005 إلى تصاعد التوترات مع إسرائيل بشكل أكبر. فقد تحولت الجمهورية الإسلامية إلى مركز عالمي لإنكار الهولوكوست، إذ وصفه أحمدي نجاد بأنه أسطورة اختلقها الإعلام الصهيوني. “لقد اخترع الأوروبيون أسطورة المذابح الجماعية لليهود، ورفعوها فوق الله، وفوق الدين، وفوق الأنبياء”، هذا ما صرَّح به محمود أحمدي نجاد، رئيس إيران. وبحسب رأيه، حتى لو حصلت اضطهادات ضد اليهود خلال الحرب العالمية الثانية، فإن المسؤولية تقع على عاتق الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وبالتالي، فإن الدولة اليهودية — حسب رأيه — يجب أن تُقام هناك، لا في فلسطين.

كما دعمت السلطات الإيرانية في عهده نشر “بروتوكولات حكماء صهيون”، وهو نص تعتبره إسرائيل نصًّا مزورًّا ومعادٍ للسامية، يدّعي من وجهة نظر إسرائيلية أنه يكشف عن خطط لليهود للسيطرة على العالم.

صراع مستمر: القضية الفلسطينية والعداء المتجذر

أصبحت الخلافات بين إيران وإسرائيل، إلى جانب القضية الفلسطينية، من “المشاكل المزمنة” في الشرق الأوسط. حتى أكثر السياسيين الإيرانيين اعتدالًا، الذين ميزوا بين «اليهود الجيدين» و«الصهاينة السيئين»، كانوا ينتقدون سياسات إسرائيل باستمرار. “ليست لدينا مشكلة مع اليهود، لكننا نعارض الصهيونية، لأنها شكل من أشكال الفاشية”. هذا ما قاله — محمد خاتمي، رئيس إيران الأسبق، ويُعد من التيار الإصلاحي. ومع ذلك، وعلى مدى عقود، تجنّب الطرفان الدخول في مواجهة عسكرية مباشرة.

رغم ذلك يعتقد بعض الخبراء، “أنه ورغم هذا العداء، فإنه كان بمقدور البلدين والنظامين، أي النظام الإسلامي نفسه، والنظام في إسرائيل قادرين على إقامة علاقات براغماتية، حين تقتضي الضرورة الاستراتيجية ذلك. ويستند هؤلاء إلى التاريخ معتقدين، أنه لم يكن من الضروري إعادة النظر في العقيدة الإيرانية كي تبني الجمهورية الإسلامية علاقات عملية مع إسرائيل. فحتى إعلان إسرائيل كعدو وجودي لم يمنع إيران من التعاون معها سابقًا”.

يعتقد هؤلاء إلى أنَّ الرغبة في تفادي تصعيد الصراع كانت أحد العوامل المهمة التي أخرت نشوب حرب مباشرة. ذلك أنَّ الولايات المتحدة، الحليف الرئيسي لإسرائيل، لم تكن مستعدة لدعم هجوم واسع ضد إيران، بينما كانت إيران تسعى لتكريس موقعها كلاعب إقليمي منتظم، لا طرف فوضوي. وأغلب القوى الإقليمية رأت في انهيار النظام الإسلامي كارثة تؤدي إلى مزيد من الفوضى في الشرق الأوسط.

 البرنامج النووي: سبب دائم للتصعيد

رغم ذلك، بقي البرنامج النووي الإيراني مصدرًا رئيسيًا للتوتر. فخشية حصول إيران على أسلحة دمار شامل دفعت إسرائيل إلى تنفيذ ضربات على منشآت نووية وعسكرية إيرانية. في عام 2020، نفذ الموساد عملية اغتيال للعالم محسن فخري زاده، الذي كان يُعتقد أنه قائد البرنامج النووي العسكري الإيراني. وتحوّل هذا الملف لاحقًا إلى مسبب رئيسي لانطلاق عمليات عسكرية إسرائيلية كبيرة.

في ظل الوضع الحالي، يصعب الحديث عن مصالحة قريبة بين إيران وإسرائيل. إن أي تغيير محتمل في السلطة داخل إيران لن يغيّر الموقف الجذري من إسرائيل، حيث إن البدائل المتاحة اليوم هي فصائل من نفس الطبقة السياسية المعادية لإسرائيل. وبالتالي فإن كل ما تقوم به إسرائيل اليوم يُستقبل في الداخل الإيراني بعداء شديد، ولا يجلب لها أي أصدقاء جدد.

 صوت من المعارضة والمنفى

ورغم العداء الرسمي، فإن بعض القوى الإيرانية المعارضة — مثل الحركات الكردية والبلوشية والعربية — تنظر إلى إسرائيل بإيجابية، وتسعى للتعاون معها في إطار معارضتها للنظام الإسلامي. من جهة أخرى، لا يزال رضا بهلوي، نجل الشاه المخلوع، يدعو إلى المصالحة مع إسرائيل، ويُحمّل النظام الحالي مسؤولية تمزيق العلاقة التاريخية بين الشعبين. يقول رضا بهلوي، ولي عهد إيران السابق، نجل الشاه محمد رضا بهلوي: “لطالما قلت إن مصير شعبي إيران وإسرائيل مترابط بشكل فريد. لدينا آمال مشتركة في السلام، لكن عدونا المشترك — الجمهورية الإسلامية — يحرمنا من ذلك”.

الموقف الإسرائيلي الرسمي

من جهتها، تؤكد القيادة الإسرائيلية مرارًا أن عداءها موجّه للنظام، لا للشعب الإيراني. “لقد كان الشعب الإيراني والشعب اليهودي صديقين منذ عهد قورش الكبير. وحان الوقت للشعب الإيراني أن يتّحد حول رايته وإرثه التاريخي، ليناضل من أجل حريته من نظام شرير وقمعي”. موقف بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل.

شارك هذا الموضوع

د. زياد منصور

باحث في القضايا الروسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!