لَا.. لَسْتَ وَحْدَكَ أَيُّهَا الْفِلسْطِينِّيُ

لَا.. لَسْتَ وَحْدَكَ أَيُّهَا الْفِلسْطِينِّيُ

لحسن أوزين

          نزل مصطفى من الباص عائدا من مركز المدينة، بعد أن شارك في الوقفة التضامنية مع غزة. ينظر ولا يرى. انطفأت دواخله، احترق نهائيا. أنهوا أيامه.. أتوا بأجله الى عتبة بيته. لا شيء يجوب الحارة، غير العجز و القهر القاتل. قوة رهيبة خطفت من الساكنة أرواحهم. جردتهم من قيمتهم الإنسانية. ينظرون بغزارة الدموع الحارة المؤلمة التي تتدفق، كسيل جارف، من عيون منكسرة مقهورة، بكماء صماء. لا تقوى على الكلام. لم يستطع صراخ وعويل و بكاء النساء، أن يوقف إصرار الجرافة على هدم مساكنهم. بدعوى أنها عشوائية. انحنت اللغة وتواضعت بكبرياء، معلنة صعوبة توصيف مشهد الأطفال، في نظرتهم المفعمة بعشرات الأسئلة المرعبة. لا أحد يمكن ادعاء نقل الموقف، و اللحظة الجهنمية التي انطفأ فيه أغلب أفراد الساكنة. الموت أخذ أشكالا مختلفة من الصدمة، والفقسة والغصة، والذبحة الصدرية، وفقدان الذاكرة والوعي…

شعر مصطفى الذي يقترب من عقده السابع، بفقدان توازنه. ثم سرعان ما انهار فاقدا للوعي. تحرك بعض الشباب الذين كانوا يقدمون خدمات تطوعية للنساء، اللواتي التي تعرضن لحالات صحية حرجة مختلفة: انهيار عصبي، فقدان الذاكرة…

 لكن ممرضا بين الحاضرين أخبر الجميع بأن الرجل فارق الحياة. حالة من الرعب والغضب والألم المخنوق تضطرب في جوف الجميع. صوت البكاء المقهور يعلو في السماء، كما لو أن الناس تمزق دواخلهم بسكاكين حادة لا مرئية. بحيث لا يمكن وقف هجومها الوحشي العنيف. الجرافة المجنونة العمياء، والفاقدة للحس الإنساني، وحدها سيدة الميدان تأتي على المنازل، واحدا واحدا.

ما أبشع أن يعيش المرء لحظة، ليس الفظيع فيها هدم المنزل فقط، بل الأمر يتعلق باغتصاب مرحلة من العمر في الجهد، والادخار على حساب الاعتناء بالذات والأبناء، من أجل بناء منزل يحمي الأسرة من غوائل الزمان. ومن الوحش القابع في الحياة الاجتماعية.

بالأمس كان مصطفى يشاهد الأخبار على التلفاز في بيته. كان صوته وغضبه يعلو، كلما ظهرت أمامه محنة سكان غزة. عادة ألفها فيه أفراد أسرته حين يصل مقدم الأخبار الى مشاهد فظيعة يعيشها الفلسطيني أمام صمت العالم. خاصة صمت الشعوب العربية والإسلامية. إلا أن زوجة مصطفى كانت لا تقبل هذا الاحتجاج المجاني المزيف كما تقول:

  • أنتم رجال أقوياء علينا فقط. عظماء في القهر والاحتقار، والاحتجاج في البيوت. أصمت ودعنا نرتاح من صراخك الذي لا يقدم ولا يؤخر.
  • ياولية، غدا سأذهب للمشاركة في وقفة تضامنية مع هذا الشعب الحر النبيل. فقد بلغ السيل الزبى، مع وحوش المستوطنين. وجيشهم الهتليري النازي

تضحك زوجته بسخرية واستهزاء واضح، وهي تضيف قائلة:

  • وبعد الوقفة( تضحك بقوة مشوبة بالألم، من هذا التصغير والتحقير والتبخيس لمعنى كلمة وقفة)، تذهبون للكفاح والنضال في المقاهي. حيث تمارسون عادتكم البذيئة، الأقرب الى استمناء اللمس بالعيون لأجساد النساء. هواية عيون الليزر المفجرة لمؤخرات البنات.

شعرت بناتها بالخجل، وتلبسهن نوع من الحياء الجميل، وانسحبن من الغرفة. لكن سرعان ما وجهت الأم كلامها لبناتها، توضيحا أكثر لما تقصده من وراء هذا الكلام البذيء.

  • أغلب الرجال يمارسون، من فوق كراسيهم في المقاهي المنصوبة على قارعة الطريق، نوعا من المزاد السري للحوم الحية. ما أوسخكم…

ففي الوقت الذي توجه ابنه البكر الى الملعب، مرتديا القميص الرياضي لبلده، لتشجيع الفريق الوطني. خرج الأب مصطفى قاصدا المدينة، مشحونا بالحماس والغضب، وعشرات الانفعالات. ورغم ذلك كان في قرارة نفسه، كموظف بسيط، متقاعد، مرتاحا، إلى حد ما، لعبوره الصبور في وحل هذه الحياة، المزغوبة كما يحب أن يقول دائما. كافح في تربية الأبناء رغم الظروف الصعبة وتحمل السلف، من هنا ومن هناك، لإنهاء بناء قبرالحياة/المنزل، للأبناء.

هاهو مصطفى يغادر الحياة حاملا معه آخر الصور التي تحكمت في إدراكه، وسيطرت على وعيه. مما شاهده في ليلة الأمس: مستوطنون يحرقون مزروعات الفلسطينيين. وجرافة صهيونية تهدم منازل شهداء شاركوا ببسالة في عمليات بطولية.

وجد الابن نفسه مقهورا عاجزا، أمام هول الصدمة المركبة والمضاعفة التعقيد. ضياع جهد وتضحيات الوالدين في بناء البيت. وخسارة الأب، الفقد المؤلم الذي يصعب تقبله وتعويضه. تحت ضغط انفعال هائج يغلي في باطنه، امتدت يده الى قميصه، الذي تحول في عمقه النفسي الى محرقة أتت على لحمه  وجوفه الحي دون شفقة ولا رحمة. فانطلق في الشارع صامتا، عاريا. لا بيت، لا ظهر، لا جدار.. لا شيء يحميه.. عاريا خارج المدينة يمشي، مرددا لا، لست وحدك أيها الفلسطيني…

شارك هذا الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!