مؤتمرُ الاتحاد الاشْتراكِي في الخَريف.. إعلانٌ عن نهاية حزبٍ كبير

مؤتمرُ الاتحاد الاشْتراكِي في الخَريف.. إعلانٌ عن نهاية حزبٍ كبير

عبد الرحمان الغندور

موقفي من مؤتمر الولاية الرابعة للزعيم  

          لست معنيا بمؤتمر الاتحاد الاشتراكي إلا من باب الذاكرة والمقارنة، باعتباري من جيل التأسيس الثاني للحركة الاتحادية ومهتم بتطوراتها ومآلاتها، وباعتباري ولدت سياسيا ونضاليا داخلها، وعشت مختلف التحولات والتضحيات منذ أواسط الستينات، كما عشت بفخر اعتزاز الانتقال من الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى الاتحاد الاشتراكي، بعد مخاض عسير ومؤلم، كما عشت باقي المؤتمرات الحقيقية إلى المؤتمر السادس الذي تسميه الأدبيات بمؤتمر “مكتب الصرف”، والذي تم الإعلان فيه عن بداية الانحدار الذي بلغ منتهاه تدريجيا عبر المؤتمرات اللاحقة، ليصل اليوم في المؤتمر 12 إلى إعلان نهاية حزب ملأ الدنيا وشغل الناس.

بين يدي الذاكرة وصفحة الحاضر، يرسم مسار حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لوحة قاتمة ومفعمة بالتناقضات، لوحة يختلط فيها الألم بالأمل، والمجد بالتردي. كان حزبا يخرج في كل محطة من سجن المعاناة والنضال، حاملا بين جنباته روح الأمة وضميرها الحي، يخط بكلماته سطور التحرر ويرسم ببرامجه معالم الغد المشرق. كانت السياسة لديه فضاء للفضيلة، والمعركة اختيارا أخلاقيا قبل أن تكون موقفا تكتيكيا. لم يكن مجرد تنظيم بين التنظيمات، بل كان مشروعا يختزل أحلام الملايين من المغاربة في غد أفضل، حيث الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والكرامة والحرية ليست شعارات جوفاء، بل ممارسة يومية وسلوكا جماعيا.

كان الحزب مدرسة حقيقية للديمقراطية، رغم تشبثه بالمركزية الديموقراطية، تتدفق في داخله حيوية النقاش وحرية الاختلاف، وتتسع قاعدته لاستيعاب كل الأصوات دون خوف أو محاباة. كانت القيادة اختيارا جماعيا، والبرامج نتاج عقل جمعي، والمسار محط مساءلة ومحاسبة. لم يكن هناك من هو فوق النقد، ولا من يحتل موقعا يصبح معه مالكا للحقيقة أو محتكّرا للقرار. كان الحزب يعيش على نبض قواعده، يتنفس أحلامها ويتألم لآلامها، فكان بذلك سندا للحركات الاجتماعية والنقابية، وصوتا للفقراء والمهمشين.

غير أن المنعطف التاريخي، مع لحظة ما سمي بـ”التناوب التوافقي”، لم يكن مجرد محطة للوصول إلى الحكومة، بل كان بداية لتحول جوهري في المسار والهوية. دخل الحزب دهاليز السلطة وهو يحمل أحلام التغيير، ليخرج منها مثقلا بإكراهاتها، ومستبطنا لطموعاتها، ومكبلا بفعل قيودها. لم يكن الإقصاء المفاجئ بسبب الخروج عن المنهجية الديموقراطية، هو الضربة الوحيدة، بل كان الأعمق هو ذلك التآكل التدريجي للروح النضالية، وذلك الانزياح المتسارع عن المقاصد الأساسية، حيث تحول الحزب من فاعل يصنع الحدث إلى منفعل بالأحداث ومتفرج عليها، وطامع في نتائجها، وتحول من قوة اقتراحية تطرح البدائل إلى طامع في المشاركة في تدبير المواقع، ويبرع في تفصيل الخطابات أكثر من قدرته على استحضار المبادئ التي لم تتقادم

وفي اللحظات الفاصلة التي هزت أركان الكثير من البلدان العربية، حينما انتفضت الشعوب مطالبة بالحرية والكرامة، كان الغائب الأكبر هو هذا الحزب الذي كان في يوم من الأيام رمزا لهذه المطالب. لم يكن في قلب الحراك، ولا في صدارة المشهد، بل بدا كمن يقف على رصيف التاريخ، يحمل ذاكرة نضالية عاجزا عن ترجمتها إلى فعل. لقد تخلى عن دوره كقاطرة للتغيير، واكتفى بدور الطامع السياسي الذي ينظر إلى حساب موازين القوى لاقتناص الفرص الغنائمية، أكثر من إيمانهِ بقوة المبادئ.

وها هو اليوم يكرس هذا المسار الانحداري في مؤتمره الثاني عشر، حيث لم يعد الخلاف فضاء للثراء، بل أصبح تهمة تتطلب الإقصاء. ولم تعد القيادة أمانة جماعية، بل تحولت إلى ملكية فردية، يتنافس حول عرشها زبون واحد معتمدا على زبناء يتنافسون في إظهار الولاء، ويكرسون ثقافة الطاعة بديلا عن حرية الرأي. لقد أصبح الزعيم هو المبرمج والمخطط والمحدد، والحزب مجرد أداة في يديه، تموت فيها الروح الجماعية وتتبخر معها الديمقراطية الداخلية. لم يعد النقاش حول المشاريع، بل حول المناصب والغنائم، ولم تعد المعركة مع خصوم النبل السياسي، بل هي معركة مكشوفة بين الزبناء على موائد السلطة والغنيمة والمصالح الآنية، سواء لدى الزعيم أو لدى الأتباع والزبناء.

لم يعد الحزب ذلك الصوت الشجاع الذي يرفع سقف المطالب، بل تحول إلى “حزب إداري” بارع في فنون المساومة والتراضي، منقطع الصلة عن قاعدته الشعبية التي كانت مصدر قوته ومشروعيته. ولذلك تضاعف السلطة من مكاسبه الشكلية، لكي تزيد من فقر مضمونه الأخلاقي، المزيد من افتقاده   لمصداقيته الجماهيرية.

ها هو حزب القوات الشعبية يصطدم بحائط النهاية بقتله لذاكرته النضالية، وابتعاده عن تربته الشعبية،  وانغماسه تحت سطوة الفرد والزبناء، الشيء الذي يجعله كيانا شكليا، يحمل اسما بلا مسمى، وتاريخا بلا مستقبل. والوردة التي تذبل لا تموت فجأة، بل تبدأ رحلة انتحارها حين تنقطع عن جذورها. وهذا هو واقع حزب القوات الشعبية الذي أصبح عنوانا كبيرا للتنازلات والانهيارات.

وآخر ما أختم به، هو ألمي وأسفي وتقززي من أخوات وإخوان عرفتهم لأكثر من 50 سنة، وقدرتهم باحترام رغم اختلاف التقديرات، أراهم ينسلخون عن كل ما تشاركناه، ويتنكرون لكل شيء كأنهم أصيبوا بالامنيزيا، ويحملون بخنوع الطبول والدفوف ويهتفون بحياة الزعيم، مما يجعلهم يفقدون عندي كل تقدير واحترام.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!