ماذا تستطيع أن تقدم روسيا من مقترحات لوقف النزاع الإيراني الإسرائيلي؟

د. زياد منصور
انهمرت التعليقات والمواقف من قبل المؤيدين لإيران التي تعبر عن استياء منقطع النظير من الموقف الروسي، حيث كان يرى هؤلاء أن على روسيا أن تتدخل في الصراع الدائر، وتقدم كل ما بحوزتها من دعم عسكري ولوجستي إيران في الحرب التي تشن ضدها هذه الأيام. وتستند بعض هذه المواقف إلى ما يقال عن دعم إيراني إلى روسيا، قدمته إيران في قتالها ضد أوكرانيا، والتي وفق منظورهم تقوم على منح روسيا عشرات الطائرات المسيرة من صنع إيراني، وغيرها من المعدات اللوجستية، إلخ.
وإذا نظرنا بعمق إلى هذا الكلام، فإن مطلقيه يقيسون بقياس عاطفي لا أكثر، ولا أقل، فالعلاقات بين الدول تقوم على أساس معاهدات واتفاقيات تُراعى فيها المصالح المشتركة للأطراف المتعاقدة، وهي السياسة التي انتهجتها روسيا منذ أن تولى الرئيس فلاديمير بوتين سدَّة الرئاسة في روسيا، بخلاف ما كان قائم في الزمن السوفييتي من دعم مجاني أو شبه مجاني للدول الصديقة والحليفة، دفع أثمانه فواتير باهظة الشعب السوفييتي والروسي على حد سواء ، بعد أن كرس بعض الحلفاء معادلات غريبة عجيبة تقوم على مقايضة طائرات الميغ بالقطن، والسلاح بالبرتقال ، والصناعات الثقيلة بالصابون وزيت الزيتون. وهو ما جرى عمليًّا مع سوريا ومصر والعراق وليبيا واليمن وغيرها من الدول..
رغم ذلك لا يمكن إسقاط معادلة أن السوفييت أيضًا قد استفادوا إلى حد كبير من هذه العلاقات، ونالوا ما نالوه وحصلوا على ما حصلوا عليه، مع فارق يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار أن بعض الخبراء السوفييت والطيارين استشهدوا على أرض مصر وسوريا وغيرها دفاعًا عن سيادة هذه الدول، فالفاتورة كانت باهظة بحسب الأرشيف الروسي الذي كشف عن قائمة كبيرة من هؤلاء الذين سقطوا بعيدًا عن أرضهم …
وإذا كان موضوع المقالة هو تقييم حقيقة الموقف الروسي اليوم، يكفي القول أن المواقف الروسية سجلت تقدما كبيرًا منذ اليوم الأول لقصف إيران قياسا بالكثير من الدول الأخرى، وحتى تلك الأوروبية الخدولة التي تربطها بإيران علاقات اقتصادية وتجارية كبيرة كفرنسا وألمانيا وبلجيكا وغيرها، ولها استثمارات كبيرة في الاقتصاد الإيراني، وجرى التعبير عن هذه المواقف في جلسة مجلس الأمن، وتصريحات الرئيس بوتين ووزير الخارجية التي تعبر عن انسجام واضح ورؤية براغماتية قد تسهم في إيجاد مخرج عقلاني للصراع، إذا ما تبقى من وقت لذلك.
في هذا السياق يتوقف الكثير من الأمور على موقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب المحاط بالكثير من الأحجيات والغموض. وعلى ما يبدو فإن تعدد المواقف يضع الرئيس في موقع لا يحسد عليه، بما يتنافى مع شخصيته. وما هو ظاهر أنه حتى الآن لا يفهم حقًا ما يجب فعله، خصوصًا أن الجمهوريين هم في طليعة المدافعين عن إسرائيل. لكن ما يحدث لا يثير أي استحسان لا في أميركا ولا في إسرائيل ويعبر عن انقسام كبير. ولعل السبب يكمن بأنه إذا قرر ترامب دعم إسرائيل في ضرب المنشآت النووية الإيرانية، فإن حربًا إقليمية خطيرة تنتظر العالم، محفوفة باضطرابات عالمية.
ورغم هذا التردد الأميركي، فإن الميدان يظهر كيف أن كلٌّ من طهران وتل أبيب قد تجاوزتا “الخطوط الحمراء”، خصوصًا بعد أن هاجمت إسرائيل منشآت نووية إيرانية، وبعد أن أعلن الحرس الثوري الإيراني أنه سيواصل ضرب الدولة اليهودية حتى تدميرها بالكامل.
في الوقت الحالي، يقف الطرفان على أعتاب جولة جديدة من التصعيد، تستهدف منشآت عسكرية وطاقوية. يكمن الخطر المحتمل في بدء مطاردة متبادلة لأفراد من القيادة السياسية. كما يمكن أن يُحفّز التصعيد بعض الإجراءات الأحادية، مثل انسحاب طهران من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، ولكن هناك جناح يعتقد أن فعل ذلك يعني انهيار شامل لمنظومة الأفكار والعقيدة التي نيت عليها الإيديولوجيا الإيرانية، في مقابل انهيار شامل للذرائع الإسرائيلية التي ادعت أن إيران على قاب قوسين أو أدنى من انتاج القنبلة النووية. لكن تبقى هناك أيضاً احتمالية أن تتراجع الأطراف إلى وضع “الستاتيكو” (الوضع القائم) بعد تبادل مكثف للضربات، وتوقف المعارك. غير أن ذلك سيكون بمثابة هدنة مؤقتة قبل اندلاع مواجهات جديدة.
اتفاق الشراكة الاستراتيجية بين روسيا وإيران
تمت المصادقة على هذه الاتفاقية في الدوما الروسية، كما م صادق عليها البرلمان الإيراني، التي تم التوقيع عليها لتكون سارية المفعول على مدى عشرين عاما، مع تجديد تلقائي لفترات لاحقة كل خمس سنوات.
يتضمن الاتفاق 47 مادة، يتمحور عدد كبير منها حول التعاون العسكري والتقني، مثل: تبادل الوفود العسكرية، وزيارات السفن الحربية، إقامة مناورات مشتركة، إلى التعاون في مواجهة التهديدات المشتركة. كما يشمل الاتفاق قضايا الأمن الدولي، الرقابة على التسلح، والأمن السيبراني.
رغم هذه البنود يجب القول، على أنّ الاتفاقية لا تتضمن التزاماً بتقديم دعم عسكري مباشر في حال تعرض أحد الطرفين لهجوم (على عكس الاتفاق الروسي مع كوريا الشمالية في 2024، الذي تضمن بنداً حول المساعدة العسكرية المتبادلة). ما تنص عليه فقط، هو أنه الطرف الآخر يجب ألا يدعم المعتدي. بما معناه هو أن الاتفاقية تمثل تعزيزاً كبيراً للعلاقات الاستراتيجية بين موسكو وطهران، خاصة في الجوانب الأمنية والعسكرية، لكن دون أن يشكل تحالفاً عسكرياً رسمياً أو التزاماً بالدفاع المشترك. ولذلك فإن الاتفاقية هي عبارة عن شراكة استراتيجية طويلة الأمد.
بالمقارنة مع الاتفاقية مع كوريا الشمالية (2024) فإن نص الاتفاقية ينص على عدد من البنود غير المعلن عنها رسمياً، لكن المضمون واضح استراتيجياً. في المجالات الرئيسية، هناك تأكيد على التعاون العسكري والاستخباراتي، والتعاون الاقتصادي والتقني، والتعليم والتدريب، وتوسيع الشراكة ضد ما يسمى بـ”الهيمنة الأمريكية”.
كما أن هناك التزامات عسكرية، بحيث نجد بند واضح وصريح ينص على تقديم الدعم العسكري في حال تعرض أحد الطرفين لعدوان، وهو يشبه إلى حد ما المادة (5) في ميثاق الناتو (الدفاع المشترك)
لهذا فإن الطابع السياسي للمعاهدة هو أقرب إلى تحالف عسكري فعلي، ويحمل رسائل تحدٍّ مباشرة للولايات المتحدة وحلفائها في آسيا، ويثير قلقاً كبيراً في اليابان وكوريا الجنوبية.
هل يمكن لروسيا أن تصبح وسيطاً في تسوية النزاع؟
فعليًّا يمكن أن يكون لروسيا دور محوري في تسوية النزاع، نظراً لكونها شريكاً وثيقاً لإيران وأحد الضامنين للنسخة السابقة من الاتفاق النووي. وعلى الرغم من رغبة فرنسا والولايات المتحدة في احتكار زمام المبادرة في هذا الملف، فإن تقديم ضمانات حقيقية لطهران دون مساهمة روسية سيكون أمراً بالغ الصعوبة. يزداد هذا التعقيد في ظل الدعم المتزايد الذي تقدمه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي لإسرائيل، وهو ما أدى إلى تراجع حاد في مستوى الثقة الإيرانية بهما. في المقابل، تُعد موسكو أكثر قبولاً لدى طهران، الأمر الذي يعزز احتمال أن تضطلع بدور الوسيط، لا سيما إذا تفاقم الصراع أو ظهرت فرصة حقيقية لإعادة إحياء الاتفاق النووي. بالتالي، فإن روسيا تمتلك المقومات السياسية والدبلوماسية التي قد تؤهلها للعب دور فاعل في هذا المسار، سواء بدافع الحفاظ على توازنات المنطقة أو كورقة تفاوضية في وجه الغرب.
ورغم ذلك فإن أي تصعيد في الشرق الأوسط سيشغل انتباه خصوم موسكو عن القضية الأوكرانية ويغير أولويات برامج الدعم العسكري الغربية، مما يصب في مصلحة روسيا، إذ من المتوقع أن تزداد الخلافات بين الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين بشأن الملف الشرق أوسطي، وهو ما يخدم مصالح موسكو.
بالنظر إلى تحالف روسيا مع طهران، يمكن نظريًا أن تلعب روسيا دور الوسيط المحايد بين الأطراف المتنازعة، مما قد يساعد في خفض التصعيد، وبذلك تعزز موسكو نفوذها في المنطقة بعد سقوط نظام بشار الأسد في سوريا. غير أن هذا التصعيد يحمل مخاطر وتكاليف كبيرة لموسكو. فروسيا لم تستطع منع الضربة الإسرائيلية الشديدة ضد إيران، الدولة التي وقعت معها قبل خمسة أشهر اتفاق شراكة استراتيجية شاملة، وموسكو ليست مستعدة لتقديم دعم عسكري لطهران، مقتصرة على الإدانات السياسية.
هذا التصعيد يعقد أيضاً الحوار مع الولايات المتحدة، خاصة وأن بوتين أدان الضربة بينما دعمها ترامب دون تأكيد ضلوع واشنطن بها. تبقى الآمال في ألا تؤدي هذه الخلافات إلى أزمة حادة في العلاقات الروسية-الأمريكية، لا سيما مع وجود ملفات ساخنة أخرى بين بوتين وترامب. على المدى الطويل، تتزايد مخاطر موسكو إذا كانت أهداف إسرائيل لا تقتصر على وقف البرنامج النووي الإيراني أو تغيير سلوك إيران الإقليمي، بل تشمل تغيير النظام السياسي، كما أعلن نتنياهو في خطاب للشعب الإيراني، وهو احتمال قد يقلل من حسن نية طهران تجاه موسكو. لحسن الحظ، تبدو هذه الطموحات الإسرائيلية بعيدة المنال حالياً، إذ إن سقوط النظام الإيراني سيكون نتيجة للصراعات الداخلية العميقة، بينما تبقى مؤسسات الجمهورية الإسلامية قوية، وأفعال إسرائيل في هذه المرحلة من المرجح أن تزيد من تماسك السلطة والمجتمع الإيرانيين.
أوراق روسيا في إسرائيل
تمتلك روسيا عدة أوراق قوة في إسرائيل ترتبط بالعلاقات التاريخية والدور الذي تلعبه في تسوية النزاع في الشرق الأوسط، بالإضافة إلى الروابط مع الجالية اليهودية التي لها علاقات وثيقة مع روسيا. تلعب المواقف الروسية تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وكذلك علاقاتها مع مختلف أطراف النزاع بما في ذلك حركة حماس والسلطة الفلسطينية، دوراً مهماً في ذلك. فروسيا تستند إلى تاريخ ثقافي مشترك مع الجاليتين اليهودية في روسيا وإسرائيل، وتدعم مشروعات ثقافية وإنسانية لتعزيز هذه الروابط.
من الواضح أنه كما سعت موسكو للعب دور الوسيط في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، فإنها لا تزال تحافظ على اتصالات مع الطرفين، بما في ذلك أطراف منخرطة في الصراع كحماس وحتى حزب الله، وتشارك بنشاط في الجهود الدولية لحل النزاع من خلال توفير منصات للحوار.
إضافة إلى ذلك، تتمتع روسيا بعلاقات دبلوماسية وطيدة مع إسرائيل وتسعى إلى تعزيز التعاون التجاري والاقتصادي معها، فضلاً عن تطوير الشراكات في مجال الطاقة. على الصعيد العسكري، ورغم كل ما جرى في سوريا لا تزال روسيا تحتفظ بحضور عسكري في سوريا، مما يؤثر على الأمن الإقليمي ويتقاطع مع مصالح إسرائيل، كما تحافظ على علاقات مع مجموعات عسكرية متعددة في المنطقة يمكن أن تستخدمها كأداة نفوذ. وبذلك، فإن روسيا تمتلك أوراقاً متعددة في إسرائيل تتمثل في التأثير عبر الجالية اليهودية والعلاقات الثقافية والتاريخية، ودورها الوسيط في النزاع، واهتمامها بالمصالح الاقتصادية، ونفوذها الإقليمي عبر الوجود العسكري في المنطقة.
مع ذلك، يتعرض دور روسيا كوسيط في الصراع الناشئ حاليًّا لانتقادات، حيث يرى بعض الخبراء أن روسيا قد تستغل علاقاتها مع الطرفين لتعزيز مصالحها الخاصة بدلاً من السعي لتحقيق السلام.