ما سر غياب القوى الوطنية والديموقراطية والتقدمية؟

عبد الرحمان الغندور
التاريخُ لا يعود إلى الوراء، إنه قطارٌ يتقدّم إلى الأمام بلا تردّد، يحمل في عرباته أثقال الماضي ووعوده، منصتاً إلى صفارة المستقبل التي تدعو إلى محطاتٍ لم تُعرَف بعد. هذه الحقيقة لا تعني هجر الذاكرة أو التنكّر للجذور، بل تعني امتلاك الشجاعة لتمييز ما يمكن أن يظلّ حيّاً ينبض في شرايين الزمن، عماداً للتقدّم، عمّا استُهلك وأصبح مجرّد أثر في أرشيف الزمن، عائقاً يحجب الرؤية ويعطّل المسيرة.
وفي خضمّ هذا المسار، يبرز تناقضٌ لافت؛ فكثيرون ممن يرفعون راية الحداثة ويُطْلِقون على خصومهم توصيف “الماضويين” بنبرة الاحتقار، يقعون في الشرك ذاته. إنهم ينتقدون الأصولية والتقديس الأعمى للسلف، لكنّهم ينسجون حول مفكّرين ونصوص حداثية هالات من التقديس، وكأنّها نصوصٌ ملائكية نزلت من السماء بلا شوائب. ينتقون من التاريخ لحظاتٍ يضيئونها بإرادة قاصرة، ليُخفوا ما فيها من سلبيات وظلامات، فتصبح هذه اللحظات بدورها أغلالاً تُقيّد الفكر وتُعطّل المبادرة. وهكذا يتحوّل “الحداثي” إلى سلفيٍّ من نوع جديد، أكثر تصلّباً وأقلّ وعياً بذاته.
إنّ نقد الأصولية والسلفية والماضوية، إذا كان جوهرياً، يقتضي ألّا يتحوّل الناقد إلى صورة كاريكاتورية لما ينتقده. فالخطر كلّ الخطر أن يصبح الداعي إلى التجديد أسير دوغمائية جديدة، ترفض المساءلة وتقدّس أسماءً وأفكاراً لم تُخلَق لتصبح أصناماً. وهذا هو بالضبط ما وقع فيه عددٌ من مناضلينا “الحداثيين”، فغرقوا في أصولية معكوسة، لم يجرؤوا على محاكمتها.
من هذا المنطلق، تظلّ الدعوة قائمةً إلى قراءة تاريخنا، المحلّي منه والعربي والإنساني، بمنأى عن ردّة الفعل الحداثية الهوجاء، التي ترفض الماضي برمّته، وعن العصبية السلفية التي ترفع الماضي إلى مرتبة المطلق. وفي صلب هذه القراءة النقدية، يندرج موقفنا من تراث القوى التقدّمية واليسارية في المغرب، وأدوارها في تشكيل واقعنا الحالي. فحاضرنا، بما فيه من إحباطات وانكسارات، وبما فيه من إنجازات هزيلة، هو ابن شرعي لذلك التاريخ. ومستقبلنا رهنٌ بطريقة قراءتنا له، فهي البوصلة التي ستحدّد إن كنّا سنستكشف الآتي، ونستشرفه، ونستبق أحداثه. فقطار المستقبل لا يعود إلى الوراء، ومن يفوته في محطّة الحاضر، لأنه لم يُجدّد أدواته ورؤاه، فلن تلحقه المحطات التالية.
والآن، والمغرب يقف على عتبة استحقاقات انتخابية جديدة، ويغلي شارعٌ شبابيٌّ بمطالب عادلة، في غيابٍ مريب للأحزاب الوطنية والديمقراطية التي يفترض أن تكون في الصفوف الأمامية. في هذا المشهد، تسود عقلية الاستبداد والاستئساد، وتتحوّل الأحزاب الموجودة إلى فرق بهلوانية، يتقن أعضاؤها فنون الخداع والمراوغة. هنا يثور السؤال المصيري أمام القوى التي رفعت شعارات التغيير والإصلاح: أين هي؟
وإذا كانت هناك قوى قادرة على مواجهة هذا السؤال المصيري، بحكم انتمائها إلى ثقافة العقل والنقد واستخلاص العبر، فهي مكونات اليسار. لكنّها مدعوّة اليوم إلى أكثر من النقد؛ مدعوّة إلى مساءلة نفسها بلا رحمة، فكراً وتنظيماً وممارسة، ومدعوّة إلى بناء رؤى استشرافية تستفيد من الثورة التكنولوجية والمعرفية التي تضع بين أيدينا أدوات لم تكن متاحة من قبل، كي نستطيع ركوب قطار المستقبل قبل فوات الأوان.
إنّ هذا الصمت المطبق للقوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية، في لحظة تاريخية كهذه، لا يعكس سوى شيئاً واحداً: الإعلان عن نهاية السياسة في هذا البلد. إنه اعتراف ضمني بأن المغرب قد فقد طاقة حيوية كان بأمسّ الحاجة إليها. ويبدو أن الأمور تتجه نحو انتظار دورة تاريخية جديدة، تشبه دورة الكفاح التي أعقبت حقبة الاستعمار، بانتظار أن ينهض جيلٌ جديد، يحمل في داخله حساً وطنياً واجتماعياً وطبقياً حقيقياً، ليبني مغرباً مختلفاً، مغرباً لا نكاد نرى ملامحه الأولى اليوم.
إنّ أعظم علّة أصابت النخب المفكّرة في هذا الوطن هي غياب الوعي التاريخي الاستشرافي والاستباقي. وإنّ أكبر المعيقات الفكرية والنظرية التي تواجهنا تكمن في هذه القطيعة مع التاريخ، في عدم القدرة على قراءته بوصفه ساحة للاحتمال والاختيار، وليس سجلاًّ للأبديات. فمن دون هذا الوعي، سنظلّ ندور في حلقة مفرغة، ننتظر مستقبلاً لا نستحقّه لأنّنا لم نعدّ له العدة.