متعة التذكر بين الحاجة إلى الاعتراف والبحث عن المعنى

محمد امباركي
إن المجموعة القصصية “البرتقالة الصدئة”، للزجال والقاص “ميمون الغازي”، الصادرة سنة 2021 ، تقع في 140 صفحة، وتتشكل من إيقاعين كما ارتأى الكاتب وضع هذا التصنيف وتوزيع كل إيقاع الى مجموعة من المشاهد، يضم الإيقاع الأول خمسة مشاهد والثاني من خمسة عشر مشهدا، هي في الواقع سيرة ذاتية تتداخل فيها الأزمنة، الفضاءات والشخوص والأحداث، لكن جميع هذه المكونات تتقاطع فيما بينها لتصنع زمنيين مركزيين اثنين يغطيان المتن السردي للنص القصصي: زمن الطفولة وزمن الشباب، مع هيمنة هذا الأخير عبر قوة الحضور التي جسدتها شخصية “الشيخ النوريس “وعبرها تشق شخصية “ميمون” دروبها المضطربة، المشاغبة والطموحة، كي تشيد لنفسها ذاتا مصقولة خبرت الكثير من التجارب الحياتية داخل هوامش المركز الحضري أي مدينة بركان، وهي هوامش توزعت بين أمكنة شعبية معروفة : الحي الشعبي “المكتب”، سينما زكزل، المدرسة، دار الشباب الأندلس، المخيم الصيفي الشاطئي (راس الماء) و والمخيم الربيعي الجبلي ( زكزل). وهي ذات دفعت بها ظروف الحياة الى الهجرة نحو فرنسا، ولا شك أن مسارات الهجرة ومعاناتها ومغامراتها المستجدة جعلت من “ميمون“ مسكونا بحنين دفين الى التذكر، رغبة جامحة في العودة الى ذلك الزمن الجميل في قبحه كما عكسته شخصية “الشيخ النوريس” الذي يبدو “كأسد هرم بشورط البرمودا الملون، وشعره الكثيف المجعد، الذي يغطي أذنيه كخوذة “موتور”، بقامته القصيرة، وصدره المشعر…الخ. مع ذلك يظل “الشيخ النوريس” هو الشخصية المركزية في الزمن الثاني، زمن الشباب والجمعية والمسرح وعالم العربدة والتسكع باعتبار ذلك العالم ملجأ بل وشكل من أشكال التمرد ورفض قساوة مشهد اجتماعي وثقافي متنكر، لا يعترف بالخدمات الرمزية، مشهد تطغى فيه الفردانية والنزعة الاستهلاكية وانحطاط الذوق العام…لكن المفارقة أن الرغبة الجامحة في التذكر يقابلها عجز بين عن استحضار التفاصيل الى درجة وصم “ميمون” لعقله بالمصاب بداء الزهايمر (ص3).
وهكذا يمتد زمن طفولي يتأسس على السطو المدفون بالألم جراء الرحيل المبكر للأب، لما يجد ميمون نفسه تحت عناية ومراقبة أم تكافح من أجل رعاية الأسرة وضمنها حماية طفلها من كل بواعث الانحراف…طفل طالما تمرد عليها واشتبك معها وهي تلجأ إليه كي يساعدها من قبيل إيصال عجين الخبز الى الفرن التقليدي للحي السكني، أو ترافقه الى المدرسة كي يصل آمنا…بقدر ما كانت تقسو عليه من خلال شتم “أمومي” أو لعنة الأمهات، بقدر ما كانت تحن عليه وتكسو وجهها تقاسيم الفرح لما تنتهي من إخضاعه لطقوس استحمام صارمة تجعل من جسده مصنعا تتطاير منه أكوام من الأوساخ العجاف “خليني نكلع لك الشوربة يا الخانز ” (ص 37)، هكذا قالت له أمه وهي تشبه الأوساخ المتطايرة بالشوربة لأنهما كلاهما متاحين في عالم الفقراء، بل إنهما مصدرين أساسيين لوصم هذا العالم بكل ألوان الاحتقار والإبعاد….وهكذا يستحضر ميمون فضاءين اجتماعيين متباعدين من خلال مستلزمات الاستحمام المنزلي، فيقول: “كنت أحسد ذلك الطفل في الصورة الأمامية لعلبة” شامبوان كادوم” (Champoing Cadum) الذي لا يشبهني، وأمه لا تشبه أمي (ص 32)، وفي مقابل هذه الوجوه الملائكية العجيبة، يرسم ميمون موقعا متدنيا لانتمائه الجماعي ” ربما كنت أصلح وأمي وقتها لصورة على غلاف خنشة كبيرة من “الغسول” أو خنشة خمسين كيلوغرام من “الصابون البلدي” (ص 34)
لكن من المناسب القول أن الزمن المركزي في المتن الحكائي “البرتقالة الصدئة” هو الزمن الشبابي والحضور القوي لشخصية ” الشيخ النوريس” في كل الفضاءات والأزمنة التي صاغت لوحات هذه التجربة الحياتية، بدأ من لحظة المواظبة على دار الشباب “الأندلس”، الدار الثانية كما نعتها الراوي، مما يدل على أنها جزء من كيمياء الانتماء ومن الهوية البصرية والمجال السوسيو–ثقافي لمدينة بركان ومن ذاكرتها الجماعية، ألم تشكل دار الشباب الأندلس تلك الساحة المادية والرمزية التي تجمعت والتقت وتقاطعت عند زواياها وغرفها وجدرانها تصورات، تيارات وأحلام أجيال بكاملها…إنها أرض الثقافة، الأيديولوجيا، السياسة والعشق، هي الأوراش للتطوع، نجوم الشرق، الكشفية الإسلامية، الرواد وصفاء الأحلام وبسطاء التطلعات، دار الشباب الاندلس حاضنة فلسطين الأغنية والثورة,
من هنا، يمكن القول أن موقع دار الشباب الأندلس في القلب النابض لمدينة بركان بالقرب من سينما متميزة إبان ذلك الزمن، تحمل نفس الاسم “سينما الأندلس”، وساحة تجارية أطلقوا عليها “الطحطاحة “، جعل منها قبلة لشباب متعطش الى التعبير عن ذاته بطرق شتى، شباب يرمز الى ذوات محكوم عليها بالصمت في المدرسة والأسرة لأنها من أصول شعبية اجتماعيا ومجاليا، وهكذا وجدت في هذه القبلة الجمعوية والثقافية نافذة كي تطل منها على مختلف حقول الإبداع والممارسة من مسرح وغناء وثقافة ورحلات استكشافية واحتكاك بالجنس الآخر، هي جدلية الاحتكاك بين الجنسين في ظل بيئة سوسيو–ثقافية تنتصر للهيمنة الذكورية…وهكذا بدأت ملامح تشكل المجموعة التي يمكن الاصطلاح عليها مجازا بمجموعة ” الشيخ النوريس”، بحكم الضرورة الوجودية لهذا المخلوق العجيب الغريب الذي لا تحلو الجلسة بدونه ” حتى أن رفقائه الذين نعتوه بمختلف الصفات القدحية، عجزوا عن الاستمرار في رحلة الحياة والتيه بدونه ” ونحن دائما نتراجع عن قراراتنا الصارمة لطرد البهلوان الذي كان يضحكنا في عز بكائه، فلا يعقل أن ننزع للخيمة قلبها النابض، ونحرم أنفسنا من لذة الضحك صباح مساء من تصرفاته العجيبة، لا سيما تنبؤاته الجوية التي لم تتحقق أبدا، ولولاه لكان المخيم كئيبا كمقبرة…” (ص: 103).
وهكذا تنطلق مغامرات المجموعة بطريقة تشبه مسرح الشارع، أين حلت وارتحلت إلا وتمارس التمثيل والتدريب على الأدوار وصناعة نصوص مسرحية ومشاهد غنائية أمازيغية بديعة، وظل هذا النمط من تدبير اليومي المسرحي لصيقا بالمجموعة بدار الشباب، بالمخيم الشاطئي “راس الماء”، بالمخيم الربيعي “زكزل”، بمنزل الفيلسوف “فؤاد” كما كان ينعته أقرانه في المجموعة…كما ظل هذا الترحال الثقافي محكوما بفوضوية منظمة لا تنفلت من ممارسة طقوس استهلاك النبيذ الرخيص ونشوة الحشيش و”السبسي” والجدل الحاد حول وجود الله من عدمه، والفرق بين الحقيقة الدينية والحقيقة العلمية، والاستماع الى القصص الطويلة للحارس الليلي بمخيم راس الماء “عمي بوشتة” الذي يتفنن في الجمع بين “طي السبسي” ومنطق الحكي بطريقة عجيبة …
في الواقع، إن المجموعة القصصية “البرتقالة الصدئة” تؤرخ لتجربة شبابية بأبعاد حياتية وثقافية وجمعوية غنية، ويشكل غناها وعفويتها من الخصائص الروحية لمرحلة بكاملها، بل يمكن القول عنها ما قاله كارل ماركس عن الفلسفة ك”خلاصة روحية لعصرها”، وهي مرحلة بداية التسعينات التي ظلت تجتر معها بواعث الإصرار على إنعاش فعل جمعوي وثقافي بعد مرحلة القمع الأسود وحصار الممارسة الجمعوية الجادة منذ بداية الثمانينيات مع سياسة التقويم الهيكلي واتساع دوائر المنع والإقصاء الاجتماعي في المدرسة والصحة والثقافة والشغل والحريات…هي في نهاية المطاف تجربة اجتماعية لمجموعة تتطلع الى المرئية والاعتراف، ومن خلال شخصية “ميمون” الراوي الذي من داخل سيرته الذاتية استحضر بعض التفاصيل المتقاطعة، من طفولة محفورة في الذاكرة ومرحلة هامة من الشباب، وهي تفاصيل وملامح مجموعة من الشباب ناضلت بطريقتها الخاصة كي تجد لها مكانا تحت شمس حارقة لمشهد سوسيو–ثقافي ممزق، كي تنتزع اعترافا معنويا بحقها في الوجود الاجتماعي، لأنها هي ذاتها لم تستثمر إلا في رساميل رمزية كانت تتكون أسهمها من المسرح والثقافة وعشق الحياة، هو عشق يكاد يصل في أحيان كثيرة الى “بوهيمية ” مفرطة تدفع شباب المجموعة الى اكتتاب مادي داخلي بحثا عن توفير ذلك المبلغ المالي الهزيل لاقتناء ماء الحياة الرخيص من جعة ونبيذ وويسكي مزور..
في الأخير لا بد من الإشارة الى أن قراءتنا المركبة والمختصرة لهذه المجموعة القصصية لا تفي بكل الأغراض المنتظرة، ولا تعطي لهذا العمل الإبداعي حقه، لكن الأهم بالنسبة لنا ومن خلال شخوص، أحداث، فضاءات وأزمنة هذا المتن السردي، هو أنه وجدنا أنفسنا ننتمي الى مجموعة “الشيخ النوريس”، هو وأبطال المجموعة أصدقاء لنا، بقدر ما جمعتنا بهم أسئلة المرحلة ودروب التسكع والحلم بالثورة بصيغ شتى تتراوح بين الاختيارات الفردية والجماعية وأنماط عيش تحاول التمرد على المألوف، بقدر ما فرقت بينها مسارات البحث عن لقمة العيش هنا وهناك…والغالبية العظمى من شباب المجموعة وفي ظل الشعور بحياة بدون معنى وتفتقد الى الاعتراف، هجرت البلاد…هو شعور فردي لكنه يترجم حالة جماعية من عدم الرضى وإرادة المقاومة…فكانت الهجرة إحدى الأسلحة في نزال غير متكافئ..
ومن ناحية البناء الأدبي للنص ولغته، نكاد نجزم أن المجموعة القصصية “البرتقالة الصدئة” لم تحد عن أسلوب اللغة الواضحة التي تذهب مباشرة الى الهدف والمقصود وراء كل لوحة سردية أو مشهد محكي، وذلك في سياق الإحالة على وقائع وأحداث، على مشاهد مضحكة ومحزنة، على طقوس فردية وجماعية ليست بالضرورة منسجمة ومتناغمة طالما أنها تترجم توترات، قلق، طموحات وأحلام، إرادات المقاومة في وجه سطوة الفراغ الاجتماعي وغموض المستقبل واللايقين…ولا شك أن هذه المشاعر غير المتجانسة والقلقة والتي تبحث لنفسها عن مساحات الهدنة والسكينة وبدائل التعويض والنسيان، هي التي تفسر لجوء الراوي الى أسلوب التشبيه بشكل مكثف من خلال أداة “كأن” ، وذلك نشدانا لغنى المعنى وشساعة الخيال بشكل يتجاوز حدود المعنى المباشر للمنطوق…لكن السؤال اذي ظل ملازما لنا ونحن نستمتع بقراءة هذه المجموعة القصصية، هو كيف يتحول النص من سيرة ذاتية الى سيرة غيرية أي متن حكائي يقع في مركزه شخصية “الشيخ النوريس”؟، ثم كيف تنعكس هذه الشخصية في النص كشخصية ضرورية في المجموعة لكنها تتعرض للكثير من الوصم والسخرية؟، هل هذا البروفايل لشخصية “الشيخ النوريس” أملته طبيعة وهيئة هذه الشخصية كما هي في الواقع؟، أم أن الكاتب لجأ الى الخيال الإبداعي لإعادة صياغة هذه الشخصية كضرورة وجودية وفنية وإلا فقدت النصوص المحكية المعنى والدلالة؟
هي أسئلة مفتوحة لن نجيب عنها الآن وإلا حرمنا القارئ من تذوق لذة ومرارة “البرتقالة الصدئة”، كما أن الجواب عنها لن يستقيم في نظرنا، إلا في سياق تفاعلي مع مهندس المجموعة القصصية الكاتب ميمون الغازي وحضور شخصية “الشيخ النوريس” بقدرها وجلالها، وبالتالي تفكيك دلالات وأبعاد تلك البرتقالة الصدئة، من يا ترى يشبه تلك البرتقالة الصدئة” غير القابلة للاستهلاك والتداول والتي تحيل على مجالات “ميتة” ومشاعر “باردة”؟ هل شخصية “النوريس” أم صانع المتن السردي وراويه “ميمون الغازي”؟، شخصيا أميل الى الاحتمال الثاني رغم ما تحمله “الشيخ النوريس” من لعنات الأصدقاء والصور النمطية الساخرة منه والتي جعلت منه بطلا من أبطال الحكاية رغم أنفهم. لكن في العمق، هي رمز لمدينة جريحة ضحية “فشل تنموي” لا يمكن أن تحجبه “برتقالة حديدية صدئة” وسط أول نقطة دائرية في مدخل المدينة نفسها (ص51).