مسرحنا بين الأقلية الساحقة والأغلبية المسحوقة
د. عبد الكريم برشيد
فاتحة الكلام
أبدا هذا البوح، أو هذه الشهادة، أو هذا البيان، أو هذا السفر الفكري، بما كتبه الكاتب والصحفي والمؤرخ الصادق، للفعل الثقافي والجمالي، الأستاذ عبد الرحيم التوراني، والذي كتب في الملحق الثقافي لجريدة (بيان اليوم) ليوم الجمعة، مقالة تتحدث فقط عن مقالة، هذا ما يمكن أن يصل إليه من لم يقرأ هذه المقالة قراءة عميقة ومتأنية وعالمة ومتفهمة، وهي في الأصل قراءة فيها حكي الحكواتية شهرزاد، وفيها رؤية الرائية زرقاء اليمامة، وفيها شهادة الشاهد الذي رأى كل شيء، وكان ضروريا أن يقول وأن يكتب كل شيء، وأن لا يخفي عن القاريء أي شيء، ولقد كانت هذه المقالة بعنوان:
(عبد الكريم برشيد ونهاية زمن التردد: المال والبيروقراطية يغتالان المسرح العربي)
” بيان” سياسي ضد الاستبداد بالسلطة وتعطيل العمل الديموقراطي)
وفي الرد عليها، يقول الاحتفالي على حسابه في الفيس بوك ما يلي:
(هي مقالة صادقة من أديب و إعلامي و مؤرخ وموثق اسمه الأستاذ عبد الرحيم التوراني
وهي مقالة بدرجة شهادة
وهي شهادة برتبة وسام
وهي وسام بلون المعرفة والعرفان
وهي كتابة في مستوى الحق والحقيقة
وهي فعل وفاعلية، في تاريخ يريدون منه أن يكون جامدا وساكنا،
وأن يكون أصم و أبكم وأعمى؟
ومتى كانت الحقيقة التاريخية عمياء؟
شكرآ صديقي وصديق الحقيقة ذ.عبد الرحيم التوراني
وشكرآ للملحق الثقافي لجريدة (بيان اليوم)
وليس سهلا أبدا أن تقول الحقيقة، وأن تبلغ في كتابتك درجة الحقيقة، وذلك في عالم أصبح يمارس جهرا مهنة تهريب الحقوق وتهريب الحقيقة)
وما المسرح ومن هو المسرحي؟
هي كتابة عن المسرح إذن، والمسرح ستائر ترفع، وهو أضواء تطارد الظلام، وتكشف الخفي، سواء في الفضاء المسرحي أو في نفوس وأرواح الشخصيات المسرحية، وهذا المسرح الذي نعرفه ويعرفنا، وهو في الأصل بيت من لا بيت له، وهو صوت من لا صوت له، وهو وطن من لا وطن له، وهو لغة من لا لغة له، وهو عنوان من لا عنوان له، هكذا هو في الأوطان السليمة وفي العقول السليمة وفي الحقب التاريخية العاقلة والجميلة
وفي هذا المسرح نلتقي، مؤقتا من أجل أن نفترق بعد ذلك مؤقتا كذلك، هكذا يريدنا هذا المسرح أن نكون، أما المسرح الذي فرض علينا فرضا، فقد ألزمونا بأن نفترق، وأن نتفرق فيه، وأن نعيش في عالمه التشرذم والمنفى والسجن والغربة، وهكذا أرادنا اليوم الذين لهم موقع في هذا المسرح، ولهم فيه كراسي، ولهم فيه أختام رسمية، من غير أن يكون لهم أي انتساب حقيقي لهذا المسرح المغربي والعربي، والمظلوم والمهزوم، بدون وجه حق.
هذا المسرح هو اليوم متاهة بسعة وطن، من يدخله مفقود، ومن يخرج منه مولود، ولهذا فقد كان ضروريا أن تطالب كل الإدارات والهيئات وكل النقابات والوكالات أن ترفع يدها عن هذا المسرح، وأن تعطي الخبز لخبازه، وأن تترك شأن المسرح للمسرحيين.
وهذا واحد من الذين أسسوا في المسرح تيارا جديدا ومجددا، والذي هو الفنان الاحتفالي جناح التامي، وتعقيبا على مقالة (من يفيد المسرح العربي ومن يستفيد منه؟)، نجده يختزل مشروع هذه الاحتفالية الفكري والجمالي في أنها ثورة، وهي بالتأكيد ليست ثورة الحواس، ولا هي ثورة الغرائز، ولكنها (ثورة العقل . و ما أدراك ما العقل)، هكذا كتب جناح التامي.
وفي الجواب يقول الاحتفالي كاتب هذا البوح، أو هذه الشهادة، ما يلي:
هي فعلا (ثورة العقل، وهي ثورة الوجدان، وهي ثورة الروح، وهي ثورة الخيال، وقبل كل هذا وبعد هذا، هي ثورة المقهورين والمهمشين في الحقب التاريخية الظالمة والمستبدة، هكذا هي الاحتفالية، وهذه هي حقيقتها التي لا يمكن أن تتغير بتغير الأزمنة والأممكنة، وهي فعلا لا تتغير، هل تعرف لماذا؟ لأنها الجرأة في العلم، ولأنها الحرية في الحق، ولأنها الطريق المستقيم في عالم تعددت فيه الطرق المعوجة والمنحرفة).
وأقف عند قولة حكيمة قالها أحدهم، أظنه فيكتور هيجو، إن لم تخني الذاكرة، وهذه القولة هي:
(إذا أصبح المجتمع غابة، فليس شرطا أن تصبح أنت وحشا في هذه الغابة).
ونفس هذه الصورة نجدها عند أوجين يونسكو في مسرحية (الخرتيت) عندما يلحق المسخ كل المدينة، ويتحول كل واحد فيها إلى خرتيت بقرن في وجهه، وداخل هذا المسخ الجماعي يظل واحد من أهل المدينة، والذي هو بيرانجيه، مصرا على أن يحتفظ بإنسانيته وبصورته الإنسانية، وهذا نفس ما يقوم به الاحتفالي اليوم، وهو يواجه هذا المسخ الجماعي، دفاعا عن إنسانية الإنسان وعن كرامة الإنسان، ودفاعا عن مدنية المدينة، في مواجهة الغاب وثقافة الغاب وشريعة الغاب، ودفاعا عن حيوية الحياة، وعن جماليات الجمال.
ولهذا فقد قال الاحتفالي لكل من تهمه إنسانيته وتهمه حياته وتهمه حيويته، وتهمه مدنيته، وتهمه حريته واستقلاليته وكرامته ما يلي:
ــ اعرف أولا أنت من أنت، فأنت انسان في سلم الانسانية، والأصل في هذه الإنسانية هو أنها درجة عالية وسامية في عالم الكائنات الحية.
ــ وأنت عقل يفكر، وأنت حس جمالي، وأنت خيال، وأنت إرادة تريد الخير والجمال والحق والحقيقة.
وأقول قولي هذا غيرة على الجمال، وخوفا على هذا الجمال الذي يتهدده القبح المادي والرمزي، وأخاف أن يأتينا اليوم الجديد من غير أن يكون فيه فيه أي جديد، وأن نجده يقربنا أكثر، ومن حيث لا ندري، من السقوط ومن درجة الهاوية، ولهذا فقد كان لابد من هذه الصرخة، والتي هي اليوم هذه الكتابات، والتي تؤكد على أنه من غير المنطقي أن يبقى الحال على ما هو عليه، سواء في المسرح المسرحي أو في مسرح الوجود.
والذين تتوجه لهم هذه المقالات يعرفون انفسهم بكل تاكيد، وهم يعرفون أن الأمر يعينهم، ولكنهم لا يجيبون، ولا يستجيبون، وهم يختبئون خلف جدار الصمت، وهم يكتفون بأن يطلوا على العالم من خلال ثقب المفتاح، وأن ينتظروا حتى تهدأ العاصفة، ولكل واحد من هؤلاء يمارسون لعبة الاختفاء والتخفي نقول له ما يلي:
ـ (اظهر وبان عليك الأمان) فإن كنت مسرحيا حقيقيا، فاعلم بأننا نحن لا نريد بهذا المسرح إلا الخير، وأن كل ما نريده هو أن يكون هذا المسرح مسرحنا، وأن لا تكون فيه مجرد موظفين ولا مجرد أجراء ولا مجرد عبيد.
ذ، كمال فهمي، الباحث في الجماليات، دعاني لندوة حول النقد والفنون، ولقد ألح علي بالحضور (ننتظر حضورك بشوق في مناقشة ورقتنا عن الحساسيات الجديدة التي نقف فيها عند نقدك وما نؤكد عليه من ضرورة المسرح لرؤية فلسفية).
وفي مثل هذه الندوة، يوجد المسرح، ويوجد الكلام المسؤول في المسرح من داخل المسرح.
كتابة ضد الصمت
يقول الاحتفالي، أنا لا أكتب إلا ما أقول، ولا أقول إلا ما أفكر فيه، ولا أحكي إلا حياتي، ولا أحيا إلا أعماري التي كتبها لي كاتب الوجود ، وأنا في كل كتاباتي لا أخفي اأدا ما ينبغي أن أعلنه وأظهره لكل الناس، وأعتبر أن اللحظات السعيدة ينبغي أن أشرك كل الناس معي فيها، وأما اللحظات الحزينة، وما أكثرها، فإنني أحتفظ بها لنفسي، ولولا هذا، فهل كان ممكنا أن أقول عني (أنا احتفالي) وأن تكون مهنتي هي صناعة الفرح، وأن تكون فلسفتي هي فلسفة التعييد الجماعي؟
وأنا في هذه الكتابة لا أنشر إلا ما أقتنع به، ولا أقتنع إلا بما يوافق العقل والمنطق والحق والحقيقة، ويوافق جمال الوجود وجمال الحالات وجمال الكلمات وجمال اللحظات وجمال العلاقات وجمال البنيات.
ومرة أخرى اتساءل، من الذي يتكلم في كلام المتكلم الصادق، هل هو الصدق الصادق أم هو الحقيقة الحقيقية أم هو صوت التاريخ أم هو صوت الله وشرف الله؟
والكتابة هي فعل ضد الصمت، وهي فعل ضد النسيان، وهي فعل ضد النكران، وهي فعل ضد القهر، وهي فعل ضد الجنون، وهي فعل ضد العبث، وهي ثورة الهامش، وهي ثورة المهمشين في أزمنة العبث واللامعقول، وهي فعل ضد السلطة والتسلط والمتسلطبن، وهي فضح التحكم وفضح المتحكمين، بالكلمة العاقلة والرصبنة، وليس بأي شيء آخر.
ويقول الاحتفالي، أنا في حياتي وفي حياة كل كتاباتي، لا أتوقف لحظة عن ممارسة حقي في الاختلاف، وأنا بهذا ملزم بأن أكون مع الكلام المباح وضد الصمت ومؤامرة الصمت، وأيضا ضد حسابات الصامتين، وأتذكر بالمناسبة صرخة الكاتبة والمناضلة المغربية الأستاذة خناثة بنوتة في السبعينات من القرن الماضي، والتي كانت عنوان روايتها (ليسقط الصمت).
وهذه الكتابة، وكما عشتها طوال مساري الفكري، أردتها دائما كتابة عالمة، وأن تكون حرة، وأن تكون جريئة، وأن تمثل انقلاب الحقيقي على الوهمي، وأن تكون ثورة الهامش على المركز، وثورة الحيوي على الآلي، وثورة الوضوح على الغموض.
وهذه الكتابة إما أن تكون حقيقية أو لا تكون، ولا مجال إطلاقا لأن تكون في المنزلة بين المنزلتين، أي إن تقول المعنى وما يخالف المعنى، وهي فعل فعل ضد النسيان، وفعل ضد النكران، وفعل ضد القهر، وفعل ضد الجنون، وفعل ضد العبث، وفعل ضد الفوضى.
من داخل الحصار ومن خارج الحصار؟
وإلى حدود هذا البوم، يستمر الحصار على الاحتفالية وعلى الاحتفاليين، وفي ظل حرب الظلال والأشباح هاته، تظل هذه الاحتفالية مصرة على الوجود وعلى الحضور، ومصرة على الاستمرار في البحث الفكري وفي الاجتهاد الجمالي، ومصرة على السؤال وعلى التساؤل، وعلى مقاربة المسائل العلمية والفكرية والجمالية الحقيقية في المسرح المسرحي، كما في مسرح الوجود.
وفي هذا المعنى، تأتينا المساهمات الفكرية والجمالية من كل الجهات، وتنهال علينا الإضافات الصادقة والصديقة من كل العالم، وبذلك تصبح هذه الاحتفالية أكبر وأخطر من أن تكون مجرد أسماء أو مجرد بيانات أو مجرد مسرحيات أو مجرد اقتراحات تجريبية عابرة.
وفي دائرة هذا الاهتمام العام بالعلم الاحتفالي نجد الباحث العالم والمفكر والفنان الدكتور نور الدين الخديري يقول في رسالته للاحتفالي:
(دمت حاضرا بالكلمة والفعل، وبكل الكتابات التي أنصفت وتنصف مشروعك الفكري والجمالي والإنساني، ما تقوله وتؤكده في أكثر من منبر ثقافي، وذلك بالحجة والاستدلال البرهاني الذي يحتكم إليه العقلاء، يكفي لكي يجعل من الاحتفالية مشروعا صادقا، وأقرب إلى الأوجدة، وباللغات التي نفهمها وتفهمنا، بعيدا عن المزايدات والانتقادات المجانية. استمرارية الاحتفالية، معناها قوة الوجود، والقابلية على الاستيعاب والحوار، والاختلاف، بعيدا عن الخلاف، الذي يحيكه البعض ضدا على كل روح جميلة وجمالية. مودتي وتقديري أخي العزيز الدكتور عبد الكريم برشيد).
أما الأستاذ محمد كويندي، وهو المثقف الموسوعي والمناضل الثقافي، فإنه في كلمته يسجل موقفه من هذا الواقع الذي وصله المسرح والمسرحيون في المغرب وفي كل العالم العربي، يقول:
(أهلا وسهلا.. أستاذنا الفاضل.. أحيي فيك روح الرجل المسرحي المقتدر والجهر على تردي الساحة المسرحية.. والمسرح وكيف تم اغتياله بالمال السائب تحت أية ذريعة من مسميات كاذبة لقتله).
أما الممثل المسرحي عبدو مزيان، والذي عاش الإبداعات الاحتفالية الأولى مع فرقة الطلائعي بمدينة الدار البيضاء، وذلك من خلال مسرحيات شكلت ثورة حقيقية في الكتابة المسرحية وفي الإخراج المسرحي عند ابراهيم وردة، وفي الأداء المسرحي عند ثلة من الممثلين الذين أسسوا نواة المنهج الاحتفالي في التشخيص المسرحي، يقول عبدو مزيان في شهادته:
(يسقطون ينهزمون ويموتون، الدخلاء الذين لا يريدون للمسرح الخير، وتعيش أنت، ويستمر الحفل).
أما الأستاذة شادية زيتون دوغان، أستاذة السينوغرايا، والتي تؤكد دائما على الجانب الوظيفي في السنوغرافيا إلى جوار الجانب الجمالي، فإنها تقول للكاتب الاحتفالي ما يلي:
(وضعت أصبعك على صميم الجرح دكتور، حبذا لو يؤخذ بما تفضلت به بعين الاعتبار، وعلً يفقه المعنيون بأن للمسرح أهله وليس جيرانه كي يستعيد المسرح ألقه وميزة وجوده، شكرا على إضاءاتك القيِمة دائما وأدام الله عليك كامل الصحة).
وهي نفسها التي قالت (في العالم العربي المسرح ينوء من ثقل الحسابات الخاطئة).
ولا شيء أسوأ من الحسابات الخاطئة في فكر وعلم وفنون المسرح، والذي هو أبو كل الفنون وأبو كل العلوم وأبو كل الصناعات نعم، أيتها الفنانة الصادقة، وذلك في فن لا يقبل في عالمه مكونه إلا الصادقين.
نعم أهل المسرح هم أدرى بالمسرح، تماما كما أن اهل مكة أدرى بشعاب مكة.
أما الدكتور عبد الرحمان بن ابراهيم، وهو الباحث الغيور على المسرح، وهو الشاهد الأمين والصادق على تاريخ المسرح المغربي والعربي، فإنه يقول للاحتفالي الكاتب: (صدقت أيها الفنان المسرحي الأصيل. دمت للصدق ناطقا، وبكلمة الحق شاهدا).
وبخصوص هذا الصدق، فقد تعود الاحتفالي أن يقول دائما (كن صادقا، مع نفسك ومع كل الناس، وقل ما شئت، وأُكتب ما تشاء، وإن ما تكتبه لن يكون إلا حقيقيا وصادقا).
أما المخرجة الأردنية مجد القصص، والتي كتبت عنها وعن تجربتها المسرحية في كتاب (التيار التجريبي في المسرح العربي الحديث)، فقد قالت في تعقيبها (شكرا لك. قرأت مقالك. وأنت تتكلم عنا جميعا دام عطاؤك).
آخر الكلام
وآخر الكلام، في هذا النفس الجديد من هذه الكتابة الحديدة، هو مجرد نداء لمن يهمهم الأمر.. أمر حاضر هذا المسرح المغربي والعربي طبعا، ولهم جميعا نقول عبر الهاتف اللاسلكي واللا موجود ما يلي:
ألو .. ألو .. أين أنتم .. هل تسمعوننا؟ طمىنونا عنكم رجاء .. بكلمة واحدة إن كنتم تحسنون الكلام، أو حتى بإشارة صغيرة.. هل أنتم مازلتم على قيد الحياة ؟ وأنتم في برجكم العاجي هل أنتم بخير؟ نعم نعم، بكل تأكيد أنتم بألف خير، ولكن المسرح الذي هو أمانة عندكم ليس بخير، وهو موجود بين الحياة والموت، وتلك هي المسألة، تماما كما قال المغفور له أمير الدنمارك هملت في مسرحية الشاعر والكاتب الكبير شكسبير.
وأعترف، بخصوص طبيعة هذه الكتابة الصارخة بالحق، بأنني لست أنا من اختار لغتها ، ولا أنا من اختار موضوعها ومضمونها، ولا من اختار توقيتها، أي في هذا الوقت بالذات، والمغرب يعيش زمنه الاحتفالي، ويعيش مناخه الاحتفالي والعيدي.
وبالتأكيد فلست أنا من اختار الحالات التي رافقتني وترافقني أثناء كتابة هذه الكتابة، وفي هذه الحالات مد وجزر، وفيها فرح وغضب، وفيها ثقة وشك، وفيها سكينة وقلق.
