منزل الأشباح

منزل الأشباح

  سعيد بوخليط

           يستحيل على تاريخ وعي ذاكرتي نسيان ذاك البيت المخيف والمرعب، القابع نهاره مثل ليله بين طيَّات ظلام دامس، لا يفتح سوى نادرا، ولا يضمُّ رغم شساعة زواياه المترامية الأطراف؛ على طريقة ”الرياضات” المراكشية التراثية، غير ثنائيٍّ شابٍّ، ليس بزوجين مثلما قد يخطر للتَّقدير من الوهلة الأولى، بل أخ  وأخته، مكثا معا في ذلك المنزل لسنوات طويلة بعد رحيل أمِّهما الحاجة غضيفة. عجوز، لازلتُ أستعيد جغرافية سمنتها المفرطة وقِصَر قامتها الواضح مما جعل مشيها صعبا متعرِّجا. بالكاد تتحرَّك، بيد أنَّ لسانها سليط في غاية الفتوَّة والإقدام.  

دوما شَكَّل خروجها من المنزل المخيف المتواجد عند آخر موقع في الدرب الطويل، مشكلة عويصة بالنسبة لي ولأصدقائي، مادام تحرُّكها السُّلحفاتي، يمثِّل إعلانا قبل الأوان عن توقُّف مباراة كرة القدم، لأنَّها أشدّ ما تكره في الوجود لعب الأطفال، بحيث توخَّت باستمرار حين ظهورها رغم عجزها البدني الاستيلاء على كرة، ليست بالضرورة حقيقية بل قد تكون مجرد حزمة بقايا متلاشيات حشونا بها قطعة كيس حليب بلاستيكي تتوسّطه بقرة سمينة حمراء فاقعة اللون، كم كان محتواه لذيذا لاسيما مع جزيئات الزبدة المتراكمة بعد سكب الحليب في الإبريق، لذلك أتسابق وأختي نحو المطبخ قصد القيام بهذه المهمَّة والاستفادة من الغنيمة الطرية.

إذا نجحت العجوز في الاستيلاء على الكرة، انتهت حتما مبارياتنا خلال ذلك اليوم، وحين إخفاقها يلزمنا التوقُّف لفترة معينة غاية مرورها البطيء، يتسمَّر كل واحد جامدا في مكانه بعد الإسراع إلى إخفاء الكرة إخفاء، نتابع خطى مشيتها تحت وقع شتائمها ولعناتها.

ماتت الأمّ، وبقي الأخ والأخت يعيشان دائما داخل جوف منزل الجنّ، وصف اشتُهر همسا بين الجيران كي لاتسوء العلاقة مع الثُّنائي الملغز، رغم ظهورهما النَّادر، لا يعود الأخ من ورشته كميكانيكيّ سوى ليلا غالبا في وقت متأخِّرٍ، بينما الأخت لا تغادر المنزل قط إلا إبَّان مناسبة ذهابها إلى الحَمَّام الشعبي، لذلك فالصورة التي احتفظ بها خيالي شخصيا تعود إلى فترة سحيقة مع حركة عينيها على نحو غير طبيعي مما أشعرني برعب وأنا طفل في حدود الثامنة من عمري.

كنت ألتقيها على فترات متباعدة بجلبابها ونقابها الأسودين، أثناء زيارتي إلى بيت جدَّتي؛ الذي يعدُّ حقا ملاذا أرحم حقبة صباي ولولا وجوده ربَّما أخذ مصيري في الحياة منحى ثانيا مختلفا تماما عن الحالي.

متجاورتان مكانيا منذ أن وعت فتاة الجنِّ بوجودها لذلك نظرت دائما إلى جدَّتي كأمٍّ ثانية لها، كما أنَّ الأخيرة استحضرت باستمرار خلال بعض الشجارات الأسروية بين أخوالي؛ التي اشتعلت وقتها جرّاء أتفه الأسباب كي تتجاوز عبثية حكايات داحس والغبراء، نموذج ثنائي منزل الأشباح عبد الرحيم وأخته رابحة وتدعو لها بعد نهاية كل مداخلة حتى يرسل الله عاجلا وليس آجلا الزوج الجدير بفتاة قوامها معدن نفيس حسب قول جدَّتي التي تعرفها منذ ولادتها وترعرعت أمام عينيها، فتاة طاهرة لم تفترق عن أمِّها لحظة واحدة ولا تغادر البيت سوى صحبتها.

لم تعرف جدّتي  قط بأنَّ أطفال الدرب، أخرجوا فتاتها المحبوبة منذ فترة ليست بالقصيرة من زمرة الإنس الطاهر وألحقوها بفصيلة الجنِّ الموحش، الذي يتقمَّص صورة إنسان هادئ تماما وصامت بينما تضمر حقيقته شرّا دفينا؛لاسيما مع حلول الليل حين الاقتراب همسا من المنزل وإرهاف السّمع نحو سكينته.

توارى هذا المنزل آخر الدَّرب، داخل تجويف مظلم. باب خشبي كبير ومترهِّل كشاهد على وثائق العصر، لا يُفتح سوى نادرا مرّة أو مرّتين في اليوم مقارنة مع المساكن الأخرى التي تظلُّ أبوابها مشرَّعة طيلة اليوم غاية بداية المساء وشكَّلت رمزيا منزلا واحدا وأوحد يتقاسم داخله الجميع مع الجميع تقريبا وجبات الطعام الخمسة، ابتداء من فطورين؛الأوّل صباحا باكرا مباشرة بعد صلاة الصبح أساسه حساء شعير وثمر وقهوة وفطور ثان في حدود العاشرة خلالها تجتمع أغلبية الجيران على قصعة التريد أو ”التردة”المهيَّأَّة من مرق كساه الخبز والفول والحلبة وخلطة أعشاب صحراوية وكؤوس شاي وأحيانا ثانية قطع الإسفنج، ثم وليمة الغذاء بعد الظهر أساسا مرق خضار استوى طهيه بتؤدة كافية على وقود فحم مِجْمَرٍ،ورابعة بعد القيلولة لازال يذكِّرني طقسها السحري غاية الآن رغم كل العقود المنقضية،برائحة قهوة عطرة تنبعث من المنازل تغمر كل الدَّرب لحظة العودة عصرا من المدارس، وأخيرا وجبة العشاء. ضمن مختلف ذلك، شَكَّل ثنائي خبز الشعير والشاي الوصفة النموذجية والمرجعية الثابتة للأغلبية الساحقة.

رغم أنّ أهل منزل الأشباح من قدامى ساكنة الدَّرب، فقد عاشوا دائما منعزلين عن الباقي. يُفتح الباب نادرا ثم يُغلق فورا بمزلاج حديدي صدئ يقرقع وقعه من بعيد، فيزعج الجيران خاصة لحظات السكينة وهيمنة لحظات الصّمت؛ فترات القيلولة أو مساء.

بعد رحيل الأمّ، ازداد الوضع ارتيابا ولم يعد يُفتح الباب الملغز سوى خلال فترات متباعدة، وانقطع أثر رابحة فتاة الجنّ، أما أخيها فربما التقاه البعض بين الفينة والأخرى، عائدا ليلا عابرا ومهرولا من ورشته الميكانيكية مكتفيا بردِّ التحيّة على نحو بارد دون إضافة تذكر، ثم تسمع دويِّ جلجلة المزلاج بارتداداته الشهيرة.

اتَّفقت حصيلة جميع الحكايات المتواترة بين الفينة والأخرى، بأنَّه منزل مسكون على الأرجح من طرف الجنَّ، والثَّنائي الذي يعيش داخله مجرَّد توليفة روح شرِّيرة رغم قناعهما الإنساني.

ذات ليلة شتوية، كنّا جالسين على مقربة من المنزل نلعب لعبة الورق على ضوء مصباح عمود خشبيٍّ، وفجأة خلال فجوة لحظة صمت تركيز على مضمار رهان الأوراق الممكنة، سمعنا أصواتا غير عادية ذات وقع مخيف جدا صادرة من البيت المعلوم، أرغمتنا في غمرة التَّشويق على ترك كل شيء في مكانه وجري كل واحد من الحاضرين دون التفات إلى الوراء صوب بيته. 

منذئذ  تأكَّدنا فعليا من حدس تصوُّرنا السَّابق، تداولنا ماوقع مع شباب آخر لم يعاين ما جرى، لم يتفاجأ بعضهم لاسيما الذين يتأخَّرون إلى جوف الليل. أوضح هؤلاء بأنَّهم صادفوا غير ما مرَّة الفتاة منزوية وحيدة أمام البيت وقد ركَّزت بصرها على القطَّة السوداء المألوفة حقيقة لدى ساكنة الدَّرب ويستأنس بوجودها مختلف الجيران، وهي صاغرة ومنصاعة لما يقال كأنَّها من جنس البشر.

لكن القطَّة تحوّلت إلى عدوّ لدود وعانت الإبعاد والطَّرد من طرف أهل الدَّرب رغم إلحاحها على البقاء، حينما وُجِّهت إليها تهمة التسبُّب في اعوجاج فَمِ أحد الأطفال ثم افتقاده القدرة على الكلام، بالتالي صارت وضعيته صعبة للغاية. حالة ابتدأت مثلما روي، منذ الليلة التي أمسك إبّانها بطرفي تلك القطَّة بحبل واستمتاعه بتدليتها رويدا رويدا من سطح منزلهم وهي تموء بشدَّة خوفا، نحو كلب يترقَّبها بلهفة في الأسفل على وقع قهقهات المتفرّجين، ثم لم تمض غير فترة قصيرة حتى جرى له ماجرى وأصابته لعنة بيت الأشباح.    

شارك هذا الموضوع

سعيد بوخليط

كاتب ومترجم مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!