من أجل اكتشاف الأصوات المتفردة وتذوق الحساسيات الجديدة

علي بنساعود
“بوح على البرزخ – قراءة في قصص مغربية” كتاب نقدي لمؤلفه المغربي الدكتور رشيد برقان… يشتمل هذا الكتاب على قراءات في مجموعات قصصية، وهو بذلك، حسب مؤلفه، “خلاصة تجربة تمتد لردح من الزمن كانت غايتها الأولى الاحتفاء بمجموعة من الفعاليات المحلية، (يقصد الفعاليات المراكشية) وتسليط الضوء على إبداعاتها، وذلك في إطار أنشطة مجموعة من الجمعيات تعمل جاهدة على خلق إشعاع ثقافي، وجعل هواجس الفن والإبداع تطفو وتغطي على جوقة أصوات تصم الآذان بدون فائدة تذكر.”
وقد أصر المؤلف على “أن تتسم هذه المقاربات بخاصيات أساسية لعل أولها أن تكون الإبداعات موضوع المقاربات “محلية” (مراكشية)، مشكِّلَة بذلك رد فعل ضد تكرار أصوات بدت وكأنها هي المتواجد الوحيد في الساحة الأدبية”، خصوصا أن جمهور القراء، حسب الناقد، “اعتاد التفاعل مع تجارب يعرفها مسبقا، ويضمن متعة التواصل معها سلفا. ولكن هذه العملية، على ما فيها من أمان واطمئنان، تحول بيننا وبين اكتشاف الأصوات المتفردة، وتمنعنا من تذوق الحساسيات الجديدة، هذا دون أن نغفل ما يمكن أن تخلق من حاجز بيننا وبين الإبداع”.
ومن أجل هذه الغاية، تناول الناقد تجارب كل من القاصين “محمد زهير” و”عبد اللطيف النيلة” و”أحمد طليمات” و”لحسن باكور” و”عبد الرحيم الرزقي” و”حسن قرى”.
محمد زهير: تجربة اخترقت جدار التنميط والتقوقع
من خلال مقاربته لتجربة محمد زهير القصصية، عبر تناوله لمجموعتيه القصصيتين (أصوات لم أسمعها- شغف اسمه الغيم): يخلص الناقد إلى أنها تجربة تتميز بتنوعها، حيث لم تتخندق في دكان صغير من الدكاكين القصصية، ولكنها، اخترقت جدار التنميط والتقوقع، وأفسحت لنفسها فضاء رحبا يعانق كل التجارب دون أن تمنعها من ترك بصماتها الخاصة. ولعل سر تألقها يكمن في قدرتها على الانضباط للنوع الأدبي، أي القصة، وفي الوقت نفسه تحقيق الرغبة الدفينة للذات في التألق وتكسير حواجز هذا النوع. وبين هذا وذاك، انتصرت لموقفها من الحياة الذي يعلي من شأن التنوير والتحرير وحق الذات في أن تبدع.”
وحسب مؤلف الكتاب، فإن “أسباب الاختيارات الفنية لمحمد زهير تعود، في جزء كبير منها، إلى ضغط الواقع والمرحلة التي عاشها الأستاذ، ويتعلق الأمر بإحباطات الستينات والسبعينات، أو عموما كبوات ما بد الاستقلال، والانكسارات التي عاشتها النخب المثقفة والتي فرضت عليها الانكفاء إلى ذاتها وعوالمها الخاصة، والعزوف عن التطلع إلى المجتمع أو التحاور معه، والاكتفاء بالبوح والبحث عن الملاذات الآمنة، خصوصا المرأة والطفولة والقراءة والحلم”.
عبد اللطيف النيلة: إضافة واعدة للتجارب القصصية الرائدة بالمغرب
من قراءة الناقد لعالم القاص عبد اللطيف النيلة، وخصوصا مجموعتيه: (البيت الرمادي وقبض الريح) خلص إلى أن “كتابة هذا المبدع تشتغل على آفاق متعددة، وتنير دروبا إبداعية عدة، فهي، حسبه، “تستهدف كشف وفضح الرمادي والمتذبذب من حياتنا اليومية، كما تفضح شخصياتنا في حيواتها النفسية من خلال إحباطاتها وعقدها، وتقوم بقراءة التراث بعين ساخرة تعطي أبعادا جديدة للحكاية الشعبية. وبهذا وبغيره، تنخرط في أفق تجريبي واعد، وتنضاف إلى مصاف التجارب القصصية الرائدة بالمغرب التي أصبحت تراهن على جعل الزمن المغربي قصصيا بامتياز”.
كما اعتبر المؤلف أن تجربة القاص عبد اللطيف النيلة “من التجارب القصصية الواعدة التي لم تكف عن إغناء مشروعها القصصي، وفي كل مرة نتلقى أحد أعماله نجدنا أمام مرحلة جديدة لا تتباهى بالقطيعة، ولو أنها تعمل جادة على إحداثها، وهو من القلائل الذين يحسنون الإنصات لذواتهم، ومن خلالها إلى العالم المحيط، ويتقنون التقاط الحياة من الزوايا المعتمة، ويطوعون الشكل ليقول رؤيتهم للعالم. ولعل في هذا خير مثال على المسارات التي يجترحها التجريب لخلق قصة جديدة تنبض حياة وترقى إلى درجة التعبير الحقيقي الحديث عن الإشكالات التي يعيشها المغرب اليوم”.
تجربة أحمد طليمات: تحفة تستحق أكثر من قراءة وأكثر من لقاء
أما تجربة القاص أحمد طليمات، من خلال مجموعتيه (السيد لينين… السيد فرويد… والسيد تحفة_ ومخلوقات مندورة للمهانة)، فاعتبرها الناقد “تضع نفسها في موقع برزخي بين لحظتين فارقتين من مسار القصة المغربية”، وبذلك، “فهي تزاوج بين نبرة الانتقاد والتنديد ونبرة البوح والإفصاح عن الصوت الداخلي للذات، هذا الصوت المثقل بالحنين وعنف الذكرى، كما تلتقط اللحظات والشخصيات المتفردة في إصرار على معاكسة كل ما هو عام ومتداول. ويبقى معولها الأقوى هو رؤيتها النقدية النافذة إلى عمق الأشياء والأشكال، لكي تستفزها وتسخر منها.” مضيفا أن “مخلوقات أحمد طليمات راهنت على الإمتاع فأمتعت، وقاربت التجريب فنهلت حظا وافرا منه، وعاينت إحباطات الواقع ففتحت باصرتنا عليه، وشاطرتنا رؤيتها له. وقبل هذا وذاك، هي تحفة تستحق أكثر من قراءة وأكثر من لقاء”.
عالم لحسن باكور: ذوات تأكل نفسها ببطء وأناة
أما عالم القاص لحسن باكور السردي، فاعتبره المؤلف، من خلال مقاربته لمجموعتيه (رجل الكراسي والرقصة الأخيرة) عالما سوداويا، “تفصح فيه الذات المعطوبة عن هواجسها التي لم يسمح لها أن تتجاوز الذات، فبقيت تأكل نفسها ببطء وأناة، حزنها عميق وأساها مترسخ. وخلال رحلتها هذه، تتسلح بعين دقيقة المراقبة، تجيد التقاط التفاصيل، وتبرع في رصد فجيعتها التي أصبحت خارج الذات، داخل العالم المحيط. ولأن الذات، كل ذات، تحتاج للمقاومة لكي تعيش، التجأت الذوات في هذا العالم إلى الحلم والعجيب لتعمق فجيعتها أو لتقول ذاتها بشكل أكثر رحابة وأشد عمقا…”.
عبد الرحيم الرزقي: كتابة تعمق المسار الواقعي للقصة المغربية
أما الكتابة عند القاص عبد الرحيم الرزقي فهي، حسب الناقد، من خلال مجموعته (سيلان من شقوق): “كتابة جرح ملتصق بالذات، ترصد عالما هامشيا لا عمل له ولا انشغال إلا مراقبة الرتابة، وترصد إيقاعاتها وفعلها في الذوات والأمكنة، وتتبع عالم يكتسحه المرض والبطالة والشذوذ، وهذا النمط من الكتابة هو تعبير عما عاشته المدينة ولا تزال تعيشه، إثر تطوراتها العاصفة، فكلما تطورت المدن كلما خلقت هوامش للفقر والعطالة والمرض. هوامش تحيي المدينة وتتعرف على منتجاتها، ولكنها لا تتمتع بها ولا تستطيع ذلك، فهي تكتفي بالتآكل الذاتي وتغرق في مشاكلها الصغيرة، وتبحث عن الحلول الفردية التي لا علاقة لها بالرصانة والاستقامة والاجتهاد (…) ويبقى هذا النمط من الكتابة ممهورا بنزعة غضب صامتة، وبسخط لا يسمح لنفسه بالبروز، ولكنه، رغم كل ذلك، يظهر من خلال إعطاء قيمة للمهمش والمحرَّم ليكسر التواضعات الأخلاقية والقيم المرعية…” كما يرى الناقد أن هذا النمط من الكتابة “تعميق للمسار الواقعي للقصة المغربية، فبعد الواقعية المشحونة بالتفاؤل، وبعد انطفاء البعد التحريضي في الكتابة الأدبية، وجد هذا النمط من الكتابة مجالا فسيحا له في الهوامش للاقتراب أكثر من الواقع، ونقل واقع جديد بعيد عن المؤسسات السلطوية داخل المجتمع، وداخل سلطة الكتابة. وهذه الكتابة “لا تتأسس على اعتماد الهامش موضوعا فقط، ولكنها تكسر القصة ومعالمها وتحولها إلى بوح وحوار داخلي عنيف، وتنحو باللغة نحو البساطة والابتذال. والأهم من هذا أنها تجرها إلى حقل السخرية، هذا السلاح الوحيد الذي يبقى للكتابة الساخطة عندما تُنزع منها كل الأسلحة، وأمام هذا الحال لا تنعدم المقاومة، ولكنها تتخذ أشكالا غير جديدة ولعل أهمها: الجنس والخمر والمخدرات والحلم وأحلام اليقظة، كما يحضر العجيب بوصفه مساحة تعبيرية…”.
حسن قرى: مشروع يلهث وراء القبض على روح الإبداع
وبخصوص الخلاصة التي اطمأن إليها الناقد بعد رحلته التحليلية للمجموعة القصصية القصيرة جدا للقاص حسن قرى (الربيع الآخر) فهي أن “مشروع المبدع حسن قرى مشروع يعد بالكثير، وهو بسيره في مفترق الشعر والسرد يفتح لنفسه مسارا منفردا لا يبالي بالأجناسية، ولكنه يلهث وراء القبض على روح الإبداع حيث المتعة مضمونة، واللغة غنية بتمثلاتها، والأفق التجريبي يعد بالكثير”.
يشار إلى أن هذا الكتاب، الذي أهدانيه مؤلفه مشكورا، على هامش الدورة 16 لمهرجان مشرع بلقصيري، الذي نظمته جمعية النجم الأحمر، يقع في 134 صفحة من القطع الكبير، صدر عن مطبعة شيك برانت بمراكش، سنة 2024، تزين غلافه لوحة للفنان الحروفي الحسن الفرساوي.