من أجل الحق في الفهم

من أجل الحق في الفهم

عبد الرحمان الغندور

أكدنا في مقالات سابقة تضامننا مع الصحافي المهداوي من حيث المبدء، ومن حيث الدفاع عن حرية التعبير، وضرورة تحرير الصحافة والاعلام من سيطرة اللوبيات التي تفتقد الأخلاق المهنية، والتي تحركها الأجندات العابرة للفضاء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والتي تعمل وتوظف بتقنية مذهلة مبادئ ” التكييف” و “التهييج ” و ” الملاءمة ” و”التغييب ” و “النسيان”.

إن تضامننا هذا الذي عبرنا عنه بكل وضوح، لا يمنعنا من محاولة الفهم والتساؤل، في ظل التعتيم المطلق، وغياب الحق في الوصول إلى المعلومة. تساؤلنا لا على طريقة المطبلين والذباب الاليكتروني الذي يحاول تحويل اتجاه النقاش وتبخيس التضامن وتمييع الفضيحة، ولكن تلبية لروح المواطنة والغيرة على كل ما يخدم القضايا الأساسية للشعب المغربي.

ففي خضم الضجيج الإعلامي والسياسي الذي يلف تسريب هذا للفيديو/الفضيحة، المتعلق بالصحافي المهداوي، تطفو على السطح أسئلة وجودية حول دوافع هذا التسريب وتوقيته وآثاره. لا كما يطرحها المطبلون ودعاة التبخيس، ولكن لأن السؤال الجوهري ليس فقط هو محتوى الفيديو بحد ذاته، بل أيضا السياق الغامض والملتبس الذي تجري فيه وقائع هذا الكابوس، والأهم من ذلك، الأجندات الخفية التي قد تكون وراء هذه الخطوة المحسوبة بدقة.

من الصعب تحديد الجهة التي تقف وراء التسريب بتأكيد مطلق، في ظل انعدام الشفافية والحق في الوصول إلى المعلومة، والغياب شبه الكامل للمحاسبة في الفضاء الإعلامي المغربي. فالفرضية التي تطرح نفسها بقوة، تتمحور حول ما يُصطلح عليه بالدولة العميقة، تلك الشبكة المعقدة من مراكز القوى التي تعمل في الظل، والتي تمتلك فعلياً أدوات التحكم في تدفق المعلومات وتوجيه الرأي العام. هذه الكيانات ليست كتلة واحدة متجانسة، بل هي عبارة عن تحالفات متغيرة من جهات داخل الأجهزة الأمنية والإدارية ومصالح اقتصادية وسياسية، تتنافس أحياناً وتتواطأ في أحيان أخرى. وإذا سلمنا بهذه الفرضية، فإن التسريب ليس عملاً عشوائياً، بل هو ضربة مقصودة في معركة أكبر. والسيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن جهة ما داخل هذه الشبكة المعقدة هي من قامت بالتسريب، إما كجزء من صراع داخلي على النفوذ، أو كأداة لإدارة الرأي العام وفق استراتيجية “الصدمة والترويع”.

هذا يقودنا مباشرة إلى سؤال التوقيت: لماذا الآن؟ إن تزامن هذه الفضائح مع تحركات سياسية واقتصادية كبرى، أو على أعتاب استحقاقات انتخابية جديدة، ليس محض صدفة. التاريخ يشير إلى أن إثارة عواصف إعلامية حول قضايا عامة أو خاصة، غالباً ما تكون ستاراً من الدخان لإخفاء تطورات أكثر خطورة. قد يكون الهدف هو تحويل الأنظار عن إقرار سياسات اقتصادية مثيرة للجدل، أو عن فشل في معالجة تداعيات الأزمات الاجتماعية المستعرة، أو عن مفاوضات سرية تمس المصالح الحياتية للبلاد وللمواطنين. كما يمكن أن يكون التوقيت مرتبطاً بترتيبات ما قبل انتخابات 2026، حيث يبدأ رسم الخريطة السياسية الجديدة وإقصاء بعض اللاعبين أو تمهيد الطريق لآخرين. في هذه الحالة، يتم استخدام الفضائح الشخصية كسلاح فعال لتسوية الحسابات وتغيير موازين القوى دون الحاجة إلى مواجهات علنية.

فرضية الصراع داخل أجنحة الدولة العميقة تبدو منطقية في هذا السياق. إذا كان “المهداوي” قد أصبح، عن قصد أو دون قصد، جزءاً من تحالف معين أو يمثل توجهاً إعلامياً يزعج تحالفاً آخر، فإن فضحه يصبح وسيلة لإضعاف خصم من الداخل. هذه الصراعات الخفية لا تأخذ في اعتبارها مصالح الشعب أو أولوياته، بل هي معارك نخبوية تدور في الكواليس، ويُدفع ثمنها من رفاهية المواطن واستقراره. فالتضامن الواسع مع الصحافي، رغم مشروعيته في الدفاع عن الحريات العامة وحرمة الحياة الخاصة، يطرح إشكالية حقيقية تتمثل في انتقائية الغضب والاهتمام.

هنا نصل إلى لب المفارقة: كيف يمكن لهذا التضامن أن يكون بهذه الحدة، بينما تبدو قضايا مصيرية مثل معاناة جيل Z من البطالة واليأس، والمحاكمات والأحكام القاسية التي نزلت على شبابه، أو ضحايا الغلاء المعيشي اليومي الذين يُدفعون إلى هوامش ما تحت عتبة الفقر، أو المتضررين من زلزال الحوز الذين ما زالوا يواجهون الإهمال، أو معتقلي حراك الريف الذين تحولت قضيتهم إلى رقم منسي في الأرشيف، وكأنها لا تحظى بنفس الحماسة الإعلامية والجماهيرية؟ هذا لا يقلل من أهمية الدفاع عن حرية الصحافي وحقه في خصوصيته، ولكنه يسلط الضوء على ظاهرة مقلقة: قدرة آلات التوجيه على التحكم في بوصلة الغضب الشعبي وتوجيهها نحو قضايا انتقائية، بينما يتم تهميش القضايا البنيوية التي تمس حياة الملايين.

يبدو أن الاستراتيجية تعتمد على آليتين: الأولى هي “إدارة الانتباه”، حيث يتم تغذية الجمهور بقضايا مثيرة عاطفياً وأخلاقياً لصرف انتباهه عن الإخفاقات الهيكلية. والثانية هي الاستفادة من “الذاكرة القصيرة” للشارع المغربي، حيث تتصدر الفضائح العناوين لبضعة أيام أو أسابيع ثم تختفي، تاركة وراءها واقعاً لا يتغير، بينما تكون الأجندات الخفية قد حققت أهدافها بعيداً عن الأضواء.

إن التسريب وما تلاه من ردود فعل هو جزء من دراما كبرى. والسؤال الحقيقي الذي يجب أن يطرحه المغاربة من أجل الفهم ليس فقط “من فعل هذا؟” أو “لماذا الآن؟”، بل “ما هي القضايا التي يُفترض تغييبها والتغافل عنها أثناء الانشغال بهذه الفضحية والتضامن مع ضحيتها؟”. إن فضح آليات التلاعب هذه هو الخطوة الأولى نحو استعادة المبادرة وانتزاع الحق في تحديد أولويات النقاش العام، بعيداً عن الأجندات المفروضة من خلف الكواليس.

شارك هذا الموضوع

عبد الرحمان الغندور

كاتب وناشط سياسي مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!