من أدب السجون: “شمس وهواء وحراس”

من أدب السجون: “شمس وهواء وحراس”

أحمد حبشي

           هي رحلة في ثنايا الجراح، تحملها الكلمات صورا دامية، تكشف قسوة المعاناة وصولة العنف بغاية الادلال والحد من صبوة الأحلام والتطلعات. صراط اكتوى بلظاه ثلة من الشباب الطامح لتجاوز كل معيقات السمو والارتقاء إلى مراقي التقدم والرفاه، وتطوير أليات الفعل والتفاعل مع مختلف المستجدات. فحيح أيام يكاد يسد الأنفاس، لا صوت يعلو على وقع الأقدام ورنين السلاسل. رعب ذميم يسعى لإحباط العزائم، وقتل كل ما يستقيم وكرامة الإنسان وحقه في بهجة الحياة. لا نبض همس ولا رنين كلام، لا فسحة للأنين لاستبطان شدة الألآم ونزيف الجراح. هي أيام عسيرة النبضات، لظى جحيم وقعها لا يطاق…

عبد الحميد أزماني أحد ضحايا سنوات الجمر والرصاص، يقتفي مسار أيام عصيبة اكتوى بفظاعة قسوتها ثلة من الشباب والشابات، الذين واللواتي كانوا في طليعة من هبوا للتنديد بطغيان السلطة وتداعيات الاستبداد. هكذا يجلي كل مظاهر قسوتها وندوب وقعها، يسرد بعضا من تفاصيل معاناة امتد لهيب وقعها لما يزيد عن سنة، في قبو تغتال فيه البسمة وتباد كل معاني الحياة. يعرض تفاصيل كل اللحظات، يقتفي في الحكي أسلوب السرد الذي يعتمده رواة الأزليات والحكايات المثيرة، يبرز كل الوقائع وما ترتب عنها من تحولات وما تركته من وشم المعاناة، مبرزا مستوى التفاعل مع كل اللحظات وتداعيات مختلف ردود الفعل.

شمس وهواء وحراس، حكي مثقل بالأشجان، عبور دامي لأيام انحبست فيها الأنفاس، لا صوت يعلو على سوط الجلاد، تطمس الحقائق ويمتد حبل الافتراء، زيف الوقائع ورفع وقع القصاص، لا كرامة تصان ولا قيم تحظى بأدنى احترام.

“حشرونا مع قطاع الطرق واللصوص والسكارى، وحتى القتلة. وفي ليلة من ليالينا الطويلة أتوا بقاتل ما يزال /طريا / ثيابه ملطخة بالدماء، ورموا به بجواري. والغريب أن كل من كان في الزنزانة ابتعد وتحاشى الوافد الجديد، إلا نحن المعتقلين السياسيين الثلاثة القاطنين بنفس الزنزانة. أما الطريف في الحكاية، هو أن القاتل المزعوم، عندما علم بأنني معتقل سياسي، ابتعد مني مذعورا”

 في رحلة الأمكنة تتفاقم حدة لحظات المعاناة، الكل يجرب أساليبه في الإهانة والترويض على الامتثال. ذات الأسئلة لا تقبل تفاصيل نفس الجواب. نزيف وصراخ ورعب بمختلف الأشكال والأحجام. من طنجة إلى البيضاء في الطريق إلى القنيطرة حيث سيطول المقام، تتغير الأمكنة وتمتد صولة التحكم في وقع الخطوات، نتأمل شكل الشمس وتموج أشعتها للحظات قبل أن تغلق الأبواب وتفتح نوافذ الذاكرة، 

“ما إن وطئت قدماي ذلك الجحيم الأرضي حتى بدأ (الكرباج) يطلق زفيره. ها أنا أسمعه يقترب مني، خطوة خطوة، إلى أن جاء دوري، فانهال على أحدهم بالسوط، وأخر بالكلمات”

تعددت أشكال وصلات القصاص، ولم تشف الأحكام القاسية غليل الحاقدين، الضالعين في الغلو والاستبداد. في هذا الصراط الكئيب وجحيم كوابيس المبهم من الأيام، تطفو لحظات من الاشتياق، ، رحلات في ازمنة واحقاب، تلاحق أنوارا تلألأت في سمائها، وهي تتأمل في الأصول وما حملته الأسفار والحكايات من زاهي الأيام. يسمو بي الارتقاء إلى مباهج أعتى المفكرين، رجال وصموا مرورهم باستقراء مختلف لمسار الوقائع وآفاق الانعتاق من تعقيدات بنيته وعوائق الحد من تجاوز أو تفكيك مداخل عوالمه.

“عندما كان الوقع المرير يطغى علي بثقله وكربه، لم يكن يسعفني إلا الخيال…فأسافر خارج الأسوار. أتفقد أحوال الشلة. التقي بأصدقائي، الواحد تلو الآخر …كنت أستطيع أن أشاهد يوسف، وهو يتجول في شوارع عواصم الغرب والشرق معا. يقتفي أثناء تجواله أثر الرواد والمفكرين الكبار الذين مروا من هناك، يدون كل ما يراه ويسمعه…”        

استعيد في استرخاء كل ما حملته الروايات من استقراء لأزمنة ورجالات سمو بفكرهم، وما استحضروه من تأمل لما وراء الواقع ومسار تحولاته.

شمس وهواء وحراس، نأمل عميق في عوالم فكرية وتصورات متباينة الأبعاد، اطلالة على مناحي مشرقة لمفكرين تميزت تصوراتهم بسعي دائم لتحديد معالم التحول، وكيفية تجاوز البائد من المعتقدات.

وقوفا: أحمد لحلافي، سيون أسيدون، محمد الخدادي، محمد المهدي، عبد الحميد أزماني، فؤاد اصواب.
جلوسا: محمد عْزيبو، الفقيد عبد العالي اليزمي، حبيب بنمالك. (سبتمبر 1983 بالسجن المركزي القنيطرة)
وقوفا: أحمد لحلافي، سيون أسيدون، محمد الخدادي، محمد المهدي، عبد الحميد أزماني، فؤاد اصواب.
جلوسا: محمد عْزيبو، الفقيد عبد العالي اليزمي، حبيب بنمالك. (سبتمبر 1983 بالسجن المركزي القنيطرة)

في الفصول الأربعة عشر، من زمن الحكي، تتداخل في السرد وقفات عند المثير من اللحظات المجتمعية والتحولات السياسية محليا وعالميا، كل ذلك في سياق ما يحيل على ديمومة التحولات المجتمعية وما يرافقها من اجتهادات فكرية، قوبلت في حينها بالصد والاستئصال. وهو ما يفضي إلى التأكيد على ان دينامية التحول وتقابل التصورات والمعتقدات، سمة بنوية في ارتباط مع ما يفرزه الاحتكاك والتفاعل مع بنيات فكرية وتجارب مجتمعية مختلفة أو متقاربة المعطيات. هو حوار دائم مع ما يعرفه الواقع من تطورات وما يقابله من مستجدات.

“على كل حال، فنحن أيضا كان لنا عصر ذهبي مجيد، وكنا نحتفي بالفلاسفة والمفكرين، فحتى المفكر الفرنسي الشهير (رينان)، أستاذ الكوليج دو فرانس، اعترف بأهمية فكر الفيلسوف ابن رشد وقيمته، وبأن أوربا مدينة لهذا الفيلسوف بالشيء الكثير”

كل ذلك استحضار وإحالة على مجمل ما شكل خلفية فكرية، في تحديد اختيار مجموعة من المبادئ والقيم الفكرية والسياسية، التي ظلت راسخة في المعتقد، وما شكل وازعا للانخراط في تجربة نضالية، كان يعي تبعات كل ما يمكن أن تحمله من عواقب، وما تكلفه من أقسى التضحيات.

شمس وهواء وحراس، هي في التفاصيل حكاية التصدي للقسوة والمغالاة في الانتقام، شهادة على أن هزم القناعات لا يتم بالجحود والعنف الظالم. هي الكشف على أن الوقائع المؤثرة في مسار التحولات المجتمعية شديدة التعقيد، وأن التردي أصاب كل مناحي الحياة.   

شارك هذا الموضوع

أحمد حبشي

فاعل جمعوي وناشط سياسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!