من المستفيد من زعزعة أمن لبنان؟

أحمد مطر
أعاد ما جرى في منطقة الروشة إلى الأذهان المخاوف العميقة من أن يبقى لبنان ساحة لصراع المعادلات المتناقضة، بين الدولة والدويلة وخلفياتها الإقليمية والدولية. فالمشهد الذي بدا وكأن حزب الله يتصرف خارج الأطر القانونية، أثار قلق اللبنانيين الذين يدركون أن أي تجاوز لمفهوم الدولة الواحدة القادرة، يفتح الباب مجدداً أمام حساسيات داخلية تقود إلى عواقب وخيمة، في وقت يشتد فيه التصعيد الإسرائيلي وترتفع احتمالات اندلاع حرب جديدة.
إن الخطر الأكبر الذي يواجه لبنان اليوم ليس فقط في الاعتداءات الإسرائيلية، ولا في التهديدات المتكررة التي تستهدف الحزب وبيئته، بل أيضاً في هشاشة الجبهة الداخلية وانقسامها حول مرجعية الدولة ودورها. ففي لحظة مفصلية كهذه، يصبح التماسك الداخلي شرطاً أساسياً للثبات في مواجهة أي عدوان، ويصبح الحفاظ على الدولة ومؤسساتها أولوية وطنية لا يعلو فوقها أي اعتبار آخر.
إن الدور المحوري لحزب الله، ليس بصفته طرفاً سياسياً أو قوة عسكرية فقط، بل باعتباره مكوِّناً أساسياً في المعادلة الوطنية، وواجبه تجاه الداخل اللبناني يفرض عليه أن يكون تحت سقف القانون، وأن يسهّل عمل مؤسسات الدولة بدل أن يضعها أمام الأمر الواقع. فالانتصار على إسرائيل لا يُقاس فقط بعدد الصواريخ أو العمليات الميدانية، بل أيضاً بمدى صلابة الجبهة الداخلية، وقدرة اللبنانيين على الصمود متّحدين خلف دولتهم
إنّ مشهد الدويلة التي تطغى على الدولة لا يخدم الحزب نفسه، لأنه يعمّق الانقسامات، ويُضعف صورة لبنان في الخارج، ويمنح خصوم الحزب ذرائع إضافية للتشكيك بأهدافه ودوره في محور الممانعة. أما التزامه بالقانون والنظام العام، فيحوّله من عبء داخلي إلى رصيد وطني جامع، ويعزّز شرعيته كجزء من منظومة سياسية تعمل تحت راية الدولة.
ينطلق تقييم شرعية سلاح حزب الله من زاويتين الأولى ترتبط بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، والثانية تنبع من الدستور اللبناني والمبادئ القانونية التي ترعى سيادة الدولة وهذا بالطبع مشروط بان يكون هذا المشروع تحت السقف الوطني، وهنا يبرز السؤال الاساس هل يمكن لسلاح الحزب أن يحتفظ به في ظل التطورات الدستورية والاتفاقيات الدولية، ولا سيما بعد اتفاق وقف الأعمال القتالية لعام 2025.
على صعيد القانون الدولي، نص القرار 1701، 2006 بوضوح على ضرورة حصر استخدام القوة بيد الدولة اللبنانية، وعلى خلو جنوب الليطاني من أي سلاح غير شرعي. غير أن حزب الله يستند إلى المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تكرّس حق الدفاع المشروع عن النفس، ليبرر استمرار سلاحه بذريعة وجود أراضٍ لبنانية محتلة، مثل مزارع شبعا وتلال كفرشوبا، وبفعل الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة. في هذا الإطار، يقرّ بعض الفقه الدولي بأن الاحتلال العسكري يسمح بممارسة المقاومة المسلحة، حتى من قبل فاعلين غير حكوميين، إذا كانت الدولة عاجزة أو غير راغبة في التصدي للاحتلال. وعليه، يمكن النظر إلى سلاح حزب الله في الجنوب بوصفه يتمتع بشرعية قانونية محدودة ومشروطة،بعدم ارتباطه بمشاريع اقليمية تهدد الوجدة الداخلية وتعمق الانقسام.
لكن اتفاق وقف الأعمال القتالية عام 2025 أضاف التزاماً جديداً على الدولة اللبنانية، إذ نص صراحة على سحب سلاح حزب الله من جنوب الليطاني وتنفيذ القرار 1701 بالكامل. هذا الالتزام يجعل أي استمرار للسلاح كما يتعارض مع الشرعية الدولية التي تُلزم الدولة اللبنانية بنزع السلاح.
أما شمال الليطاني، فالمسألة أكثر وضوحاً: إذ لا وجود لاحتلال إسرائيلي ييرر استمرار السلاح، ولا نصُا قانونياً يضفي عليه شرعية. بقاء السلاح في هذه المنطقة يُعتبر خرقاً مباشراً للقرار 1701، ومخالفة صريحة للدستور اللبناني الذي ينص على احتكار الدولة وحدها لوسائل القوة. فالمقاومة لا يمكن أن تتحوّل إلى مؤسسة دائمة قائمة بذاتها، بل تنتهي وظيفتها مع تولي الجيش اللبناني مسؤولياته الدفاعية.
على الحدود الشرقية وفي مناطق البقاع، يستند حزب الله إلى مبرر مختلف، هو مواجهة خطر الجماعات الإرهابية وحماية الحدود مع سوريا. غير أن القانون الدولي يفرّق بين مقاومة الاحتلال الأجنبي، التي يعترف بها ضمناً، وبين تدخّل جماعات غير حكومية في نزاعات إقليمية أو سيطرتها على أراضي دولة ذات سيادة. ومن ثم، فإن سلاح الحزب في تلك المنطقة لا يستند إلى أي أساس قانوني دولي، بل يعكس واقعاً مفروضاً بقوة السلاح خارج سلطة الدولة. هذا الواقع يتعارض مع مبدأ السيادة، إذ إن أي عملا دفاعيا داخل الأراضي اللبنانية يجب أن يتم حصرياً عبر الجيش والقوى الأمنية الشرعية. حتى من الناحية السياسية، فإن تصريحات صادرة عن القيادة السورية نفسها أشارت مؤخراً إلى أن مرحلة تدخّل حزب الله في سوريا باتت من الماضي، ما يعزز الدعوة لإعادة النظر في هذا الدور.
من زاوية الدستور اللبناني، المسألة أكثر صرامة. فالدستور والبيانات الوزارية المتعاقبة منذ عام 2005 أكدت أن الدولة وحدها تحتكر القوة والسلاح. وبذلك، فإن أي سلاحا خارج إطار الشرعية الرسمية يبقى موضع تعارض مع مبدأ السيادة الوطنية، مهما كانت المبررات.
ختامًا الرهان اليوم على وعي اللبنانيين، وعلى إدراك حزب الله خصوصاً أ قوته لا تُقاس بقدرته على فرض الأمر الواقع ضد هيبة الدولة، بل بقدرته على التلاقي مع بقية المكوِّنات تحت مظلة الدولة. فالدولة وحدها هي التي تؤمّن الشرعية والغطاء، وهي التي تحمي الجميع من فتنة الداخل وعدوان الخارج في آن واحد.
إن الرسالة التي يجب أن تخرج من أحداث الروشة واضحة وبسيطة: لا خلاص للبنان إلا بالدولة، ولا قوة تعلو فوق قوة القانون. وفي زمن التهديدات الإسرائيلية المتعاظمة، لا خيار أمام اللبنانيين سوى التمسك بدولتهم كملاذ أخير، وضمانة أكيدة لوحدتهم وصمودهم.