من قتل عمر بنجلون…؟!
عبد الرحيم التوراني
♦ أعيد هنا نشر هذا المقال، الذي سبق تعميمه على عدة مجموعات بالفيسبوك قبل ثماني سنوات، وذلك بمناسبة الذكرى الخمسين لاستشهاد المناضل عمر بنجلون… لاعتقادي بأن المقال يمثل قراءة سياسية وتاريخية حادة ومباشرة لمرحلة مفصلية في تاريخ المغرب المعاصر. وتتدفق فقراته من لحظة الاغتيال وصولاً إلى مآلات العمل السياسي اليوم.
وبغاية إضفاء صبغة توثيقية أقوى على هذا النص التاريخي الحساس، قمتُ بإدراج مجموعة من الهوامش والمراجع التي تدعم الرواية السياسية للأحداث، مع تدقيق بعض التواريخ المفصلية لتكون مرجعاً للقارئ والباحث ♦
كان الحسن الثاني مستعجلاً يرغب في تنفيذ مشروعه الكبير، الذي سيعرف باسم “المسلسل الديمقراطي”، للتمكن من الخروج من “حالة الاستثناء” التي طال أمدها، خاصة بعد فتح ملف “قضية الصحراء”. فبدأ باستقطاب أحزاب المعارضة اليسارية، ولا سيما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بقيادة عبد الرحيم بوعبيد، وحزب التقدم والاشتراكية بقيادة علي يعته، حيث قام الزعيمان برحلات دبلوماسية مكوكية بين دول العالم، وخاصة دول المعسكر الشرقي ودول عدم الانحياز، من أجل الدفاع عن موقف المغرب وشرح سياسته بشأن استكمال وحدته الترابية واسترجاع أقاليمه الصحراوية الجنوبية.
لكن المناضل البارز عمر بنجلون، عضو المكتب السياسي لحزب الاتحاد الاشتراكي، سيقف في وجه سياسة الحسن الثاني هذه، مُلِحًّا على ضرورة تصفية الجو السياسي العام، بالإفراج عن جميع المعتقلين السياسيين دون استثناء، وعودة المنفيين والمغتربين السياسيين، وانتخاب جمعية تأسيسية تتولى صياغة دستور جديد يعرض على استفتاء شعبي.
فشل عبد الرحيم بوعبيد في إقناع عمر بنجلون بمسايرة الحسن الثاني، وحاول في غياب عمر استصدار قرار باسم المكتب السياسي يرد على الحسن الثاني بموافقة الاتحاد الاشتراكي على الدخول في اللعبة الديمقراطية والمشاركة في الانتخابات. لكن عمر بنجلون اعترض بقوة، ووصل به الغضب إلى حد الاعتزال في بيته لفترة، والتفكير في الاستقالة من العمل السياسي. (التفاصيل نُشرت بمجلة “السؤال – الملف”، عدد خاص بالراحل محمد الباهي، يونيو 1996).
تكلم الحسن الثاني مع بوعبيد بحزم، مطالبًا إياهم بإزاحة “عثرة بنجلون”، أو أن المخزن هو من سيتكفل به.
عاد بوعبيد إلى عمر واقترح عليه الاستقرار لفترة في باريس، فاستغرب عمر بنجلون الاقتراح ورفضه، وأصر على الاستمرار في نضاله من أجل الطبقة العاملة والشعب المغربي.
بعدها بأسابيع، وتحديدًا في يوم الخميس 18 ديسمبر 1975، تم اغتيال عمر بنجلون أمام بيته بشارع كاميل دي مولان بالدار البيضاء، بعد تغيير خطة اغتياله التي كانت مقررة أمام باب جريدة “المحرر” التي كان يديرها. ولم تمر سوى أشهر قليلة حتى نُظمت انتخابات بلدية في الجمعة 12 نوفمبر 1976، تلتها انتخابات برلمانية في الجمعة 3 يونيو 1977، لينطلق المسلسل الطويل الذي لا يزال مستمرًا إلى يوم الناس هذا.
في أربعينية الاغتيال، نُظم حفل تأبيني كبير للشهيد بقاعة الأفراح في شارع الجيش الملكي بالدار البيضاء، ترأسه عبد الرحيم بوعبيد، وحضره الشاعر العربي الكبير المصري أحمد عبد المعطي حجازي، الذي قرأ قصيدته المشهورة “عرس المهدي” (منشورة بديوانه “كائنات مملكة الليل”، دار الآداب، بيروت، 1978). كما طُبع كراس يتضمن بعض افتتاحيات الشهيد في جريدة “المحرر” مع رسوم فلسطينية، أشرف على تصميمه الفنان والخطاط الراحل أحمد الجوهري. ووضعت صورة عمر في أعلى ترويسة “المحرر” تحت شعار “شهيد المحرر”، وبعد منع الجريدة، حلت محلها “الاتحاد الاشتراكي” وتحول الشعار تحت الصورة إلى “شهيد صحافة الاتحاد الاشتراكي”، اقتباسًا من مجلة “الهدف” التي وضعت صورة رئيس تحريرها الشهيد غسان كنفاني.
وكانت أسبوعية “المغرب العربي”، التي كان يصدرها عبد الكريم الخطيب، قد احتفت في الأسبوع الموالي للجريمة باغتيال عمر بنجلون على صدر صفحتها الأولى بعنوان بالبنط العريض. وعلق الإسلامي عبد الإله بنكيران (الذي سيرأس الحكومة المغربية سنة 2012) على محاكمة القتلة مستغربًا: “كيف يحاكم رجال مؤمنون في جريرة كلب أجرب؟”.
كما أن وثائق قضية اغتيال عمر بنجلون اختفت لحجب حقيقة المتآمرين الحقيقيين، وعلى رأسهم عبد الكريم الخطيب الذي قدم المساعدة الكاملة للمتورطين في عملية الاغتيال. وللتستر على حقائق الجريمة، ستتم تصفية النعماني لاحقًا حتى لا يظل هناك خيط رابط مع القتلة الحقيقيين. أما القتلة الصغار (أدوات التنفيذ)، فقد كانوا أباطرة داخل سجن عكاشة، يتاجرون في المواد الغذائية وغير الغذائية بين السجناء، ويمارسون السمسرة بين النزلاء وإدارة المعتقل، كما كان يُسمح لهم بالخروج، حيث تمكنوا من تأسيس أسر قبل إطلاق سراحهم.
ثم صار حزب الاتحاد الاشتراكي، بالتدرج الواضح والتدحرج السريع، يلقي بنفسه في أحضان المخزن وكنفه، واكتمل الاحتضان مع حكومة التناوب بزعامة عبد الرحمن اليوسفي “الحالف على المصحف” (القسم السري)، الذي لم يجد ما يقوله للتاريخ والأجيال عبر أكثر من ثلاثة مجلدات، سوى الكلام عن بطولاته على رأس حكومة التناوب أو التوافق، فمنها بدأ التاريخ وانتهى. وكان التتويج الكبير، أو ضربة القاضية “K.O”، في ولاية “خادم الدولة” إدريس لشكر، والحبيب المالكي سليل الإقطاع والمبشر بالتطبيع من كرسي رئاسة مجلس النواب مع دولة العدو الصهيوني (وفق تصريحه الأخير لصحيفة “معاريف” الإسرائيلية).
إن نظام الحسن الثاني هو من أمر باغتيال عمر بنجلون، وجماعة عبد الكريم مطيع لم تكن سوى وسيلة طيعة للتنفيذ. و”لجنة الاغتيال” باتت أسماؤها معروفة، ومن ضمنها الجنرال حسني بنسليمان وخاله عبد الكريم الخطيب، هذا الأخير هو من تولى حماية بعض المتورطين في الجريمة (عبد العزيز النعماني)، ثم أكمل المهمة بفتح مجال العمل السياسي المشروع أمام التنظيم السري للقتلة، واحتضنهم في حزب الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية قبل تغيير الاسم إلى “العدالة والتنمية”.
ما يفيد بأن حزب العدالة والتنمية هو من صناعة النظام، وعندما احتاج المخزن إلى “إسلامييه”، وجدهم جاهزين بعد اندلاع ثورات الربيع العربي لإخماد حركة 20 فبراير، ولا يزال المخزن يستعملهم قبل أن ينهي زمنهم قريباً بنهاية الفعالية والصلاحية.
(الدار البيضاء 18 ديسمبر 2018)
في سياق الشرح والتفصيل:
لم تكن أحداث تلك الحقبة مجرد صدف متلاحقة، بل كانت ترسيخًا لمسارٍ رُسمت معالمه بدقة.. فبعد أسابيع قليلة من نشوة “المسيرة الخضراء”، وفي الثامن عشر من ديسمبر 1975، نُفذت عملية اغتيال عمر بنجلون لتزيح من الطريق أقوى الأصوات المعارضة لمنطق “المسلسل الديمقراطي” كما أراده القصر.
هذا الغياب القسري لعمر بنجلون عبّد الطريق أمام السلطة لإطلاق قطار الانتخابات دون “عثرات” إيديولوجية كبرى، فجاءت الانتخابات الجماعية في الثاني عشر من نوفمبر 1976 كأول اختبار ميداني لهذا المسار الجديد، تلتها مباشرة الانتخابات التشريعية في الثالث من يونيو 1977، التي أفرزت أول برلمان ينهي رسمياً سنوات “حالة الاستثناء”، ويؤسس لمرحلة جديدة من التعايش بين المعارضة الاتحادية والمخزن.
استمر هذا المسار في النضج على نارٍ هادئة، حتى بلغ ذروته التاريخية في الرابع من فبراير 1998، حين عُيّن عبد الرحمن اليوسفي وزيراً أول فيما عُرف بـ “حكومة التناوب التوافقي”. كانت تلك اللحظة، في نظر الكثيرين، هي الإعلان الرسمي عن طي صفحة “المواجهة” وفتح صفحة “الاحتواء”، حيث انتقل رفاق الشهيد بنجلون من مقاعد المعارضة الراديكالية إلى كراسي التدبير الحكومي، منهين بذلك فصلاً طويلاً من الصراع ومبتدئين فصلاً آخر من الاندماج الكامل في بنية النظام.
هكذا تكتمل حلقة التحليل التاريخي لنصل إلى “النكسة” الراهنة.. فالمسألة لم تعد تتعلق باغتيال جسدي لمناضل في السبعينيات، بل بعملية “إبادة رمزية” لتاريخ كامل.
لم يكن اغتيال عمر بنجلون في ديسمبر 1975 إلا البداية، فبعد عقود من “سنوات الرصاص” التي دفع فيها اليسار المغربي والاتحاد الوطني للقوات الشعبية ضريبة باهظة من دماء أبنائه، بين اعتقالات وحشية وتعذيب واختطاف قسري، وقتل وتغييب ممنهج، صفا الجو للنظام لينهي مهمته الأخيرة… لم تكن هذه المهمة تتطلب رصاصًا هذه المرة، بل “احتواءً” يفرغ الحزب من روحه.
لقد نجح النظام في “اختطاف” حزب بن بركة وبنجلون، وتحويله إلى ما يشبه “القمامة السياسية” التي تفوقت في فظاعتها ونذالتها على أي تنظيم مجهري صنعه “المخزن” في مختبراته. هذه المهمة نُفذت ببراعة على يد إدريس لشكر وكمشة من المنتفعين الدائرين في فلكه (…)، هؤلاء الذين ارتضوا لأنفسهم دور “الحارس” على أطلال حزبٍ كان يزلزل الأرض تحت أقدام الاستبداد.. وقد تابعنا كيف تخلى لشكر عن بعضهم في قيادته الجديدة.
إن ما يجري اليوم ليس مجرد تدبير حزبي فاشل، بل هو الاغتيال الحقيقي والنهائي للشهداء.. هو قتلٌ ثان لعمر بنجلون، وتشويهٌ متعمد لتاريخ اليسار المغربي. فأن ينتهي طموح التغيير و”التحرير والديمقراطية والاشتراكية” بتقديم قرابين الطاعة والبحث عن المناصب والامتيازات المادية تحت عباءة “خدام الدولة”، هو النتيجة الأكثر مأساوية لسيناريو بدأ بدم عمر، وانتهى بـ “مبخرة” التوافقات الرخيصة.
لقد غادرت قوافل من المناضلين الاتحاديين الأصيلين المشهد، وبقي لنا نصيبنا من الذكرى، وبعض المتفرجين الذين لم يكونوا يدركون أن حلم التغيير والديمقراطية الذي جذبهم ذات يوم وساروا نحوه سينتهي عبر هذا الانكسار التاريخي المرير.
هوامش:
– 18 ديسمبر 1975: هو التاريخ الذي تلا المسيرة الخضراء (نوفمبر 1975) بأسابيع قليلة، وهو ما يفسر “الاستعجال” الذي ذكره النص لتثبيت أركان “المسلسل الديمقراطي” دون معارضة “مزعجة”.
– شارع كاميل دي مولان: يسمى حالياً “شارع المسيرة الخصراء” بالدار البيضاء (حي المعاريف)، وتحديدًا أمام البيت رقم 14.
– تقرير هيئة الإنصاف والمصالحة (المجلد الخاص بالاختفاء القسري والاغتيال): يتضمن إشارات إلى تورط “الشبيبة الإسلامية” وتدخل أجهزة أمنية في التغطية على المتورطين.
– كتاب “عمر بنجلون: حياة لن تموت”: يجمع شهادات رفاقه حول الصراع داخل المكتب السياسي قبيل الاغتيال.
– مذكرات عبد اللطيف جبرو: وخاصة كتيب “الحقيقة أولاً“، الذي فصل فيه الخلافات بين بوعبيد وبنجلون حول المشاركة في المسلسل الانتخابي.
– تصريح عبد الإله بنكيران: ورد في سياق محاكمات الثمانينيات لأعضاء الشبيبة الإسلامية، ونُقل في عدة مراجع صحفية استحضرت مسار الرجل قبل دخوله العمل السياسي الرسمي (راجع أرشيف جريدة “أنوال” أو كتابات الباحث “محمد ضريف” حول التيارات الإسلامية).
– اختفاء الوثائق: أشار محامو الدفاع (من بينهم النقيب عبد الرحمن بنعمرو) في عدة ندوات صحفية إلى أن “ملف القضية” في المحكمة تعرض لعملية بتر وسرقة لوثائق أساسية تتعلق بالاتصالات الهاتفية والاعترافات الأولية.
– كتاب “أحاديث في ما جرى” (ثلاثة أجزاء)، عبد الرحمن اليوسفي: رغم نقده في النص أعلاه، إلا أنه يمثل الرواية المقابلة (رواية المؤسسة الحزبية) حول تلك المرحلة.
– كتاب “الحسن الثاني والاتحاد الاشتراكي: صراع الإرادات” ، محمد لومة: يقدم تفاصيل عن الرسائل المتبادلة بين القصر وبوعبيد حول “عثرة” عمر بنجلون.
– أنتروبولوجيا تاريخ الأفكار في المغرب المعاصر ، نظرات في كتابات عمر بنجلون ( 1936 – 1975 )- تأليف: ﺑﺪر اﻟﻤﻘﺮﻱ- مؤسسة آفاق للدراسات والنشر والاتصال 2025.
– ديوان “كائنات مملكة الليل” – أحمد عبد المعطي حجازي: قصيدة “عرس المهدي” (التي ألقيت في أربعينية عمر) ترمز إلى المهدي بن بركة وعمر بنجلون كرموز للنضال المغدور.
– أرشيف جريدة “المحرر” (ديسمبر 1975 – يناير 1976): يمكن العودة إليه لمشاهدة التغطية الجنائزية وتصميمات الراحل أحمد الجوهري.
