من كيسنجر إلى سوروس.. جيبوليتيك العالم والرؤية المتناقضة بين الانتصار والسقوط

د. زياد أسعد منصور
يعلمنا التاريخ السياسي أن الشباب غالبًا ما ينجرف وراء نزواته، بينما كبار القادة يمتلكون تجربة تمكنهم من رؤية الأمور بوضوح. قبل أكثر من مئة عام، اعتقد كثيرون في روسيا وأوروبا أن وجود ليف تولستوي كان سيمنع اندلاع الحرب العالمية الأولى، مع أن تولستوي كان سيبلغ 85 عامًا فقط في عام 1914، مقارنةً بكيسنجر الذي كان سيبلغ المئة وسوروس الذي وصل الآن إلى الثانية والتسعين. إن المقارنة بين هذه الشخصيات توضح كيف تتطور الخبرة والنظرة الاستراتيجية عبر الأجيال، وكيف تختلف أولويات القادة بناءً على تجاربهم وحجم تأثيرهم العالمي.
خلفيات الرجلين ورؤاهما للعالم
كيسنجر وسوروس كلاهما أمريكيان من أصول مهاجرة يهودية وأوروبية: كيسنجر من بودابست مجري الأصل، وسوروس من فورث بألمانيا. رغم تقدمهما في العمر، استمر كلاهما في التأثير على السياسة العالمية، لكن بطرق مختلفة. كيسنجر كان دبلوماسيًا واقعيًا يركز على التسوية والوفاق، بينما سوروس ركّز على تعزيز “المجتمعات المفتوحة” ومواجهة الأنظمة القمعية، مؤكدًا على حماية الحريات الفردية ومكافحة المشاكل العالمية مثل تغير المناخ ومنع الحرب النووية. الاقتباسات من كل منهما توضح اختلاف الأسلوب: فبينما دعا كيسنجر إلى التفاوض العاجل لتجنب الكارثة، ركز سوروس على أهمية الدفاع عن نظام عالمي قائم على القيم الليبرالية.
تأثيرهما على روسيا والسياسة الأوروبية
كيسنجر أثر عمليًا في مجال التسوية السلمية، وأظهر احترامًا لزملائه وخصومه الروس، حيث كان آخر ظهور له في مؤتمر بريماكوف بموسكو، مؤكدًا على الحوار والتواصل. أما سوروس، فقد لعب دورًا اقتصاديًا وسياسيًا في روسيا من خلال خصخصة شركات ضخمة، مثل سفيازينفست، وساهم في تشكيل النظام النيوليبرالي الروسي، لكنه تعرض لانتقادات لكونه أحيانًا متعصبًا تجاه روسيا. في أوروبا، واجه سوروس صعود الحركات الوطنية اليمينية، ودعم أحزابًا يسارية ومنظمات غير حكومية لتعزيز القيم الليبرالية، كما ظهر ذلك في اليونان مع سيريزا، وفي إسبانيا مع بوديموس، وفي إيطاليا مع حركة الخمس نجوم، وفي هنغاريا حيث تحدى أوربان نفوذ مؤسسته.
البراغماتية مقابل الرؤية العالمية
كيسنجر يمثل البراغماتية القديمة، يركز على التسويات الواقعية والوفاق لتجنب النزاعات، ومستعد لقبول حلول وسط من أجل الحفاظ على السلام. في المقابل، سوروس يمتلك رؤية أوسع وطموحًا أكبر، يسعى لحماية “المجتمعات المفتوحة” ومواجهة الأنظمة القمعية عالميًا، أحيانًا بأساليب حازمة. يتضح من ذلك أن كلا الرجلين يسعيان إلى منع الفوضى العالمية، لكن بأساليب مختلفة: كيسنجر من خلال الدبلوماسية والتفاوض الواقعي، وسوروس عبر التحالفات السياسية والتمويل الدولي للقوى الليبرالية، مما يبرز كيف تتقاطع الخبرة السياسية مع الطموح العالمي في رسم خريطة القوى على الساحة الدولية.
أوروبا على صفيح ساخن
تشهد الجغرافيا السياسية الأوروبية تحولات عميقة تشبه الزلازل. حركة اليورو-متشككين تزداد شعبيتها يومًا بعد يوم، وكان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (البريكست) أول شرخ كبير في الكتلة الأوروأطلسية الموحدة سابقًا. في هذا السياق، يظهر جورج سوروس، المضارب المالي العالمي، كلاعب رئيسي يسعى لتشكيل “نظام عالمي جديد” عبر دعم القوى الليبرالية والمنظمات غير الحكومية، وذلك لمواجهة صعود الأحزاب الوطنية والمحافظة.
سوروس واليسار الأوروبي
تقليديًا، شكل السياسيون الاشتراكيون-الديمقراطيون الحليف الأساسي لسوروس في أوروبا. ومع تنامي الغضب الشعبي تجاه السياسات الحكومية، حوّل سوروس دعمه المالي إلى أداة استراتيجية لضمان استمرار النفوذ الليبرالي. تمويله لم يُوجّه بشكل عشوائي، بل استهدف اليسار الأوروبي ليكون خط الدفاع الأول ضد الأحزاب الوطنية-الهوية التي تزداد شعبيتها، وكي يضمن ألا تخرج القيم الليبرالية عن سيطرة مؤسساته.
اليونان كمختبر سياسي
تجربة اليونان توضح استراتيجية سوروس بوضوح. تحالف “سيريزا” اليساري الراديكالي بدأ بموقف مناهض للاتحاد الأوروبي وخطط للخروج منه، إلا أن تدخل سوروس – عبر علاقاته بوزير المالية يانيس فاروفاكيس – ساهم في تغيير موقف الحزب، فقبل خطة الاتحاد الأوروبي للخروج من الأزمة. النتيجة كانت تقريبًا “بيع” اليونان سياسياً واقتصادياً، مع إبقاء النفوذ الليبرالي على الأرض.
تجارب مماثلة في إسبانيا وإيطاليا
في إسبانيا، قامت حركة “بوديموس” بجمع مختلف التوجهات اليسارية تحت رايتها، لكن لاحقًا خففت خطابها الراديكالي بعد دعم غير مباشر من مؤسسات سوروس. أما في إيطاليا، فقد انطلقت “حركة الخمس نجوم” كمجموعة معارضة للاتحاد الأوروبي، لكنها تحولت لاحقًا لموقف مؤيد له، وهو دليل على التدخل المباشر للقوى الكبرى، بما في ذلك سوروس، لتوجيه مسار اليسار الأوروبي.
تحولات الغرب الأوروبي
في هولندا وألمانيا وفرنسا، أدت الانتخابات إلى صعود اليسار المعتدل والليبرالي، بينما حاولت الأحزاب الوطنية المحافظة تعزيز شعبيتها. هنا يظهر تأثير سوروس في دعم الحملات الليبرالية والسياسات الاجتماعية التي تصب في مصلحة اليسار، لضمان عدم وصول التيارات اليمينية إلى السلطة. هذه التحولات تعكس سعيه لتأمين نفوذه السياسي في قلب الاتحاد الأوروبي.
مواجهة القوى الوطنية
من جهة أخرى، حاولت بعض الدول، مثل هنغاريا، مقاومة النفوذ الليبرالي لسوروس. أعلن رئيس الوزراء فيكتور أوربان عن حملة لتطهير البلاد من المنظمات غير الحكومية الممولة من سوروس، معتبرًا أن هذه المنظمات تهدد الهوية الوطنية والسيادة. هذا الصراع يبرز مدى حساسية الدول الأوروبية تجاه تدخلاته، ويؤكد أن نفوذه ليس مطلقًا في كل مكان.
أدوات سوروس في السياسة الأوروبية
تمويل الأحزاب والمنظمات غير الحكومية لم يكن الهدف منه فقط دعم اليسار، بل أيضًا توجيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية بما يتماشى مع القيم الليبرالية. فالمؤسسات المدعومة من سوروس أصبحت قادرة على التأثير في القرارات السياسية، من سياسات الهجرة إلى القوانين الاجتماعية والاقتصادية، ما يجعل الدور المالي والسياسي لسوروس محورياً في رسم مستقبل القارة.
استشراف المستقبل الأوروبي
من المتوقع أن يستمر نفوذ سوروس في أوروبا، عبر تحريك “الجيوش” الحمراء والخضراء والزرقاء لدعم اليسار ومواجهة صعود الأحزاب الوطنية. ومع تصاعد شعبيتها في فرنسا وألمانيا وإيطاليا، تبدو الانتخابات القادمة كحلبة صراع حاسمة، حيث يلعب سوروس دورًا رئيسيًا في منع التيارات اليمينية من السيطرة، وضمان أن تظل القيم الليبرالية محور السياسة الأوروبية.
سوروس والحرب الأوكرانية – وصية سوروس
في 16 شباط 2023 ألقى جورج سوروس، أحد أبرز منظّري وممارسي العولمة والأحادية القطبية والحفاظ على الهيمنة الغربية بأي ثمن، خطابًا في مؤتمر ميونيخ للأمن بألمانيا، يمكن اعتباره خطابًا تاريخيًا، لخّص فيه الوضع الذي وصل إليه في أواخر حياته التي كرّسها كليًا لمعركة «المجتمع المفتوح» ضد أعدائه «المجتمعات المغلقة»، وفق تعاليم معلّمه كارل بوبر. فإذا كان فريدريك هايك وكارل بوبر بمثابة “ماركس وإنجلز” للعولمة الليبرالية، فإن بوبر هو “لينينها”.
قد يبدو سوروس في بعض الأحيان غريب الأطوار، لكنه غالبًا ما يصرّح علنًا بما يتحول لاحقًا إلى الاتجاهات الكبرى في السياسة العالمية. رأيه – في نظر كثيرين – أهم بكثير من تمتمات بايدن الغامضة أو خطب أوباما المليئة بالديماغوجيا، وتقلبات ترامب السريعة. فجميع الليبراليين والعولميين في النهاية يسيرون على خطاه. سوروس هو بمثابة الاتحاد الأوروبي، والاستخبارات البريطانية والأمريكية، ومجلس العلاقات الخارجية، واللجنة الثلاثية، وماكرون، وميرتز ، وبيربوك، ، وزيلينسكي، وساندو، وباشينيان، وعلييف، وكل من يقف خلف الغرب وقيمه الليبرالية وما يسمى «التقدّم» و«ما بعد الحداثة». إنّه شخصية محورية. وخطابه هذا أشبه برسالة إلى «الجمعية الفدرالية» للعالم – أو وصية إلى كل عملاء العولمة، نائمين كانوا أم نشطين.
المحاور الأساسية
يبدأ سوروس بالتأكيد على أن الوضع العالمي بلغ مرحلة حرجة، محدّدًا عاملين أساسيين:
- الصدام بين نظامي حكم («المجتمع المفتوح» ضد «المجتمع المغلق»).
- تغيّر المناخ.
موضوع المناخ – الذي ختم به خطابه – أرجأه إلى النهاية، أما الصراع بين النموذجين السياسيين فقد احتل الحيّز الأكبر من كلمته. وهو في جوهره صراع بين أنصار العالم الأحادي القطبية (سوروس نفسه، وشواب، وبايدن، والبيروقراطية الأوروبية، وحلفاؤهم الإقليميون مثل نظام زيلينسكي) وبين أنصار العالم المتعدد الأقطاب.
المجتمع المفتوح والمغلق
عرّف سوروس «المجتمع المفتوح» بأنه النظام الذي يحمي فيه الدولة حرية الفرد. أما «المجتمع المغلق» فهو النظام الذي يُسخَّر فيه الفرد لخدمة الدولة. وهذا يعكس ثنائية: الديمقراطية الليبرالية الغربية في مواجهة المجتمعات التقليدية. وفي العلاقات الدولية يوازي ذلك الجدل بين «الليبراليين» و«الواقعيين». وعلى المستوى الجيوسياسي يتجسد في مواجهة «حضارة البحر» و«حضارة البر».
حضارة البحر: مجتمع تجاري، أوليغارشي، رأسمالي، مادي، تقني، قائم على المتعة الفردية الأنانية. ديمقراطية ليبرالية تدمّر كل القيم التقليدية: الدين، الدولة، الطبقات، الأسرة، الأخلاق. رمزها قرطاج الفينيقية القديمة – قطب إمبراطورية استعمارية-عبودية قائمة على عبادة العجل الذهبي وطقوس دموية كتقديم الأطفال قرابين. هذا هو «المجتمع المفتوح».
في المقابل، روما – حضارة البر: مجتمع قائم على الشرف، الوفاء، التقاليد المقدسة، البطولة، الخدمة، التسلسل الهرمي، والاستمرارية مع الأسلاف. عبد الرومان آلهة السماء النقية ورفضوا باحتقار الطقوس الدموية للتجار والقراصنة. هذا هو النموذج الأول لـ «المجتمعات المغلقة».
سوروس هو التجسيد الحي لليبرالية والأطلسية والعولمة و«حكم البحر». وهو يقف بوضوح مع قرطاج ضد روما. وإذا كان كاتو الأكبر قال عبارته الشهيرة «يجب أن تُدمّر قرطاج»، فإن معادلة سوروس المعاصرة تقول: «يجب أن تُدمّر روما» – والمقصود هنا «روما الثالثة»، أي موسكو. وهكذا يعمل سوروس على خلق معارضة مصطنعة داخل روسيا، ويدعم الأنظمة المعادية، والأحزاب، والحركات، والمنظمات غير الحكومية المناوئة في فضاء ما بعد الاتحاد السوفييتي.
بالنسبة له: «روما يجب أن تُدمّر»، لأنها «المجتمع المغلق»، وعدو «المجتمع المفتوح». والأعداء يُبادون، وإلا أبادوك. هذه هي المنطقية البسيطة التي تتبناها نخب العولمة الليبرالية. ومن يختلف مع سوروس في الغرب نفسه – مثل دونالد ترامب وأنصاره – يُصنَّف فورًا «نازيًا»، ويُقصى ويُلغى («Cancel»). علماً أن تعريف «النازية» لدى سوروس يقتصر فقط على معارضيه: فحتى إن كان الإرهابي الأوكراني يرفع الصليب المعقوف وملطّخ اليدين بالدماء، لكنه ضد «روما»، فلن يُعدّ نازيًا، بل «مجرد أطفال». أما من يقف إلى جانب «روما» – مثل ترامب، أو بوتين، أو شي جين بينغ – فهو نازي يقينًا. منطق ثنائي تبسيطي، لكنه الذي يحكم سلوك النخب العالمية.
المتردّدون
بعد رسم معسكرين متقابلين، يتوجه سوروس إلى الأنظمة الواقعة في الوسط – بين قرطاج (الولايات المتحدة وحلفاؤها) وروما (موسكو وشركاؤها). من هذه الحالات مثلًا: الهند بقيادة مودي، التي انضمت من جهة إلى التحالف الأطلسي (QUAD)، لكنها في الوقت ذاته تشتري النفط الروسي بنشاط (أي تعاون مع «روما»).
تركيا، الهند، والبرازيل: مجتمعات “نصف مفتوحة” تحت التهديد
الوضع نفسه ينطبق على تركيا أردوغان. فهي عضو في الناتو، لكنها في الوقت ذاته تقمع بشدّة الإرهابيين الأكراد الذين يحظون بدعم مباشر من سوروس. وفق منطق الأخير، كان على أردوغان أن يدمّر دولته بيديه ليصبح “الولد الجيد” تمامًا، أي في صف “المجتمع المفتوح”. أما الآن، فهو، مثل مودي، “نازي نصفه فقط”. وبأسلوب غير مباشر، يلمّح سوروس إلى ضرورة الإطاحة بمودي وأردوغان وإغراق الهند وتركيا في فوضى دموية، لتتحول المجتمعات “نصف المغلقة – نصف المفتوحة” إلى “مفتوحة بالكامل”. وليس غريبًا أن أردوغان لا يأبه لمثل هذه النصائح، بل يفعل عكسها، بينما مودي بدأ يدرك الأمر، وإن بحدة أقل.
الاختيار ذاته يطرحه سوروس أمام الرئيس البرازيلي اليساري لولا دا سيلفا، الذي أعيد انتخابه مؤخرًا: إمّا خضوع كامل للأوليغارشية الليبرالية العالمية، أي “المجتمع المفتوح”، أو التمسك بالسيادة والانضمام إلى تكتلات متعددة الأقطاب مثل “بريكس”، مع تهديد الفوضى الدموية إذا تمرّد. سوروس شبّه احتجاجات أنصار ترامب في 6 كانون الثاني 2021 بواشنطن بأحداث 8 كانون الثاني في البرازيل حين اقتحم أنصار بولسونارو مؤسسات الدولة. رسالته للولا واضحة: «افعل كما فعل بايدن، وسيقف قرطاج إلى جانبك. وإلا…». وبما أن سوروس عُرف بدعمه المباشر لـ “الثورات الملوّنة” وتمويله لمختلف التنظيمات الإرهابية طالما كانت ضد “روما” أي “المجتمعات المغلقة”، فإن تهديداته ليست مجرد كلام. فهو قادر على إسقاط حكومات ورؤساء، وضرب عملات وطنية، وإشعال حروب، وتنفيذ انقلابات كاملة.
أوكرانيا: رأس حربة الهيمنة الليبرالية ضد التعددية القطبية
بعد ذلك ينتقل سوروس إلى الحرب في أوكرانيا. ويؤكد أن كييف بحلول خريف 2022 كانت قد قاربت على الانتصار على روسيا، وهو ما أُعاق – بحسبه – بسبب تردّد بعض “عملائه” المندسين في موسكو الذين كبَحوا قرارات الكرملين الحاسمة في المرحلة الأولى. لكن منذ أكتوبر تغيّر الوضع: روما (روسيا) أعلنت التعبئة الجزئية، وبدأت في تدمير البنية التحتية الصناعية والطاقة في أوكرانيا، أي أنها شرعت في القتال فعليًا “على الجد”.
وتوقّف سوروس عند شخصية يفغيني بريغوجين ومجموعة “فاغنر”. برأيه، هم العامل الحاسم الذي يمكن أن يقلب المعادلة. هنا يطرح السؤال: إذا كان تشكيل عسكري خاص صغير، يقاتل “كما يجب”، قادرًا على تغيير موازين الحرب الكبرى بين “المجتمعات المغلقة” و“المفتوحة”، فما الذي تفعله إذن المؤسسة العسكرية الروسية الرسمية؟ قد يكون سوروس بالغ في رمزيته، لكن – للأسف – كثيرًا ما يكون محقًا. فهو يعرف جيدًا ما تستطيع فعله مجموعة صغيرة متماسكة من “المتطوعين المتحمسين”. وعلى مثل هذه المجموعات اعتمد سوروس مرارًا لتنفيذ انقلابات، كسب حروب، وإسقاط زعماء سياسيين. وعندما تنتقل مثل هذه القوى إلى جانب “روما”، عندها يبدأ “قرطاج” نفسه بالقلق.
ثم استعرض سوروس حجم الدعم العسكري الغربي لأوكرانيا، ودعا لزيادته بلا حدود حتى يتم تدمير روسيا بالكامل. عندها فقط ستكون تلك “الانتصار الحاسم للمجتمع المفتوح” – ذروة مشروع حياة سوروس والهدف الأعلى للعولميين. وأعلن بوضوح أن الهدف من حرب أوكرانيا هو “تفكيك الإمبراطورية الروسية” (the dissolution of the Russian empire). ولتحقيق ذلك، يجب تجنيد كل القوى، وإقحام جميع دول الفضاء السوفييتي السابق في المواجهة مع موسكو، وفي مقدمتها مايا ساندو الموالية لسوروس في مولدوفا. أما بريغوجين، فيجب تصفيته، فيما ينبغي دعم كل خصومه، في الداخل والخارج على حد سواء.
الصين والمنطاد الذي أفسد كل شيء
ينتقل سوروس إلى عدوه الثاني الأكبر – الصين، باعتبارها مجتمعًا «مغلقًا» آخر. يرى سوروس أن شي جين بينغ ارتكب أخطاء استراتيجية في إدارة أزمة كورونا (التي – بحسب الرواية النقدية – صُنعت وزُرعت عمدًا في البشرية بإيعاز مباشر من سوروس وحلفائه من أجل جعل العالم أكثر انفتاحًا أمام شركات الأدوية العملاقة. ويعتبر سوروس أن مواقع شي السياسية ضعفت، وأن حادثة إسقاط المنطاد الصيني ستؤدي إلى جولة جديدة من التوتر مع واشنطن، رغم بعض الانفراج المؤقت في العلاقات. أزمة تايوان مجمّدة لكنها لم تُحل. أما إذا جرى تحييد روسيا، فلن يبقى أمام «المجتمع المفتوح» عائق حقيقي في مواجهة الصين. حينها يمكن لسوروس ومن بعده إطلاق «الثورات الملوّنة»: انتفاضات عرقية، انقلابات، وأعمال إرهابية – وهو خبير في ذلك، وحرص على أن يترك من يتقن هذه الأدوات بعد رحيله.
ترامب كصوت “المجتمع المغلق”
داخل الولايات المتحدة، يشنّ سوروس هجومًا لاذعًا على ترامب، الذي يراه ممثلًا لـ «المجتمع المغلق» والمستند إلى النموذج السلطوي لفلاديمير بوتين. سوروس وقد تمنى ألا يترشح لا ترامب ولا دي سانتيس في انتخابات 2024، لكنه لم يكتفي بالأمنيات: كما في كل مرة، سيدعمها بالأفعال. إنها بمثابة «إشارة سوداء» جديدة من «الحكومة العالمية» ضد الجمهوريين.
سوروس كمهندس عالمي
هكذا يرسم سوروس خريطة العالم، وهو على مشارف الرحيل عن الدنيا. لقد لعب دورًا بارزًا في تفكيك المعسكر الاشتراكي، في «الثورة» المعادية للسوفييت عام 1991، وفي انهيار الاتحاد السوفييتي، وزرع عملائه في حكومات الدول الجديدة التي ظهرت بعده. وفي تسعينيات القرن الماضي، كان يسيطر بشكل شبه كامل على الإصلاحيين الروس وحكومة يلتسين، الذين أقسموا الولاء آنذاك لـ «المجتمع المفتوح». لكن وصول بوتين سحب من بين يديه النصر النهائي. وحين أدرك ذلك، دفع سوروس نحو تحويل أوكرانيا إلى قاعدة عدوانية، نازية الطابع، ومعادية بشراسة لروسيا. ورغم أن ذلك يتناقض جزئيًا مع العقيدة الليبرالية لـ «المجتمع المفتوح»، إلا أنه اعتُبر مقبولًا في معركته ضد «المجتمع المغلق» الأكثر خطورة: الإمبراطورية الروسية.
بالنسبة له، كل شيء يُحسم في أوكرانيا
الاحترار العالمي سيحوّل مناطق باردة كثيرة، وخاصة في شمال شرق أوراسيا، إلى واحات خصبة. أمّا في أمريكا، فستبقى فقط الولايات المؤيدة للجمهوريين، بينما سيغرق الديمقراطيون. وقبل أن يحلّ ذلك، يعلن سُوروس المُحتضر وصيته للغُلوباليست:العولوميين “الآن أو أبداً: إمّا أن ينتصر «المجتمع المفتوح» اليوم في روسيا، والصين، والهند، وتركيا، إلخ، وهو ما سيسمح للنخب العالمية بالنجاة بالانتقال إلى أعماق القارات، أو فسينتهي عهد المواقع المألوفة لـ«المجتمع المفتوح»”.
وهكذا وحده يمكن تفسير هوس الغلوباليستي بتغيّر المناخ. لا، لم يُجنّوا! لا سوروس، ولا شفاب، ولا بايدن! الاحترار العالمي، كما كان “الجنرال شتاء” ذات يوم، أصبح عاملاً فاعلاً في السياسة العالمية، وهو الآن في صفّ العالم متعدّد الأقطاب.
سوروس كشبكة عصبية ونظام تشغيل لروما
في الختام لا ينبغي التعامل مع كلمات جورج سوروس باستخفاف، بالنظر إلى شخصيته وما فعله وما لا يزال قادرًا عليه. سوروس ليس مجرد فرد؛ إنه أشبه بـ«ذكاء اصطناعي» للمدنية الليبرالية الغربية. على هذا «الكود» وهذه «الخوارزمية» بُنيت كل بنية الهيمنة الغربية في القرن الحادي والعشرين. هنا تمتزج الأيديولوجيا بالاقتصاد، والجيوسياسة بالتعليم، والدبلوماسية بالثقافة، وأجهزة الاستخبارات بالصحافة، والطب بالإرهاب، والأسلحة البيولوجية بالأجندة البيئية، والقضايا الجندرية بالصناعة الثقيلة والتجارة العالمية. في شخص سوروس نحن أمام نظام تشغيل كامل لـ«المجتمع المفتوح»، حيث كل خطوة واستراتيجية مُبرمجة سلفاً. تدخل المعطيات الجديدة في منظومة مُحكمة تعمل بدقة كالساعات، بل كحاسوب فائق: شبكة عصبية غلوبالية.
أما «المجتمع المغلق»، أي «نحن»، فعلينا أن نبني نظام التشغيل الخاص بنا، أن نبتكر أكوادنا وخوارزمياتنا. لا يكفي أن نقول لسوروس والغلوباليست: «لا». يجب أن نطرح بديلاً: منظومة متكاملة، متماسكة، مؤسَّسة على موارد وإمكانات. في الحقيقة، هذا «البديل – أو مضاد سوروس» هو الأوراسية ونظرية السياسة الرابعة، أي فلسفة العالم المتعدد الأقطاب والدفاع الكامل عن التقليد المقدّس والقيم الأصيلة. أمام سوروس يجب ألا نبرّر أنفسنا، بل نهاجمه، وعلى كل المستويات وفي كل المجالات – حتى في الإيكولوجيا. فإذا كان سوروس يعتبر الاحترار العالمي تهديداً، فهذا الاحترار بالذات هو حليفنا، تماماً كما كان «الجنرال شتاء» يوماً ما. يجب إدراج الاحترار العالمي – هذا «الكائن الفائق» المجهول – في صفوف شركة «فاغنر»، بل ومنحه وساماً!
اليوم فنحن بوضوح على الطريق الروسي ويجري القتال من أجل عالم متعدد الأقطاب ضد الهيمنة العالمية لـ«المجتمع المفتوح». فروسيا روما، وهم قرطاج.
إذا انتصرت روسيا، سيتراجع «المجتمع المفتوح» وهيمنة الليبرالية العالمية خطوات كبرى إلى الوراء. أما إذا هُزمت، فسينتصر مشروع سوروس نهائيًا، وتُختم رسالته الجيوسياسية.
الجنرال «الاحتباس الحراري”
من المثير أن سوروس، في بداية خطابه ونهايته، عاد إلى موضوع آخر اعتبره تهديدًا لـ «المجتمع المفتوح»: التغير المناخي.
كيف يمكن وضع ذوبان الجليد في القطبين جنبًا إلى جانب مع صراعات جيوسياسية وحروب كبرى؟ يعني ذلك أن ذوبان جليد القطبين، إلى جانب بوتين، شي جين بينغ، أردوغان ومودي، يشكّل تهديدًا مباشرًا لـ «المجتمع المفتوح». المناخ أصبح عنصرًا مدمجًا في الصراع الجيوسياسي العالمي.
للوهلة الأولى يبدو ذلك غير منطقي: كيف يكون الاحتباس الحراري «عدوًا رقم 1» للغربيين، حتى قبل بوتين والجيش الروسي؟
الجواب في الجغرافيا السياسية الكلاسيكية: الصراع بين “حضارات البحر” و”حضارات البر”
مراكز الأطلسية الكبرى دائمًا على السواحل: قرطاج، أثينا، البندقية، أمستردام، لندن، واليوم نيويورك.
حتى في أمريكا، الولايات الزرقاء (المؤيدة للديمقراطيين والليبراليين) متمركزة على الساحلين، بينما الولايات الحمراء (المحافظة والجمهورية) تشكّل قلب الهارتلاند، الذي أوصل ترامب – عدو سوروس الأول – إلى الحكم.
الأمر نفسه يتكرر عالميًا: «المجتمع المفتوح» قائم على حضارة البحر، فيما «المجتمعات المغلقة» الكبرى – الروسية، الصينية، الهندية، وحتى أمريكا الحمراء – تستند إلى حضارة البر.
فإذا ذاب الجليد وارتفع مستوى البحار، ستكون أولى المناطق المهددة بالغرق هي السواحل – أي معاقل التالاسوكراتية الليبرالية، ركيزة «المجتمع السائل» (كما وصفه زيغمونت باومان). أما «المجتمعات المغلقة» القائمة في قلب القارات فستظل صامدة. وهكذا قد يُمحى «المجتمع المفتوح» حرفيًا عن وجه الأرض.