موت القراءة

موت القراءة

إلياس الطريبق

          يقول الطبيب الجراح والسياسي الأمريكي بنجمان بن كرسون: «إن نقطة التحول في حياتي كانت يوم أغلقت أمي التلفاز وأجبرتني على القراءة».

سأنطلق من هذه القولة لأكشف عن معضلة القراءة اليوم وهي تلك المتمثلة في الأجهزة الإلكترونية: التلفاز، الهاتف، الحاسوب، ومواقع التواصل الاجتماعي. وذلك بوصفها العدو الأول للقراءة وللمعرفة المتعمقة.

وقد استمعت إلى شريط فيديو قصير وشاهدت كيف أن مدرسا بإحدى الجامعات الغربية يقدم لطلابه طريقة بسيطة وميسرة تساعدهم في المقام الأول على التحصيل الدراسي وثانيا على فعل المطالعة.

الخطوات:

1) ضبط المنبه لمدة 25 دقيقة متصلة.

2)- استراحة لخمس دقائق. (إجراء مكالمة، الرد على رسائل، الاستماع إلى موسيقى، استرخاء…)

3)- العودة إلى القراءة مدة 25 دقيقة أخرى.

وهكذا…

تجد نفسك قد قرأت ما يقارب ساعة من الزمن، وهي طريقة قد تمتد بك إلى ساعات وساعات من العمل الفعال والقراءة المتواصلة في انضباط كامل واستغراق تام. 

إن فعل القراءة هو أكثر فعل ألزمت به البشرية «اقرأ»، غير أنه ويا للمفارقة؛ هو أكثر الأفعال تخلت عنه البشرية وأهملته وصار بيد قلة من الناس يطلق عليهم قرّاءًا. وهم عادة ما ينظر إليهم نظرة الغرباء، نظرة ملؤها الريبة والشك من طرف المجتمع، السلطة والعامة.

أن نقرأ معناه أن ننفصل عن عالم لننخرط في عالم آخر هو مجازا ذلك العالم الذي نحلم به ونعانق صدره بواسطة الخيال والحيوات التي تخلقها القراءة، وذلك في سبيل كسب معركة الوعي السياسي، الاجتماعي، الاقتصادي والثقافي.

وكما يقول ابن المقفع: «عندما تقرأ كثيرا تساورك الرغبة في أن تكتب».

معناه أن الكتابة فعل لا ينشأ من فراغ، وإنما هو وليد القراءة بل وليد قراءات وقراءات.

وفي هذا الصدد لا بد للمرء من أن يفِرَّ فِرارًا من الكتب الأكثر مبيعا: كتب التنمية الذاتية، وكتب الوجبات الجاهزة، لأنها كتب موَجّهة وسطحية، وعليه بضرورة استبدالها بكتب خالدة.

هنا أتذكر كيف أن أمبرتو إيكو كان يمتلك ديرا في أحد القرى الإيطالية حوله إلى مكتبة شخصبة تضم عشرات آلاف الكتب وقد جمع فيه أحب الكتب إليه. وداخل خزنـة صغيرة كان يخبئ أشد الكتب التي أثرت في حياته بالغ التأثير وكان يغلق عليها بمفاتيح كمن يغلق على كنز ثمين. ومن بين هذه الكتب رواية عوليس لجيمس جويس. كذلك الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا ميتيران الذي أوصى بدفن أربعة كتب إلى جانبه كانت كتبا أثيرة لديه، سألتُ والدي مرارا ما هي هذه الكتب قال لي مثلي مثلك لا زالت أبـحث عنها.

من هذا المنطلق أتساءل كيف للإنسان أن يمر بتجربة القراءة دون أن يكون قد قرأ ولو لمرة في حياته حكايات ألف ليلة وليلة أو الإلياذة لهوميروس أو الكوميديا الإلهية لدانتي، أن يموت ولم يطلع بعد على مسرحيات شكسبير أـو على الإخوة كارامازوف لدوستويفسكي أو ملحمة جلجامش. إنه لغبنٌ ما بعده غبن.

هكذا هي القراءة انتصار للوعي الفكري واحتفاء بقيم الجمال والفنون والإبداع ولكنها تحتاج إلى عقل هادئ صبور متبصر وهو ما افتقدناه اليوم مع الأسف في ظل الفتنة الكبرى التي ابتلينا بها ألا وهي الهاتف.

شارك هذا الموضوع

إلياس الطريبق

شاعر وكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: المحتوى محمي !!